المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أَمَا إنَّ حديثَنَا اليومَ فلن يكونَ عن فضائلِ الصدقةِ وعظيمِ شأنِها، ولا عن أَثَرِها وعميقِ بَرَكتِها، وإنَّما سيكونُ الحديثُ عن أخبارِ خَيرِ جيلٍ مع شانِ الصدقة، مع قَصَصِ الأصحابِ الذين تربوا في مدرسةِ أجودِ الأجودين، فرأوا بذلاً لا مَثيلَ له، وشاهدُوا جوداً كالريحِ المرسلة؛ فسُلَّتْ من نفوسِهم سخائمُ شُحِّها، وانطلقتْ بعد ذلك أيدِيهم في بذلٍ قلَّ نظيرُه في عالمِ الحياة.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ: الْبَذْلُ، وَالْعَطَاءُ، وَالْجُودُ، وَالسَّخَاءُ، صِفَاتٌ يُمْتَدَحُ بِهَا كَرَائِمُ الرِّجَالِ، قَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا تُفَاخِرُ فِيهَا، وَتُثْنِي عَلَيْهَا، وَتَتَنَافَسُ فِي التَّحَلِّي بِهَا.
وَمِنَ الصِّفَاتِ الْمَشْهُودَةِ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ مَبْعَثِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.
ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَحَضَّ عَلَى النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَأَثْنَى عَلَيْهَا، وَوَعَدَ أَهْلَهَا الْأَجْرَ الْمُضَاعَفَ، وَالْجَزَاءَ الْمُخْلَفَ.
أَمَا إِنَّ حَدِيثَنَا الْيَوْمَ فَلَنْ يَكُونَ عَنْ فَضَائِلِ الصَّدَقَةِ وَعَظِيمِ شَأْنِهَا، وَلَا عَنْ أَثَرِهَا، وَعَمِيقِ بَرَكَتِهَا، وَإِنَّمَا سَيَكُونُ الْحَدِيثُ عَنْ أَخْبَارِ خَيْرِ جِيلٍ مَعَ شَأْنِ الصَّدَقَةِ، مَعَ قَصَصِ الْأَصْحَابِ الَّذِينَ تَرَبَّوْا فِي مَدْرَسَةِ أَجْوَدِ الْأَجْوَدِينَ، فَرَأَوْا بَذْلًا لَا مَثِيلَ لَهُ، وَشَاهَدُوا جُودًا كَالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ؛ فَسُلَّتْ مِنْ نُفُوسِهِمْ سَخَائِمُ شُحِّهَا، وَانْطَلَقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْدِيهِمْ فِي بَذْلٍ قَلَّ نَظِيرُهُ فِي عَالَمِ الْحَيَاةِ.
فَإِلَى سَاحَةِ الْمُطَّوِّعِينَ فِي الصَّدَقَاتِ نَقْتَرِبُ، وَإِلَى مَشْهَدِ مَنْ كَانُوا يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ نُحَلِّقُ، فَلَعَلَّ النُّفُوسَ تَتَّعِظُ، وَتَتَيَقَّنُ حَقَائِقَ قُرْآنِيَّةً رَبَّانِيَّةً طَالَمَا غَفَلْنَا عَنْهَا، تَقُولُ لَنَا صَرَاحَةً: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39] وَتُخَاطِبُنَا بِوُضُوحٍ: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 272]، وَتَعِدُنَا وَعْدًا مُؤَكَّدًا: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة: 245].
وَمَعَ خَبَرِ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي النَّفَقَةِ، وَمَا أَجْمَلَ أَخْبَارَ الصِّدِّيقِ! إِذَا ذُكِرَ الْجُودُ تَلَأْلَأَتْ قَسَامَتُهُ، وَإِذَا نَزَلَتِ الْجَوَائِحُ تَرَفْرَفَتْ رَايَتُهُ، وَإِذَا حَلَّتِ الْمَسْغَبَةُ جَمُلَتْ أُعْطِيَتُهُ.
فَقُولُوا لِي بِرَبِّكُمْ: هَلْ عَرَفَ التَّارِيخُ جُودًا مَالِيًّا فَوْقَ أَنْ يَجُودَ الرَّجُلُ بِكُلِّ مَا يَمْلِكُ؟! نَعَمْ، تَقَّلَدَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا الْجُودَ لَيْسَ مَرَّةً، بَلْ مَرَّاتٍ فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ يُنْفِقُ كُلَّ مَالِهِ، وَيُصَفِّرُ جَمِيعَ أَرْصِدَتِهِ، وَلِسَانُ حَالِهِ: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [القصص: 60].
