الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
في الإِجَازَاتِ الصَّيفِيَّةِ تَكثُرُ مُنَاسَبَاتُ الزَّوَاجِ، وَتُقَامُ لَهَا الوَلائِمُ وَالمَحَافِلُ، وَيُعزَمُ فِيهَا عَلَى المَرءِ بِالحُضُورِ، فَتَرَى أَحَدَنَا في حَيرَةٍ مِن أَمرِهِ لِكَثرَةِ مَا يَصِلُ إِلَيهِ مِن دَعَوَاتٍ، يُسَائِلُ نَفسَهُ: هَل أَنَا مُلزَمٌ بِإِجَابَةِ كُلِّ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَتَتَبُّعِهَا وَلَو بَعُدت عَلَيَّ وَشَقَّت؟! أَم أَقتَصِرُ عَلَى إِجَابَةِ الأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ وَالزُّمَلاءِ وَالأَصدِقَاءِ؟! أَم أَترُكُهَا كُلَّهَا وَأَستَرِيحَ مِنَ العَنَاءِ؟!
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أَيُّهَا المُسلِمونَ: في الإِجَازَاتِ الصَّيفِيَّةِ تَكثُرُ مُنَاسَبَاتُ الزَّوَاجِ، وَتُقَامُ لَهَا الوَلائِمُ وَالمَحَافِلُ، وَيُعزَمُ فِيهَا عَلَى المَرءِ بِالحُضُورِ، فَتَرَى أَحَدَنَا في حَيرَةٍ مِن أَمرِهِ لِكَثرَةِ مَا يَصِلُ إِلَيهِ مِن دَعَوَاتٍ، يُسَائِلُ نَفسَهُ: هَل أَنَا مُلزَمٌ بِإِجَابَةِ كُلِّ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَتَتَبُّعِهَا وَلَو بَعُدت عَلَيَّ وَشَقَّت؟! أَم أَقتَصِرُ عَلَى إِجَابَةِ الأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ وَالزُّمَلاءِ وَالأَصدِقَاءِ؟! أَم أَترُكُهَا كُلَّهَا وَأَستَرِيحَ مِنَ العَنَاءِ؟!
وَلأَنَّ الوَلِيمَةَ في الزَّوَاجِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَإِجَابَتَهَا وَاجِبَةٌ، كَانَ هَذَا الأَمرُ مِمَّا يَجِبُ عَلَى المُسلِمِ أَن يَقِفَ فِيهِ عَلَى بَعضِ مَا يُهِمُّهُ مِن أَحكَامٍ؛ لِيَسِيرَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ، وَلِيَكُونَ في إِجَابَتِهِ أَوِ امتِنَاعِهِ عَلَى هُدًى، فَيَكسِبَ الأَجرَ وَالثَّوَابَ إِنْ حَضَرَ، وَيَتَخَلَّصَ مِنَ الإِثمِ وَالوِزرِ إِن هُوَ امتَنَعَ؛ عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ أَثَرَ صُفرَةٍ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟!" قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجتُ امرَأَةً عَلَى وَزنِ نَوَاةٍ مِن ذَهَبٍ. قَالَ: "بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَولِمْ وَلَو بِشَاةٍ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَعَن بُرَيدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهُ لا بُدَّ لِلعُرسِ مِن وَلِيمَةٍ".
وَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَقَامَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بَينَ خَيبَرَ وَالمَدِينَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ يُبنَى عَلَيهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوتُ المُسلِمِينَ إِلى وَلِيمَتِهِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِن خُبزٍ وَلا لَحمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلاَّ أَن أَمَرَ بِالأَنطَاعِ فَبُسِطَت، فَأُلقِيَ عَلَيهَا الَتَّمرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمنُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن صَفِيَّةَ بِنتِ شَيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: أَوَلَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى بَعضِ نِسَائِهِ بِمُدَّينِ مِن شَعِيرٍ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
فَهَذِهِ الجُملَةُ مِنَ الأَحَادِيثِ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- تَدُلُّ عَلَى مَشرُوعِيَّةِ إِقَامَةِ الوَلِيمَةِ لِلزَّوَاجِ؛ شُكرًا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِظهَارًا لِلفَرَحِ وَالسُّرُورِ؛ إِذِ الزَّوَاجُ مِن نِعَمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلا- الَّتي يُفرَحُ بها وَتُشكَرُ، بِهِ تَنعَقِدُ الأَوَاصِرُ بَينَ الأُسَرِ، وَتَقوَى العِلاقَاتُ بَينَ البُيُوتِ، وَيَبقَى النَّسلُ البَشَرِيُّ وَيُحفَظُ النَّوعُ الإِنسَانيُّ، وَبِهِ يَقضِي كُلٌّ مِنَ الزَّوجَينِ وَطَرَهُ في الحَلالِ، فَتُغَضُّ الأَبصَارُ وَتُحَصَّنُ الفُرُوجُ، وَتَكثُرُ الأُمَّةُ وَيَقوَى شَأنُهَا وَيَعِزُّ جَانِبُهَا، وَمِن ثَمَّ كَانَ مِن شُكرِ اللهِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ أَن يُولِمَ صَاحِبُهَا وَيَدعُوَ إِلَيهَا.
