العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عصام حسنين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
فيا عباد الله: لابد وأن نثبت في الميدان، ميدان الابتلاءات، طيلة حياتِك ستبتلى، طيلة حياتك ستتعرض للفتن والمحن والابتلاءات بعضها أشد من بعض، على حسب إيمانك: "أشد الناس بلاءا الأنبياء والصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء" زيد له في البلاء على...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
وبعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
فيا عباد الله: عن معاوية -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة" [رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الألباني -رحمهم الله جميعا-].
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة" هذا حديث عظيم جدير بالاهتمام والاعتبار: أن نتفكر فيه، وأن نعتبر.
"لم يبق من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة" أسلوب قصر بالنفي والاستثناء: "لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة". وعمر -رضي الله عنه- كان هو الباب في وجه الفتن، فلما كسر الباب بقتله رضي الله عنه فتحت الفتن على الأمة، ولا تزال، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
"لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة" كما قال أنس -رضي الله عنه-: "لا يأتي زمان إلا والذي يأتي بعده شر منه سمعته من نبيكم -صلى الله عليه وسلم-".
فإذا كان الأمر كذلك، فلا بد وأن يعد المؤمن عدته، الفترة التي يحياها في هذه الدنيا؛ لأن هذه الفترة التي ستحياها مليئة بأنواع الابتلاءات والمحن والفتن؛ كما قال صلوات الله وسلامه عليه: "لم يبق من الدنيا إلا بلاء".
التعرف على طبيعة الطريق أمر مهم لكل مسلم أن يتعرف على طبيعة الطريق، طريق كله فتن، طريق كله محن وابتلاءات، اختبار وامتحانٌ من الله -عزّ وجل-؛ ليعلم الصادق في إيمانه من الكاذب في إيمانه وادعائه، قال الله -عز وجل- : (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 1-2].
وهم لا يبتلون ولا يتعرضون لأنواع الفتن، كلا: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3].
علما يظهره الله -عزّ وجل- في خلق، وفي عباده، أنّ الله -سبحانه وتعالى- لا يحاسب العبد على ما قدره عليه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وإنما يحاسبهم على ما قدمت به أعمالهم، وما ظهر فيه علمه سبحانه وتعالى: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 3].
إذاً لابد من امتحان، ولابد من اختبار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة".
وهذا الامتحان إن فاز فيه الإنسان وأفلح فاز بالدرجات العلا من الجنة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ) هكذا بدون ثمن، بدون امتحانات وابتلاءات، لا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142] ويعلم الصابرين على ماذا؟
الصابرين على طاعة الله، الصابرين على أقدار الله المؤلمة، الصابرين عن معصية الله.
هذه طبيعة الطريق -يا عباد الله– ابتلاء، امتحان، وفتن سيتعرض لها الناس، قال صلوات الله وسلامه عليه: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً" تذهب فتنة تتبعها أخرى، وهكذا.
ولذلك شرع للمسلم قبل أن يُسلّم من صلاته أن يتعوذ: "من أربع". وفي رواية: "من خمس". "أعوذ بالله من فتنة المحيا وفتنة الممات".
فتنة المحيا: أي ما يتعرض له الإنسان من فتنة في حياته، وفتنة الممات: أي ما يتعرض له الإنسان من فتنة عند الموت، ملك الموت يجلس عند رأسه، والملائكة تجلس منه مد البصر، وروحه يخرجها ملك الموت.
وتستمر الفتن بالإنسان، فهناك فتن السراء: امتحان على الشكر، ليرى الله -عزّ وجل- هل العبد يشكره على ذلك أم لا؟ وهناك فتن الضراء؛ ليرى الله -عز وجل- عبده ماذا يفعل هل سيصبر ويرضى، ويتضرع ويتذلل لربه -عز وجل- أم أنه سيتسخط ويشتكي ربه لمن لا يملك له رحمة ولا شفقة؟
إنما: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35] أي لأجل الفتنة، وإلينا ترجعون.
"تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، وأي قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، حتى تَعود القلوب على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض".
