العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
يا أهلَ الإيمانِ: إن الحربَ الإعلاميةَ قد يكونُ أثرُها أشدُ من الحربِ بالسلاحِ؛ لأنها تُغيرُ الأفكارَ والقناعاتِ، وتُثيرُ الفتنَ والشُبهاتِ، فكم قلَّبتْ من حقائقَ، وكم زيّفتْ من وقائعَ؛ حتى كأننا نرى فيها مصداقَ قولِه عليه الصلاة والسلام: "إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ". ويكثرُ في أزمنةِ الفتنِ تحريفُ الأخبارِ، والطعنُ في الأخيارِ، والحَمَلاتُ الآثمةُ من ....
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
هذه الكلماتُ كانت سبباً لإسلامِ رجلٍ؛ كما في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ -أي الجنِ-، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: "لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ" فَلَقِيَهُ فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ؟"
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.. أَمَّا بَعْدُ".
فَقَالَ: "أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ" فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
فَقَالَ: "لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ قَامُوسَ الْبَحْرِ -أي وَسَطَهُ ولُجَّتَهُ- هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَبَايَعَهُ".
عبادَ اللهِ: إن الحروبَ الإعلاميةَ كانت ولا زالتْ من أعظمِ الوسائلِ المُستخدمةِ في تشويهِ الإسلامِ والمسلمينَ.
ولما كانت وسائلُ الإعلامِ في ذلك الزمانِ هو الناسُ وما يتناقلونَه من الأخبارِ، فلم يكنْ عندَ ضمادٍ وهو الرجلُ العاقلُ شكٌ في جنونِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم- بسببِ ما سمعَه من سفهاءِ مكةَ، حتى أنه أشفقَ عليه وجاءَ ليرقيَّه مع أنه لم يرَه من قبلُ، ولم يسمعْ منه شيئاً، فهل رأيتُم تأثيرَ الإعلامِ على العقولِ؟
ولقد تعددتْ وسائلُ كفارِ قريشٍ في تشويهِ صورةِ النبيِ -عليه الصلاة والسلام-، حتى لا ينتشرَ الخيرُ الذي جاءَ به؛ فمنهم من قالَ: إنه كاهنٌ، ومنهم من قالَ: إنه مجنونٌ، ومنهم من قالَ: إنه شاعرٌ؛ كما قالَ تعالى : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور: 29].
ومنهم من قالَ: إنه ساحرٌ، ومنهم من قالَ: إنه كذّابٌ: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص: 4].
وحيثُ أن هذا الخلافَ قد يُضعفُ أثرَ هذا التشويهِ، كان لا بُدَّ من عقدِ مؤتمرٍ إعلاميٍ لتوحيدِ التُهمةِ حتى يُصدِّقَها الناسُ؛ فعَنْ اِبْن عَبَّاس -رضي الله عنهما-: أَنَّ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة اِجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ -أي الحجُ-، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَيُكَذِّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدَّ قَوْلُكُمْ بَعْضُه بَعْضًا، فَقَالُوا: وَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُول بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ قُولُوا لِأَسْمَعَ، قَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَالُوا: فَمَاذَا نَقُولُ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَة، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنْ تَقُولُوا هُوَ سَاحِرٌ، فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ.
يا أهلَ الإيمانِ: إن الحربَ الإعلاميةَ قد يكونُ أثرُها أشدُ من الحربِ بالسلاحِ؛ لأنها تُغيرُ الأفكارَ والقناعاتِ، وتُثيرُ الفتنَ والشُبهاتِ، فكم قلَّبتْ من حقائقَ، وكم زيّفتْ من وقائعَ؛ حتى كأننا نرى فيها مصداقَ قولِه عليه الصلاة والسلام: "إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ".
ويكثرُ في أزمنةِ الفتنِ تحريفُ الأخبارِ، والطعنُ في الأخيارِ، والحَمَلاتُ الآثمةُ من المنافقينَ والكفارِ؛ كما قالَ تعالى: (لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة: 48].
بل قد يتعدى الأمرُ إلى أكبرِ من ذلك، وهو أن يتظاهرَ البعضُ بالإسلامِ والبعضُ بالاستقامةِ والصلاحِ، ثُم يرتّدُ الكفارُ، وينتكسُ المنافقونَ؛ ليُشككوا الناسَ في الدينِ، وأنه لولا خللٌ فيه لما رجعَ هؤلاءِ المُثَقفونَ والمفكرونَ، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72].
فلا تتخيلُ بعدَ ذلك تلك الهالةُ الإعلاميةُ، من لقاءاتٍ فضائيةٍ، ومقابلاتٍ صحفيةٍ، في الانتقاداتِ والعيوبِ التي يزعمونَ أنهم نقموها على الدينِ وأهلِه.
