النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | علي باوزير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
وهكذا -أيها الأحباب- الأمم في كل زمان ومكان حين لا تستمع لأقوال الناصحين تظل في ضياع، تظل في تيه وتخبط، تظل في اضطراب، وتدخل في متاهات لا تستطيع أن تخرج منها إلا أن يشاء الله، بينما كان بالإمكان أن تجنب نفسها هذا كله، بأن تستمع لأقوال العلماء، لأقوال العقلاء، لأقوال الحكماء، الذين يقدرون الأمور حق قدرها، والذين يدركون الأمور على حقيقتها، ويفهمون الأمور كما هي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: أيها المسلمون عباد الله، تمر حياة البشر والناس بتقلبات وتغيرات كثيرة، وتحصل لهم العديد من الأزمات والنكبات، وكل أمة وكل شعب، بل وكل فرد، عرضة لهذه التقلبات ولهذه التغيرات، وللفتن والمحن، بمختلف أصنافها وأشكالها.
ليست الحياة دائما خطا مستقيما، بل فيها منحنيات وفيها منعطفات، فيها منخفضات وفيها مرتفعات، كطبيعة الأرض التي نعيش على ظهرها.
وإذا حصلت هذه التقلبات والتغيرات، فغالبا أحوال الناس تموج موجا، ويعم الاختلاف والاضطراب، وتتفرق آراء الناس ومذاهبهم، وفي وسط هذا كله تظهر أصوات من هنا وهناك تعلو أحيانا وتخفت أحيانا، إنها أصوات أهل العلم، وأهل العقل والخبرة والحكمة، أصوات ندية جميلة حسنة تبحث عن الخير للناس، وتتلمس تحقيق مصالحهم، ودفع الشر عنهم.
إنها أصوات الناصحين المخلصين الذين لا يبتغون أجراً ولا شكورا، وإنما يريدون الثواب من عند الله -سبحانه وتعالى-، وحفظ مصالح الناس، فتظل تنادي هنا وهناك؛ لعل مجيبا أن يجيب، ولعل إنسانا أن يستمع ويمتثل.
الله -تعالى- قص علينا في القرآن الكريم قصصا رائعة لأناس صادقين وأناس مصلحين رأوا أقوامهم وعشائرهم في خطر فقاموا منذرين، ووقفوا موقف الناصحين المحذرين، يريدون النجاة للناس، ويريدون الخير لهم.
نادوا بأعلى أصواتهم، ولكن -للأسف- إن أقوامهم لم يستجيبوا ولم يسمعوا لهم، فكانت العاقبة المريرة.
في سورة غافر يقص الله -سبحانه وتعالى- علينا نبأ رجل مؤمن، سميت سورة غافر بسورة المؤمن لأجل هذا الرجل، إنه مؤمن آل فرعون، يأتي موسى -عليه السلام- إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الله، إلى توحيده وإفراده بالوحدانية والإلوهية، يدعوهم إلى الإيمان بالله، فيرفض فرعون دعوته، ويكذب رسالته، ويحشد الناس ويحشرهم ويعبئهم على موسى، ويعقد النية والعزم على قتله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26]، فيخاطبهم المؤمن خطاب العقل والإيمان، يخاطبهم خطاب الوعظ والتذكير ويقول لهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ)؟ لماذا تريدون قتل موسى؟ هل هناك جريمة ارتكبها يستحق القتل عليها؟ ألمجرد أن يقول ربي الله تقتلونه؟ هل قتل إنسان لمجرد عقيدته أمر يوافق العقل أو يوافق الشرع؟ الناس إنما يستحقون القتل لجرائم يرتكبونها، أما لمجرد عقيدة يعتقدها؛ فلماذا تقتلونه؟ كيف وقد أثبت لكم صحة عقيدته وقد جاءكم بالبينات، فنصحهم نصيحة عقلية تخاطب العقل مباشرة.
ثم أخذ يعظهم، يذكرهم بعاقبة الظلم والفساد، يذكرهم بمآل الكفر والعناد: ماذا حل بالأمم الظالمة قبل ذلك؟ وكيف نزلت عقوبة الله -عز وجل- بهم؟ بخطاب رقيق رفيق يقول لهم: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [غافر:30-33].
ويواصل تذكريهم ووعظهم: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:38-39].
ما أجملها من كلمات! وما أعذبها من ألفاظ! وما أحسنه من وعظ وتذكير ونصح وإرشاد! ولكنهم -للأسف- لم يستجيبوا لهذا الناصح الصادق، استخف فرعون قومه فاتبعوه، عظموه وألهوه وساروا وراءه، وانقادوا لأمره، وتركوا صوت هذا الناصح، رأوا فيه ضعيفا، رأوه إنسان عاديا فلم يقبلوا كلامه، كما فعل قوم شعيب حين جاء إليهم، فقالوا له: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) [هود:91].