"قلبٌ أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة" كالصخرةِ الملساء البيضاء ثابتا كثبوت الصخرة، فهو قلب مشرق منير بالإيمان كلون هذه الصخرة البيضاء، "على أبيض مثلُ الصفا لا تضره فتنة" تصور، "لا تضره فتنة" تمر به الفتن سالمة، "ما دامت السماوات" أي ما بقيت السماوات والأرض.
"وقلب أسود مربادا" شديد السواد، مثل السواد "كالكوز مجخيا" أي كالكوز المقلوب "لا يعرف معروفا، ولا يُنكر منكرا، إلا ما أُشرب من هواه".
المعروف عنده مقياسه الهوى، المنكر عنده مقياسه الهوى، فما قال به هواه معروف فهو معروف، وإذا قال هواه عن المنكر فهو منكر: "لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً إلا ما أشرب من هواه" عنده!.
فيا عباد الله: لابد وأن نثبت في الميدان، ميدان الابتلاءات، طيلة حياتِك ستبتلى، طيلة حياتك ستتعرض للفتن والمحن والابتلاءات بعضها أشد من بعض، على حسب إيمانك: "أشد الناس بلاءا الأنبياء والصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء" زيد له في البلاء على حسب إيمانك، لابد من الابتلاء إذاً، لابد من بذل الأسباب، وإعداد العُدة؛ ومنها:
العُدةُ الأُولى: هي الاعتصام: وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه اعتصامين: اعتصاما به سبحانه، واعتصاماً بدينه، ذكرهما الله -سبحانه وتعالى- في آياتٍ من سورة "آل عمران": (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[آل عمران : 100- 101].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[آل عمران: 102- 103].
الاعتصام الأول هو: الاعتصام بالله، والاعتصام لغة: معناه: الاستمساك بالشيء، إذا علمت فيه نجاتك، فأنك تستمسك به، تتشبث به، تعتصم به؛ لأن نجاتك في ذلك.
والاعتصام بالله -سبحانه- هو: اللجوء إليه سبحانه، والاعتصام به والاحتماء به، والاستعانة به، والتوكل إليه، وتفويض الأمور إليه، والثقة به سبحانه وتعالى، واللجوء إليه، والتضرع إليه، والتذلل بين يديه؛ هذا هو الاعتصام بالله.
إن فعلتَ ذلك كان الله -عزّ وجل- معك بمعيتهِ الخاصة التي لازمها النصرة، والتأييدُ، والتسديد، والتوفيق، والرعاية، والحفظ، بل والظهور على العدو، ويحفظ الله عليك دينك، ويحفظ الله -عز وجل- عليك نفسك، حتى من عدوك، وحتى من الحيوانات المؤذية بالطبع؛ كما قال صلوات الله وسلامه عليه: "احفظ الله يحفظك" احفظ الله في أمره ونهيه؛ يحفظك في كل شيء، ومن كل شيء، ومن كل خوف تخافه يحفظك سبحانه وتعالى؛ فعند ذلك يدفع الله عنك: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)[الحـج: 38].
فيدفع الله عنك الشبهات والشهوات، والفتن بأنواعها ما ظهر منها وما بطن، ويدفع الله -عزّ وجل- عنك شر العدو الظاهر والباطن، ويدفع الله -عزّ وجل- عنك أسباب الشر، قبل أن تقع.
هذا إذا كان العبدُ بهذه الصفة العظيمة، وهذا لن يكون إلا بأعمالٍ صالحة، وبعلاقة طيبة مع الله -عزّ وجل-، والأخذ بأسباب الإيمان؛ فعندئذٍ يعلم العبد بأنه لا عاصم له إلا الله -عزّ وجل-، ولا ملجأ له إلا إليه سبحانه؛ فيلجأ إلى الله، وينزل به جميع حاجياته، فعند ذلك السرور كلّه، والسعادة كلّها، وراحة البال، وانشراح الصدر؛ كلّه يكونُ عند العبد؛ لأن السعادة سعادة القلوب، والشقاء شقاءُ القلوب؛ كما قال أحدهم: "إنه لتمر على القلب أوقاتاً يرقص فيه طربا، إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب".
فعند ذلك يعيش العبد مع ربه -سبحانه وتعالى-.
تأملوا -عباد الله- قوله صلى الله عليه وسلم عن شفاعة القرآن والصيام يوم القيامة: "يقول القرآن، أي ربي منعته النوم بالليل، فشفعني فيه".