وَاسْمَعْ مَعِي إِلَى هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي قَصَّهُ لَنَا عُمَرُ، عُمَرُ الَّذِي فَكَّرَ وَحَاوَلَ أَنْ يُنَافِسَ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنَّهُ عَادَ وَعَلِمَ أَنَّ هَذَا رَجُلٌ فَارِسُ مَيْدَانِهِ.
يَقُولُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا!.
وَإِنْ أَعْجَبَتْكَ قِصَّةُ عُمَرَ، فَلَا تَظُنَّ أَنَّ هَذِهِ فَرِيدَةٌ فِي حَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبُو بَكْرٍ الَّذِي أَنْفَقَ كُلَّ مَالِهِ، مَا تَحَدَّثَ بِحَالِهِ إِلَّا حِينَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَا تَحَدَّثَ بِهَا.
بَلْ لَعَلَّ أَبَا بَكْرٍ أَنْفَقَ مَالَهُ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا فَاطِرُ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ!
وَاسْمَعْ إِلَى خَبَرٍ تَقُصُّهُ لَنَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَتَقُولُ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُهَاجِرًا، خَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَاحْتَمَلَ مَالَهُ كُلَّهُ، خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ! إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا.
قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَتَرَكْتُهَا فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةِ الْبَيْتِ كَانَ أَبِي يَضَعُ فِيهَا مَالَهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ، قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ! إِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا لَكُمْ بَلَاغٌ.
قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَمَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَاللَّهِ! وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.
نَعَمْ مَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ لِيَبْلُغَ جُودُهُ مَا بَلَغَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ، وَيَقِينًا بِمَوْعُودِ اللَّهِ، مَعَ شَرَفِ نَفْسِهِ، وَنُبْلِ مَعْدِنِهِ، وَقُوَّةِ عَزِيمَتِهِ.
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ | وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ |
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا | وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ |
وَمِنْ صَفْحَةِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى سَاحَةِ عُمَرَ، فَإِذَا نَحْنُ أَمَامَ قَامَةٍ فِي الْبَذْلِ، وَالْإِيثَارِ، وَالتَّقَلُّلِ.
عُمَرُ الَّذِي كَانَ يُنْفِقُ شَطْرَ مَالِهِ مَرَّاتٍ، عُمَرُ الَّذِي أَوْقَفَ نَفْسَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَعَفَّ عَنِ الْمَالِ، وَآثَرَ بِهِ الْمُحْتَاجِينَ، عُمَرُ الَّذِي سَمِعَتْ رَعِيَّتُهُ قَرْقَرَةَ بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ عَامَ الرَّمَادَةِ، فَجَعَلَ يَنْقُرُهُ بِأُصْبُعِهِ وَهُوَ يَقُولُ: قَرْقِرْ أَوْ لَا تُقَرْقِرْ، وَاللَّهِ لَا تَشْبَعُ حَتَّى يَشْبَعَ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ!
هَذَا أَعْرَابِيٌّ يَقِفُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَعَلَ يُخَاطِبُهُ:
يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّهْ | اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ |
أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ!
فَقَالَ عُمَرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، يَكُونُ مَاذَا يَا أَعْرَابِيُّ؟ قَالَ:
أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّهْ
قَالَ: فَإِنْ مَضَيْتَ، يَكُونُ مَاذَا يَا أَعْرَابِيُّ؟ قَالَ:
وَاللَّهِ عَنْ حَالِي لَتُسْأَلَنَّهْ | يَوْمَ تَكُونُ الْأُعْطِيَاتُ مِنَّهْ |
وَالْوَاقِفُ الْمَسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ | إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ |
فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ بِدُمُوعِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا، لَا لِشِعْرِهِ، وَلَكِنْ:
لِيَوْمٍ تَكُونُ الْأُعْطِيَاتُ مِنَّهْ | وَالْوَاقِفُ الْمَسْؤُولُ بَيْنَهُنَّهْ |
إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا جَنَّهْ
يَخْرُجُ عُمَرُ يَوْمًا إِلَى السُّوقِ، فَتَلْحَقُهُ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا، وَاللَّهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا، وَلَا لَهُمْ زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ، وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ الْغِفَارِيِّ، وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَانْصَرَفَ إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ كَانَ مَرْبُوطًا فِي دَارِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلَأَهُمَا طَعَامًا، وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا، ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَادِيهِ؛ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ.
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَكْثَرْتَ لَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا فَافْتَتَحَاهُ، ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا فِيهِ.
وَبَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا نَفِيسَةً، فَمَا تَرَاهُ صَنَعَ بِهَا؟ هَلِ اسْتَثْمَرَهَا؟ هَلْ زَرَعَهَا؟ كَلَّا! كَلَّا! لَقَدْ طَلَبَ الْبِرَّ بِهَا.
أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ؛ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا" فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُورَثُ. وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ.
وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، كَانَ آيَةً فِي الْعَطَاءِ، وَنُمُوذَجًا لِلتَّاجِرِ الْبَاذِلِ، حَضَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّحَابَةَ لِعَمَلٍ نَافِعٍ مُتَعَدٍّ فَقَالَ: "مَنْ حَفَرَ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ" فَكَانَ لَهَا عُثْمَانُ.
وَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا فَقَالَ: "مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ" فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ عُثْمَانَ جَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَفَرَّغَهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ! مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ!" قَالَهَا مِرَارًا.
وَمَعَ جُودِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَعَ جُودِ الْقَائِلِ:
إِذَا جَادَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا | عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ |
فَلَا الْجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ | وَلَا الْبُخْلُ يُبْقِيهَا إِذَا هِيَ تَذْهَبُ |
وَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، رَفَعْتُهَا إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرْفَعَهَا إِلَيْكَ، فَإِنْ أَنْتَ قَضَيْتَهَا حَمِدْتُ اللَّهَ -تَعَالَى- وَشَكَرْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَقْضِهَا حَمِدْتُ اللَّهَ -تَعَالَى- وَعَذَرْتُكَ.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: خُطَّ حَاجَتَكَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ فِي وَجْهِكَ، فَكَتَبَ الْأَعْرَابِيُّ عَلَى الْأَرْضِ: إِنِّي فَقِيرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِخَادِمِهِ: ادْفَعْ إِلَيْهِ حُلَّتِي الْفُلَانِيَّةَ، فَلَمَّا أَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ أَنْشَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ:
كَسَوْتَنِي حُلَّةً تَبْلَى مَحَاسِنُهَا
إِنَّ الثَّنَاءَ لَيُحْيِي ذِكْرَ صَاحِبِهِ
لَا تَزْهَدِ الدَّهْرَ فِي عُرْفٍ بَدَأْتَ بِهِ
فَأَمَرَ عَلِيٌّ بِإِعْطَائِهِ خَمْسِينَ دِينَارًا، وَقَالَ: أَمَّا الْحُلَّةُ فَلِمَسْأَلَتِكَ، وَأَمَّا الدَّنَانِيرُ فَلِأَدَبِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ".
وَهَذِهِ أُمُّنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ، كَانَتَا مِنْ أَهْلِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَلَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ، فَهُمَا ابْنَتَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ عَنْهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَتَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، وَجُودُهُمَا مُخْتَلِفٌ؛ أَمَّا عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَجْمَعُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ حَتَّى إِذَا كَانَ اجْتَمَعَ عِنْدَهَا قَسَّمَتْ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ فَكَانَتْ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا لِغَدٍ.
أَمَّا أَبُو طَلْحَةَ فَقَدِ اسْتَوْقَفَهُ مَلِيًّا قَوْلُ رَبِّهِ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] وَكَانَتْ عِنْدَهُ عَيْنٌ تَتَدَفَّقُ عُذُوبَةً، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ! وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ".
وَحِينَ نَزَلَ قَوْلُ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [البقرة: 245] تَعَجَّبَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يَطْلُبُ اللَّهُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ الْقَرْضَ مِنْ عِبَادِهِ؟ فَمَشَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنَا يَدَكَ، قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَحَائِطُهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ.
فَجَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا، فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، اخْرُجِي فَقَدْ أَقَرَضْتُهُ رَبِّي.
وَسَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو النَّاسَ لِلصَّدَقَةِ، لِكَيْ يُجَهِّزَ سَرِيَّةً، فَذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ مُسْرِعًا، ثُمَّ عَادَ، وَنَثَرَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، هِيَ نِصْفُ مَالِهِ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَالِهِ.
وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، حِينَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمَالِ أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ، أَنْفَقَ ابْنُ عَوْفٍ إِنْفَاقَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدَ أَنْ رَأَى كَثْرَةَ صَدَقَتِهِ: "إِنِّي لَا أَرَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَّا مُرْتَكِبًا إِثْمًا، فَمَا تَرَكَ لِأَهْلِهِ شَيْئًا!".
تِلْكَ عِبَادَ اللَّهِ طَرَفٌ مِنْ سِيرَةِ الْقَوْمِ مَعَ الصَّدَقَةِ، وَشَيْءٌ مِنْ جُودِهِمْ وَسَخَائِهِمْ.