وَلأَنَّ بَعضَ النَّاسِ قَد يَصعُبُ عَلَيهِ الأَمرُ وَيُكَلِّفُهُ فَوقَ طَاقَتِهِ؛ فَإِنَّ مِن كَرِيمِ الأَخلاقِ وَنَبِيلِ الصِّفَاتِ أَن يُعَانَ المتَزَوِّجُ مِمَّن حَولَهُ مِن ذَوِي القُدرَةِ وَاليَسَارِ، وَأَن يُشَارِكَهُ أَهلُ الخَيرِ وَالسَّعَةِ في إِقَامَةِ وَلِيمَتِهِ، وَهُوَ الأَمرُ الَّذِي كَانَ عَلَيهِ المُسلِمُونَ -وَمَا زَالوا- مُنذُ صَدرِ الإِسلامِ وَإِلى اليَومِ بِحَمدِ اللهِ؛ فَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ في قِصَّةِ زَوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِأُمِّ المؤمِنِينَ صَفِيَّةَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتهَا لَهُ أُمُّ سُلَيمٍ فَأَهدَتهَا لَهُ مِنَ اللَّيلِ، فَأَصبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَرُوسًا فَقَالَ: "مَن كَانَ عِندَهُ شَيءٌ فَليَجِئْ بِهِ". قَالَ: وَبَسَطَ نِطَعًا. قَالَ: فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمنِ، فَحَاسُوا حَيسًا، فَكَانَت وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.
وَأَمَّا إِجَابَةُ الدَّعوَةِ -أَيُّهَا المُسلِمونَ- فَهِيَ وَاجِبَةٌ، جَعَلَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِن حَقِّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ، وَأَمَرَ بِإِجَابَتِهَا -وَلَو صَغُرَت وَقَلَّ فِيهَا الطَّعَامُ-، وَأَجَابَهَا بِنَفسِهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "حَقُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا استَنصَحَكَ فَانصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ".
وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلى الوَلِيمَةِ فَلْيَأتِهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَفي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ: "فَليُجِبْ، عُرسًا كَانَ أَو نَحوَهُ". وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "فُكُّوا العَانِيَ، وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَعُودُوا المَرِيضَ".
وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "وَمَن لم يُجِبِ الدَّعوَةَ فَقَد عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ". وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لَو دُعِيتُ إِلى ذِرَاعٍ أَو كُرَاعٍ لأَجَبتُ، وَلَو أُهدِيَ إِليَّ ذِرَاعٌ أَو كُرَاعٌ لَقَبِلتُ".
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَفي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسنِ خُلُقِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَتَوَاضُعِهِ وَجَبرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى قَبُولِ الهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَن يَدعُو الرَّجُلَ إِلى مَنزِلِهِ وَلَو عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدعُوهُ إِلَيهِ شَيءٌ قَلِيلٌ... وَفِيهِ الحَضُّ عَلَى المُوَاصَلَةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ، وَإِجَابَةِ الدَّعوَةِ لِمَا قَلَّ أَو كَثُرَ، وَقَبُولِ الهَدِيَّةِ كَذَلِكَ.
وَقَالَ ابنُ عَبدِ البَرِّ -رَحمَهُ اللهُ-: لا خِلافَ في وُجُوبِ الإِجَابَةِ إِلى الوَلِيمَةِ لِمَن دُعِيَ إِلَيهَا إِذَا لم يَكُنْ فِيهَا لَهوٌ.
وَقَد جَعَلَ العُلَمَاءُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعوَةِ شُرُوطًا، مِنهَا: أَن يَكُونَ الدَّاعِي مُسلِمًا مكَلَّفًا حُرًّا رَشِيدًا، وَأَن لاَّ يَخُصَّ بِدَعوَتِهِ الأَغنِيَاءَ دُونَ الفُقَرَاءِ، وَأَن لاَّ يَسبِقَهُ غَيرُهُ؛ فَمَن سَبَقَ تَعَيَّنَت إِجَابَتُهُ دُونَ الآخَرِ. وَأَنْ لاَّ يَكُونَ هُنَاكَ مَا يَتَأَذَّى بِحُضُورِهِ مِن مُنكَرٍ وَغَيرِهِ، وَأَنْ لاَّ يَكُونَ لَهُ عُذرٌ مِن بُعدِ طَرِيقٍ وَمَشَقَّةٍ.