من مِنّا منعه القرآن النوم بالليل؟! من مِنّا يسهر لكتاب الله؟! من مِنّا منعه كتاب الله من النوم؟! من مِنّا سهرَ يتلو في كتاب الله -عز ّوجل-؟! من مِنّا -عباد الله-؟! تأملوا هذا الحديث، من مِنّا؟!
إنّما أوقاتنا ضاعت في القيل والقال، والغيبة والنميمة، والحوارات ومتابعة الأخبار، من قناة إلى قناة، ! وهي محض افتراءات وأكاذيب.
من مِنّا سَهَر لكتاب الله؟!
"أي ربي منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان".
هذا -يا عباد الله- الاعتصام بالله -سبحانه وتعالى- عند ذلك إن نزلت بك فتنة، إن نزل بك بلاءٌ صبّرك الله، ولم يبتليَك -عزّ وجل- لضعفِ مكانتك عنده، كلا.
إنما أراد أن يرفع درجتك، إنما أراد أن يسمع تضرعك، إنما أراد أن يرى تزللك، إنما أراد أن يراك بين يديه؛ فابتلاك سبحانه؛ ليكونَ هذا أحسن لحالك، وأقرب لك من ربك -عزّ وجل- هذا من حكمة الابتلاء للعبد المؤمن، وكذا تكفيرا للسيئات، وكذا يكون عند الله للعبد مكانه لم يبلغها عمله فيبتليه الله -عزّ وجل-؛ ليصل إلى هذه المكانة.
الاعتصام بالله -سبحانه وتعالى-: سببٌ عظيم، يهون كل ما يجده الإنسان في طريقه إلى ربه -سبحانه وتعالى-، بل لا يعدّه شيئا مادام في الله -تبارك وتعالى-.
كذا أيضا: الاعتصام بالدين: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)[آل عمران: 103].
قيل: حبل الله: هو عهده، أي دينه، وقيل: حبل الله: أي طاعته، وقيل: حبل الله: هو القرآن، وهذا من اختلاف التنوع في التفسير؛ كلها معان صحيحة.
اعتصام، استمساك، استمساك بالدين، استمساك بطاعة الله، استمساك بالقرآن.
كلٌّ منّا -يا عباد الله- يسير في طريق طريقه له هدف يريدُ أن يصلُ إليه.
إنّ هدفنا هو: الجنة، إنّ هدفنا أن نصَل إلى الله، وهو راضٍ عنّا، إنّ هدفنا أن ننجوا برقابنا من النار، إنّ هدفنا أن نفوز بالحياة الباقية في الجنة، هذا هو هدفنا -يا عباد الله-.
الطريقُ إلى الله واحد لا مثنوية فيه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
هذا الطريق قد طرقه الله على لسان رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- الذي تركنا عليه صلوات الله وسلامه عليه؛ كما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ) [البقرة: 137].
فيسيرُ المؤمن في هذا الطريق، لا ينحرف عنه يمينا ولا شمالا، يصبر على عقباتِه، يصبر على فتنه ومحنه، ولا يُمكِن أن ينحرف عنه يمينا ولا شمالا.
(وَلاَ تَفَرَّقُواْ) أي لا تفرقوا عن هذا المنهج، هذا المنهج الذي فيه العصمة، هذا المنهج الذي فيه النجاة، والأدلاء على هذا الطريق هم العلماء -رحمهم الله-؛ علماءُ الكتاب والسنة، علماءٌ ربانيون، علماءُ سادة متواضعون على نهج سلف الأمة يعلمون الناس أمور دينهم، يلزمهم المسلم ولا يفارق غرزهم؛ ابن شوذب يقول: "إن ّمن سعادة الأعجمي إذا تنسك -أي إذا هداه الله- أن يقيض الله له رجلاً يُقيمه على السنة، يقول له هذا طريق السنة فالزمه".