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نُشْهِدُكَ أَنَّا نُحِبُّ صَحْبَ نَبِيِّكَ، فَاجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ وَمُسْتَقَرِّ رَحْمَتِكَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، هَذِهِ أَخْبَارُ سَلَفِكُمْ مَعَ النَّفَقَةِ. فَمَا خَبَرُنَا نَحْنُ؟! مَا حَالُنَا مَعَ الْجُودِ فِي شَهْرِ الْجُودِ؟! مَا حَالُنَا مَعَ الرَّحْمَةِ وَنَحْنُ أَتْبَاعُ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، وَالْمَأْمُورُونَ بِالتَّوَاصِي بِهَا: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 17].
هَلْ تَحَسَّسْنَا أَصْحَابَ الْمَوَاجِعِ وَأَهْلَ التَّعَفُّفِ الَّذِينَ لَفَّهُمُ الْحَيَاءُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؟!
لِنَفْتَحِ الْأَعْيُنَ عَلَى وَاقِعِنَا بِصَرَاحَةٍ وَوُضُوحٍ، بَعِيدًا عَنِ التَّحَرُّجِ عَنِ الْحَقَائِقِ؛ لِنَرَى أَنَّ هُنَاكَ بَيْنَنَا حَالَاتٍ مِنَ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ الْمُدْقِعْ عَلَى أُسَرٍ تُكَافِحُ لِتَتَعَايَشَ مَعَ صَدَمَاتِ الْغَلَاءِ.
سَلْ نَفْسَكَ أَخِي الْكَرِيمَ، وَأَنْتَ الْمُوَظَّفُ الَّذِي تَتَقَاضَى مُرَتَّبًا مُحْتَرَمًا، فَتَلْتَهِمُهُ مُتَطَلَّبَاتُ الْحَيَاةِ فَلَا تُبْقِي مِنْهُ وَلَا تَذَرُ. فَمَا حَالُ مَنْ يُوَاجِهُ مُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ بِلَا هَذَا الْمَوْرِدِ؟! فَمَنْ لَهُمْ بَعْدَ اللَّهِ إِلَّا أَهْلُ الْقُلُوبِ الرَّحِيمَةِ؟!
فَيَا أَهْلَ الْجُودِ تَلَمَّسُوا الْأَرَامِلَ وَالْمُعْدَمِينَ، وَتَفَقَّدُوا الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ، وَلَا تَنْتَظِرُوا مَسْأَلَةَ السَّائِلِينَ، بَلْ بَادِرُوا بِالْبَحْثِ عَنْهُمْ، فَأَنْتُمْ عَلَى خَيْرٍ وَإِلَى خَيْرٍ، فَالصَّدَقَاتُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَاتِ، وَالصَّدَقَةُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّاتِ، وَيَعْظُمُ أَجْرُ الصَّدَقَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَشِدَّةِ النَّازِلَةِ وَالْخَمَاصَةِ.
فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، يَا مَنْ تَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَالْجِنَانَ، هَا هِيَ نَازِلَةُ الشَّامِ تُنَادِيكُمْ وَتَسْتَنْصِرُكُمْ، فَانْفِرُوا سِرَاعًا لِنَجْدَةِ مَنِ اسْتَجَارَ، فَلَقَدِ اسْتَغَاثَ بِكُمْ أَهْلُكُمْ فِي الشَّامِ بِالْمَالِ حَتَّى بُحَّتْ حَنَاجِرُهُمْ، فَأَيْنَ أَيْنَ مَوْقِعُكَ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ مِنْ هَذِهِ النُّصْرَةِ؟!
أَيْنَ نُصْرَتُكَ لِإِخْوَانِكَ الَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَالَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَاقُوا مِنَ الْبَلَاءِ مَا تَطِيشُ لَهُ الْعُقُولُ؟!
إِنْ لَمْ تَتَحَرَّكِ الْقُلُوبُ وَالْأَيَادِي لِهَذِهِ النُّصْرَةِ، وَإِلَّا فَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُمْسِكٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَرِهَ نَفَقَتَهُ وَصَدَقَتَهُ فَثَبَّطَهُ عَنَهَا: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: 46].
فَكُونُوا -يَا رَعَاكُمُ اللَّهُ- مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ فِي شَهْرِ الْخَيْرِ، فَالصَّدَقَةُ مِنْكُمْ وَإِلَيْكُمْ، وَالصَّدَقَةُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَارٌّ، تُنْجِي صَاحِبَهَا مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ عِبَادِهِ الْأَبْرَارِ: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان: 8 - 9].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...