وَلَيسَ مِن شَرطِ إِجَابَةِ الدَّعوَةِ أَن يَأكُلَ، بَل يَجِبُ عَلَيهِ الحُضُورُ؛ فَإِن شَاءَ أَكَلَ وَإِن شَاءَ تَرَكَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلى طَعَامٍ فَليُجِبْ، وَإِن شَاءَ طَعِمَ وَإِن شَاءَ تَرَكَ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.
بَل حَتَّى الصَّائِمُ عَلَيهِ إِجَابَةُ الدَّعوَةِ؛ لِحَدِيثِ أَبى سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: صَنَعَتُ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- طَعَامًا فَأَتَاني هُوَ وَأَصحَابُهُ، فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "دَعَاكُم أَخُوكُم وَتَكَلَّفَ لَكُم". ثُمَّ قَالَ لَهُ: "أَفطِرْ وَصُمْ مَكَانَهُ يَومًا إِن شِئتَ". وَهَذَا الأَمرُ مِنهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- لِذَلِكَ الرَّجُلِ بِالإِفطَارِ وَالأَكلِ لَيسَ لِلوُجُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الاستِحبَابِ؛ تَطيِيبًا لِخَاطِرِ الدَّاعِي؛ لِقَولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- في الحَدِيثِ الآخَرِ: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم فَليُجِبْ، فَإِن كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ -أَي فَلْيَدعُ-، وَإِن كَانَ مُفطِرًا فَليَطعَمْ".
وَعَلَى مَن حَضَرَ الدَّعوَةَ أَن يَدعُوَ لِصَاحِبِهَا بِالبَرَكَةِ؛ لِحَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ أَبَاهُ صَنَعَ طَعَامًا لِلنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَدَعَاهُ فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِن طَعَامِهِ قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُم فِيمَا رَزَقتَهُم، وَاغفِرْ لَهُم وَارحَمْهُم". وَفي حَدِيثٍ آخَرَ: "اللَّهُمَّ أَطعِمْ مَن أَطعَمَني وَأَسقِ مَن أَسقَاني".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مِمَّا يَحسُنُ بِصَاحِبِ الوَلِيمَةِ أَن يَدعُوَ لِوَلِيمَتِهِ الصَّالِحِينَ، لِقَولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤمِنًا، وَلا يَأكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ". وَلِقَولِهِ في دُعَائِهِ لِمَن أَطعَمَهُ: "أَفطَرَ عِندَكُمُ الصَّائِمونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبرَارُ، وَصَلَّت عَلَيكُمُ المَلائِكَةُ". وَأَمَّا أَن يُخَصَّ الأَغنِيَاءُ وَالوُجَهَاءُ بِالدَّعوَةِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا نُهِيَ عَنهُ، لِقَولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ يُمنَعُهَا مَن يَأتِيهَا وَيُدعَى إِلَيهَا مَن يَأبَاهَا".
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمونَ- وَاحرِصُوا عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ في كُلِّ شُؤُونِكُمُ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ: (لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ تَقوَاهُ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَومِ لِقَاهُ.
أَيُّهَا المسلِمونَ: رَوَى البُخَارِيُّ وَمسلِمٌ عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: مَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَوَلَمَ عَلَى امرَأَةٍ مِن نِسَائِهِ مَا أَولَمَ عَلَى زَينَبَ، فَإِنَّهُ ذَبَحَ شَاةً. قَالَ: أَطعَمَهُم خُبزًا وَلَحمًا حَتَّى تَرَكُوهُ...
هَل تَأَمَّلتُم هَذَا الخَبَرَ الصَّحِيحَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَفقِهتُمُوهُ؟! إِنَّهُ لَخَبَرٌ عَجَبٌ حَقًّا، رَسُولُ اللهِ محَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ، إِمَامُ المُرسَلِينَ وَقَائِدُ الأُمَّةِ وَخَيرُ الخَلقِ، أَكرَمُ النَّاسِ وَأَجوَدُهُم، يُولِمُ في زَوَاجِهِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ، نَعَم، شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُشبِعُهُم خُبزًا وَلَحمًا وَيَنتَهِي الأَمرُ. وَقَد كَانَ هَذَا هُوَ أَكثَرَ مَا أَولَمَ بِهِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلامِ صَاحِبِهِ وَخَادِمِهِ وَالمُطَّلِعِ عَلَى الدَّقِيقِ وَالجَلِيلِ مِن أَحوَالِهِ.