فتن ومحن عظيمة من الابتلاءات التي ابتلى الله -عزّ وجل- بها العباد، دعاة الضلالة، دعاة الفتنة؛ كما قال رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-: "إنّما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" أي الدعاة إلى الضلالات والبدع، فهؤلاء يدعون إلى ضلالات، وشعبوا الطريق على الناس -إلا من رحم الله عزّ وجل-، وطوبى لعبد استمسك بالطريق الواحد الموصل إلى الله -عزّ وجل- والحق أبلج، وعليه نور، والباطل لجلج، وعليه ظلمة.
نسأل الله -عزّ وجل- أن يرينا الحق حقّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين...
أمّا بعد:
فيا عباد الله: من أعظم الأسباب التي يحتاجها كل واحد منّا طالما أن فيه حياة: الصبر، الصبر واجب -يا عباد الله-.
الصبر معناه: الحبس، حبس القلب عن الجزع، حبس الجوارح عن معصية الله.
والصبر أنواع ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وكلّ منّا يحتاج إلى الصبر على هذه الأنواع الثلاثة، والصبر عاقبته حميدة.
ربنا -سبحانه وتعالى– يقول: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)[البقرة: 155- 156].
والله -سبحانه وتعالى- يكونُ مع الصابرين: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
والمعية هنا معية خاصة، كما تكلمنا وبيناه.
والصبر يكون من الله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ)[النحل: 127].
أن تكون لله استعانة، فالصبر بالله استعانة، يدعوا العبد ربه -عزّ وجل- أن يصبره: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ )[النحل: 127].
وصبرٌ مع الله، أي صبرٌ مع الله -عزّ وجل- حيث دار، الكون كونه، والملك ملكه، والأمر أمره، نحنُ عباده -سبحانه وتعالى- هو ربنا –عزّ وجل-، ونحنُ خلقه، هو إلاهنا ونحن عبيده -سبحانه وتعالى-، يُقدر ما شاء، ويحكم ما يريد: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [هود: 107]. (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) [المائدة: 1].
ونحن عباده، لن نقترح عليه سبحانه وتعالى، ولن نتسخطه، ولن نقول: لماذا؟! إنما نسترجع، ونصبر ونعلم أن الخير فيما قدره الله –عزّ وجل-، حتى وإن رآه الإنسان شرا، فكم من شرٍ جعل الله -عز وجل- فيه خيرا، وكم من خيرٍ في نظرنا القريب الذي نراه ونحن لا نرى الغيب ولا نعلمه، كم من خيرٍ في نظرنا فيه شرٌ قريب أو بعيد: (وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216]. فعندئذٍ يدور العبد مع أمره.
صبرٌ مع الله، سراء صبرنا وشكرنا، ضراء صبرنا واسترجعنا، وقمنا بالعبادة اللازمة الواجبة، المحبوبة لله -عزّ وجل-.
عند نزول البلاء، هذا ما يفعله المؤمن؛ صبرٌ مع الله، وصبرٌ لله إخلاصا واحتساباً للأجر عنده سبحانه وتعالى، وليس إظهاراً للقوة، ولا للشجاعة، ولا ليقال: جرئ، وإنما يصبر لله -تعالى-، إخلاصاً له -عزّ وجل-، واحتسابا عنده سبحانه وتعالى، والصبر مع اليقين يجعل الله العبد إماماً للناس: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
"بالصبر واليقين تُنال الولايةُ في الدين"؛ كما قال بن تيمية -رحمه الله-.
وقيل للشافعي -رحمهم الله تعالى-: أي خير للرجل يمكّن أم يُبتلى؟! قال: "لا يُمَكّن حتى يُبتلى"
لا يُمَكّن حتى يُبتلى، لا يُمكِن للحق أن يُمكّن إلا بعد ابتلاء، إلا وبعد امتحان.
الحق لا يتمكّن إلا بعد تمحيص النفوس، ولمن هو أهلٌ لهذا الحق، وجديرٌ به، يُمكِّن الله -عزّ وجل-. لمن؟!
لمن آمن وعمل صالحاً، لمن نيتهُ أن يقيم الصلاةَ في الناس، أن يأمر بالمعروف أن ينهى عن المنكر؛ كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحـج: 41].
لذلك الداعي إلى اللِه -عزّ وجل- أعظمُ الناسِ ابتلاءا، وأعظم الناس إلى الصبر؛ لأنه يُجاهد في ميدانيين: ميدان نفسه، وميدان الناس.