ويبقى البعضُ في صفوفِ الصالحينَ ليطعنَ فيهم، ويعيبَ عليهم، فيعتقدُ من يسمعَه أنه أعلمُ الناسِ بهم، وأنه المطلّعُ على خفاياهم، قالَ رجُلٌ في غَزْوَةِ تَبوك: مَا رَأَيْنا مِثْلَ قُرّائِنا هَؤلاءِ أرغَبَ بُطوناً، ولا أَكْذَبَ ألَسُناً، ولا أجْبَنَ عندَ اللِّقاءِ -يَعني الرسولَ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأَصْحَابَهُ القُرَّاءَ-، فقالَ له عَوْفُ بنُ مالكٍ: كَذَبْتَ ولَكِنَّكَ مُنَافِقٌ، لأُخْبِرَنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، فَذَهبَ عوْفٌ إلى رَسُولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لِيُخْبِرَهُ فَوجَدَ القُرْآنَ قَدْ سَبَقَهُ: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65 - 66].
فَجَاءَ ذَلَكَ الرَّجُلُ إِلى رَسُولِ اللهِ -صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ ناقَتَهُ، فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّما كُنَّا نَخُوضُ ونَتَحَدَّثُ حَدِيثَ الرَّكْبِ، نَقْطَعُ بِهِ عَناءَ الطَّرِيقِ، قالَ ابْنُ عُمَر: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ متعلِّقاً بِنِسْعَةِ ناقَةِ رَسولِ اللهِ –صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- أي زمامِها- وإِنَّ الحِجَارةَ تَنْكُبُ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّما كُنّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ، فيقولُ لَهُ رسولُ الله -ِصلّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: (أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتُمْ بعْدَ إيمَانِكُم)[التوبة: 65 - 66] ما يَلْتَفِتُ إِليْهِ وما يَزيدُهُ عَلَيْهِ.
ومما يُلاحظُ في وسائلِ الإعلامِ وله الأثرُ الكبيرُ على تغييرِ وِجهةِ نظرِ المجتمعاتِ: هو إظهارُ بعضِ الصورةِ، وذكرُ جُزءٍ من الخبرِ، مما يفهمُه الناسُ على الجانبِ السيئ؛ كما حدثَ في زمنِ الخليفةِ الراشدِ عثمانَ بنِ عفانَ -رضي الله عنه-، جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنْ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.
هذا هو الجانبُ السيئ الذي نشرَه المنافقونَ لتشويهِ صورةِ الخليفةِ، ويُثيروا الناسَ عليه- فما هو الجزءُ الثاني من الصورةِ؟ وما هو الجانبُ الآخرُ من الخبرِ؟
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ) [آل عمران: 155].
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ.
وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ الْيُمْنَى هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ.
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، ونفعنا بهدي سيدِ المرسلينَ، وبقولِه القويمِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ القائلِ: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ: 48-49].
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، دخلَ مكةَ وحولَ الكعبةِ ثلاثُ مائةٍ وستونَ صنماً، فجعلَ يطعنُها وهو يقولُ: (جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)[الإسراء: 81].
اللهم صلِ على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعينَ.
أما بعدُ:
فلقد أدركَ فرعونُ أهميةَ الإعلامِ في صدِ الناسِ عن دعوةِ موسى -عليه الصلاة والسلام-، فبدأ بتصريحٍ كاذبٍ للملأِ يتهمُ فيه موسى باتهاماتٍ باطلةٍ، قالَ: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26].
ثُم أرادَ أن يُثبتَ للناسِ زيفَ دعوةِ موسى -عليه السلام- بما اعتادَ من استخدامِ السحرةِ وسحرِ أعينِ الناسِ عن الحقيقةِ، فقالَ لموسى: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى) [طـه: 58].
فأجابَه موسى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى* فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) [طـه: 59- 60].
ولكم أن تتخيلوا أيُ كيدٍ كانَ تحتَ يدِ فرعونَ، فجمعَه كلَه بما فيهم السحرةُ لأجلِ القضاءِ على موسى ودعوتِه على مرأى ومسمعٍ من الناسِ الذين اجتمعوا ليروا هذا البثَ المباشرَ في الصراعِ بين الخيرِ والشرِ، وبينَ الحقِ والباطلِ؛ فما الذي حصلَ؟
(وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) فاحتفى فرعونُ بالسحرةِ وأكرمَهم: (قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)[الأعراف: 113- 114].
وعندما اجتمعَ الناسُ: (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 115- 116].
وهكذا بعضُ وسائلِ الإعلامِ في هذا الزمانِ يسحرونَ أعينَ الناسِ بما يبثونَه من معلوماتٍ مكذوبةٍ، وحقائقَ مقلوبةٍ، وصورٍ مقطوعةٍ، ومقاطعَ مغلوطةٍ، لتشويِه صورةِ الحقِ وأهلِه، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) [طـه: 69].
فالحذرَ الحذرَ...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
اللهم أرِنا الحقَّ حقًا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا الباطل َباطلاً وارزقنا اجتنابَه.
اللهم جنبنا الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ.
اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينًا يا رحمنُ.
اللهم فكّ أسرَ المأسورينَ مِن المسلمينَ، نفّس كُروبَهم، ثبّت قُلوبَهم، فرّج همومَهم، ارحم غربتَهم، آنس وحشتَهم، اللهم لا تجعل لكافرٍ على مؤمنٍ سبيلاً.
اللهم اجعل بلدَنا هذا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً، وسائرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهم ارفع عنّا الغلاءَ والبلاءَ والوباءَ، والزلازلَ والمحن، وسائرَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النارِ.