وَبَعدُ:
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: فَلْنُوَازِنْ بَينَ هَذَا الهَديِ النَّبَوِيِّ الكَرِيمِ، وَبَينَ مَا عَلَيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليَومَ، حَيثُ يُسرِفُونَ في الوَلائِمِ أَيَّمَا إِسرَافٍ، وَيُبَالِغُونَ في الأَطعِمَةِ أَيَّمَا مُبَالَغَةٍ، حَتَّى تَمتَلِئَ الحَاوِيَاتُ مِن مُخَلَّفَاتِ وَلائِمِهِم، بل وَلا تَجِدُ الجَمعِيَّاتُ مَكَانًا تَضَعُ فِيهِ هَذَا الفَائِضَ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ يَرَى أُولَئِكَ المُسرِفُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الكَرَمُ، وَمَن فَعَلَ مِثلَهُ فَبَيَّضَ اللهُ وَجهَهُ، وَمَن لم يَفعَلْ فَحَقُّهُ السَّوَادُ وَالذَّمُّ.
فَوَا عَجَبًا مِنِ انقِلابِ المَفَاهِيمِ وَانتِكَاسِ الفِطَرِ، لا يُرَى الرَّجُلُ كَرِيمًا حَتَّى يَعصِيَ رَبَّهُ وَيَكفُرَ نِعمَةَ خَالِقِهِ وَيُخَالِفَ هَديَ نَبِيِّهِ وَيُسرِفَ وَيُبَاهِيَ!! إِنَّهَا لِجُرأَةٌ عَجِيبَةٌ أَن يَدَّعِيَ أَحَدٌ أَنَّهُ أَكرَمُ مِن رَسُولِ اللهِ، وَمَن ذَا الَّذِي يَزعُمُ أَنَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- أَوَلَمَ بِشَاةٍ بُخلاً مِنهُ أَو تَركًا لِمَا هُوَ أَولى بِهِ؟! حَاشَاهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- أَن يَبخَلَ وَهُوَ الكَرِيمُ الجَوَادُ، الَّذِي لم يَكُن يَومًا مَا بَخِيلاً وَلا مُبَخَّلاً.
وَلَكِنَّنَا حِينَ نَتَأَمَّلُ قَولَ أَنَسٍ: أَطعَمَهُم خُبزًا وَلَحمًا حَتَّى تَرَكُوهُ، وَنُقَارِنُهُ بِأَنَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- لم يَذبَحْ إِلاَّ شَاةً وَاحِدَةً، يَظهَرُ لَنَا بِوُضُوحٍ وَجَلاءٍ أَنَّ مَقصُودَهُ لم يَكُنِ المُفَاخَرَةَ وَلا المُكَاثَرَةَ، وَإِنَّمَا إِطعَامُ صَحَابَتِهِ وَإِشبَاعُهُم شُكَرًا لِرَبِّهِ، فَهَل هَذَا هُوَ حَالُ مَن يَذبَحُونَ النَّعَمَ في هَذِهِ الأَيَّامِ وَيُبَدِّدُونَ النِّعَمَ؟! هَل قَصدُهُم إِشبَاعُ البُطُونِ أَم إِشبَاعُ العُيُونِ؟! إِنَّ مِثلَ هَؤُلاءِ حَرِيُّونَ بِأَلاَّ يُجَابُوا وَلا يُؤكَلَ طَعَامُهُم، بَل حَقُّهُم أَن يُهجَرُوا ويُقَاطَعُوا، حَتَّى يَعُودُوا إِلى رُشدِهِم وَيَحفَظُوا نِعمَةَ رَبِّهِم، جَاءَ في الحَدِيثِ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "المُتَبَارِيَانِ لا يُجَابَانِ، وَلا يُؤكَلُ طَعَامُهُمَا". قَالَ المَنَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "المُتَبَارِيَانِ": أَي المُتَعَارِضَانِ بِفِعلِهِمَا في الطَّعَامِ، لِيُمَيَّزَ أَيُّهُمَا يَغلِبُ، "لا يُجَابَانِ وَلا يُؤكَلُ طَعَامُهُمَا"؛ تَنزِيهًا، فَتُكرَهُ إِجَابَتُهُمَا وَأَكلُهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ المُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ، وَلِهَذَا دُعِيَ بَعضُ العُلَمَاءِ لِوَلِيمَةٍ فَلَم يُجِبْ، فَقِيلَ لَهُ: كَانَ السَّلَفُ يُجِيبُونَ. قَالَ: كَانُوا يُدعَونَ لِلمُؤَاخَاةِ وَالمؤَاسَاةِ، وَأَنتُم تُدعَونَ لِلمُبَاهَاةِ وَالمكَافَأَةِ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، وَلْنَحرِصْ عَلَى السُّنَّةِ وَحِفظِ النِّعمَةِ وَشُكرِ المُنعِمِ –سُبحَانَهُ-، وَلْنَحذَرْ مِنَ الكُفرِ بِأَنعُمِ اللهِ لِئَلاَّ تَنَالَنَا عُقُوبَتُهُ، قَالَ سُبحَانَهُ: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ * وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ * فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ) [النحل: 112-114].