ميدان نفسه: صبر على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.
وميدانُ الآخرين -الناس-: دعوتهم إلى الله -عزّ وجل-، وإذا ما جهرت بحقٍ فلا يُمكن أن يرضى عنك كلّ الناس؛ إرضاءُ الناس غاية مستحيلة؛ عندما تجهرُ بالحق، فلابد وأن تُؤذى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)[لقمان: 17].
(لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)[آل عمران: 187] ميثاق أخذه الله -عز وجل- على أهل العلم، وسيسألهم على ذلك؛ لذلك يقومون بواجب البيان والإرشاد والتوضيح، ويصبرون على ذلك، ولا يُبالون بمدح الناس، أو بذمهم، إنما يقومون بما يجب عليهم: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) [الأحزاب: 39].
وقال الله -عزّ وجل-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
عباد الله: نحن الآن في حاجٍة شديدة إلى أن ندرس المرحلة المكية التي كان فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه صحابته.
فلا شك أن ما حدث، وما حذرنا منه، وبينّاه كثيرا، والبيان واجب، ولابد أن على كل من أتاه الله علما أن ُيبين، ويعلم، من آتاه قلما أن يكتب؛ لأن هذه حِقبة ينبغي أن تُؤرّخ، وأن تُبين؛ ليتعلم الأجيالُ القادمة، قد يكون بعد مائة سنة، يدرسون مرحلتنا يتعلمون وينظرون؛ حتى لا يقعوا فيما وقعنا فيه، يتجنبون السلبيات والمخاطر، وما وصلنا إليه لابد من هذه الدراسة -دراسة التاريخ- لا يُكمِم أحدٌ أفواه العلماء ولا يتكلم أحد، لماذا فلانٌ يتكلم؟ سنتكلم، ونبين ونوضح، بكل جُرأة لله -عزّ وجل-؛ لأنّ هذا ميثاق لابد وأن نتكلم ونُبين، ونبين واقع الناس للناس.
من يُبين للناس واقعهم؟! من ُيبّين للناس طريقَهم؛ إلا أهل العلم، إلا من أتاه الله علماً، ميثاق أخذه الله عليهم: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)[آل عمران: 187].
بل لابد من دراسة أعمق، ولابد من تأريخ أعمق لهذه المرحلة؛ حتى تتعلم الأجيالُ الآتية؛ في كتاب "الإخوان المسلمون أحداثٌ صنعها التاريخ" كتاب جيد في ثلاثة مجلدات، كتبهُ أحد مؤسسي الإخوان المسلمين، أرّخ لحقبة 54
أين كانت هذه الأجيال الحاضرة من دراسة التاريخ؟!
أين كانت هذه الأجيال الحاضرة من دراسة حقبة 54 ؟! ليتعلموا منها، ليستنيروا طريقَهم، ليتعرفوا كيف يتصرفون، يُحصّلون المصالح قدر الإمكان، ويدرؤون المفاسد قدر الإمكان؟
ولكن قدر الله وما شاء فعل، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقع قدر الله -عزّ وجل-، ولكن نتصرف معه بقدر آخر، وندفع قدر بقدر، لكن لابد من التأريخ لهذه الفترة، ولابد من الكتابة عن تأريخ هذه الفترة، ولابد من دراساتها دراسة جيدة، عميقة متأنية؛ حتى تتعلم الأجيال، تتعلم الأجيال فيما بعد؛ فلا تقع الأجيال في أخطاء من سبقوهم.
والله -عزّ وجل- المستعان.
نحن في حاجةٍ شديدة إلى دراسة الفترة المكية الأولى؛ لأننا بسبب هذا الذي وصلنا إليه رجعنا إلى مائة سنة، بل 200 سنة إلى الوراء، بل في أوائل التسعينيات، وفتنة الجماعة الإسلامية، والتفجيرات لم تتأخر الدعوة هذا التأخر الذي رأيناه، والذي نراه بأعيننا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
إذا فلابد من دراسة، ماذا نفعل في هذه المرحلة؟ لابد من الدعوة إلى الله -عزّ وجل-؛ أنه العهد المكي، الفترات الأولى التي أمر الله فيها نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- الصبر واحتمال الأذى والصفح والعفو مع الاستمرار في الدعوة إلى الله -عزّ وجل-، ومعاملتهم بالأخلاق الحسنة: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199] فاعفُ واصفح واصبر.
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)[الأنعام: 34].
كان الصحابة -رضي الله عنهم- يُعذبون، ويمُّر صلى الله عليه وسلم على آل ياسر، ويقول: "صبراً آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة".
يأتيه خباب ومن معه من الصحابة يشتكون، ويقول: يا رسول الله: ألا تتنصر لنا؟ ألا تدعوا لنا؟ وهم معذبون مستضعفون -رضوان الله عليهم جميعا- فكان صلى الله عليهم يقول لهم: "لقد كان يُأتى بالرجل فيمن كان قبلكم، حتى يوضع المنشار على رأسه، حتى يفلق فلقتين، ما يرده ذلك عن دينه" ثم يقول: "والله لَيُتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه" ثم انتبه "ولكنكم تستعجلون" ولكنكم تستعجلون، ولكنكم تستعجلون، وأنزل الله قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ)[النساء: 77] أمروا بكف الأيدي.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: "إنّي لم أؤمر بقتال".
سُلّطَ على النبي -صلى الله عليه وسلم- السفهاء لما ذهب إلى الطائف، سلطوا عليه عبيدهم وسفهائهم، ضربوه بالحجارة وشتموه حتى أدموا قدميه صلى الله عليه وسلم، لم يضح بالطائفة المؤمنة القليلة.
في يوم بدر جعل يدعوا ربه: "اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض بعد اليوم" صلوات الله وسلامه عليه.
حكمة يأخذ بالأسباب صلوات الله وسلامه عليه، لا بهذه الرعونة، وهذا الطيش، وهذا التعجل الذي أضاع الدعوة، والذي أخّرها سنيين حتى رأينا ما رأينا.
رأس مالنا الناس، رأس دعوتنا الناس، ندعوهم إلى الله -عز وجل-، عندما تمتلئ عقول الناس، وينظر إليك على أنك إرهابي، ومتطرف، وتريد أن تُسيل الدم، وأن تقتل الناس، وأنك تُكفرهم، وتخونهم، إلى آخر ذلك، إذا فكيف يسمعوننا؟! كيف يكونون محِل دعوتنا؟! كيف نحقق العبودية بنوعيها؟! عبودية الفرد وعبودية المجتمع.
عبودية الفرد: أن يكون العبد عبداً لربه -تعالى-، عبودية المجتمع: أن تكون أنظمة الحكم والمجتمع موافقة لشريعة الله، وإقامة الحكم لله -سبحانه وتعالى-.
هذا يحتاج منّا أن نتعقل، وأن نتروى، وأن نتأمل، وأن نقف مع أنفسنا وقفات، وأن نستغفر الله، وأن نرجع إليه، وأن نتضرع إليه، وأن ندرس المرحلة المكية جيدا؛ ليعلم الناس أننا برآء من كل هذا، ومن كل ما يُقال عنّا، وأننا دعاة إلى الله بحكمة وموعظة حسنة، ندعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والرفق واللين ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، والصبر على الأذى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)[لقمان: 17].
والله -عز وجل- غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ، نُوقِن بوعده، ونوقن بدينه، ونوقن بوعده سبحانه، قد يتأخّر التمكينُ لمراحل؛ لحكمةٍ من العليم الحكيم -سبحانه وتعالى-، ونحن عباده ندور مع أمره، لن نخرج عن أمره أبدا الذي يريده الله -سبحانه وتعالى-.
نسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا وإياكم بما قلنا وما سمعنا.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونستهديك فاهدنا، ونسترضيك فارضنا، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنّا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
اللهم فرّج الكرب عن المكروبين، وارفع الهم عن المهمومين، اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم مكّن للمسلمين في كل مكان، اللهم مكّن لدينك في الأرض، وافتح له قلوب العباد، اللهم انج المسلمين المستضعفين في كل مكان.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه إلى كل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاجعل كيدهُ في نحره، واجعل تدبيره تدميره.
اللهم إنك على كل شيء قدير، وأنت بالإجابة لجدير، فتقبل منّا يا أكرم الأكرمين.