ما فهموا أن النصيحة ليست بالأنساب والأحساب، ما فهموا أن النصيحة ليست بالجاه والسلطان، ما فهموا أن النصيحة ليست بالمال والثروة، النصيحة تنبع من عقل وعلم وحكمة يهبها الله -سبحانه وتعالى- لمن شاء من عباده، (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء) وإن كان إنسانا ضعيفا، وإن كان إنسانا لا يلتفت إليه، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ولو جاءت من أي شخص كان.
رفضوا نصيحته ولم يقبلوا كلامه فلم ييأس منهم، وأيقن أنه لا فائدة من تذكيرهم، قال: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر:44]، هذا لسان حال كثيرا من المصلحين في كل زمان ومكان، ينصحون، ينادون، ينذرون ويحذرون، فحين لا يجدون الاستجابة يقولون: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ). ماذا كانت العاقبة؟ (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:45-46]، عاقبة مريرة أصابتهم ونالتهم حين لم يستجيبوا ولم يستمعوا لقول هذا الناصح الصادق.
رجل آخر يقص الله -سبحانه وتعالى- علينا نبأه في سورة يس، أرسل الله -سبحانه وتعالى- ثلاثة رسل إلى قرية واحدة فكذبهم أهل هذه القرية ولم يصدقوهم، بل وتمادوا في عنادهم وكفرهم وقالوا لرسلهم: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا)، أي: إن لم تتوقفوا عن دعوتكم ونصحكم، (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [يس:18].
جاء هذا الرجل من أقصى المدينة، جاء من أطرافها يسعى، يجتهد، يجري، تحمّل العناء والمشقة، تحمل التعب لأجل أن ينصح قومه: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) [يس:21]، ألا تنظرون إلى حالهم؟ ألا تنظرون إلى أنهم لا يبحثون عن مناصب؟ لا يبحثون عن مصالح؟ لا يبحثون عن مال؟ لا يسألونكم أجراً، ولا يريدون منكم شيئا، لا ينازعونكم في دنيا ولا يبحثون عن متاع زائل؛ إنما يريدون الخير لكم، لا يسألونكم أجرا وهم مهتدون.
أليس هؤلاء عقلاء أولى بالاتباع من السادات والكبراء الذين اتبعتموهم، وهم إنما يريدون المصلحة والمنفعة لأنفسهم؟ ثم كيف تتوجهون إلى غير الله؟ كيف تتعلق قلوبكم بغير الله؟ (وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) [يس:22-24].
نصيحة جميلة تخاطب العقل والقلب، ولكن؛ ماذا فعل هؤلاء القوم؟ يذكر المفسرون أنهم فعلوا أمراً عجبا! قتلوا هذا الرجل، قتلوا هذا الناصح، قتلوا هذا الصادق الذي جاء يحمل الخير لهم ويريد الهداية لهم ولا يريد منهم شيئا غير ذلك! أهذه جريمة؟! أهذا منكر يستحق الإنسان القتل عليه؟ النصيحة! أهي جريمة يقتل الإنسان لأجلها؟ ولكن، هكذا حين يستحكم الجهل وحين يستحكم الهوى بالناس، فإنهم يرون الناصحين لهم الذين يأمرونهم بما يخالف أهواءهم يرونهم في منكر عظيم يستحقون القتل لأجله.
ألم تروا إلى ما فعل قوم لوط حين نهاهم عن الفاحشة، حين نهاهم عن إتيان الذكور؟ (قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف:82]! صيروا الطهر جريمة، جعلوا العفاف منكرا، وأرادوا إخراج لوط وأهله لأنهم يتطهرون!.
وهكذا أهل هذه القرية، رأوا في نصيحة هذا الصادق لهم منكرا يستحق القتل لأجله فقتلوه! فلما قتلوه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27] ما ضره هذا شيئا، ما ضره هذا القتل، بل عجل به إلى الخير وإلى النعيم المقيم.
وأما قومه الذين لم يقبلوا نصيحته فقد قال الله -عز وجل- عنهم: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) [يس:28-29]، أهلكهم الله -سبحانه وتعالى- بصيحة واحدة فإذا هم خامدون ميتون لا تسمع منهم صوتا ولا ترى منهم حركة.
ولو أنهم استجابوا لهذا الناصح لجنبوا أنفسهم هذه العاقبة: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) [يس:30]، ما أشد شقاءهم! وما أطول عناءهم! حين يرفضون كلام الناصحين، حين يستهزئون برسلهم ويكذبونهم فإن عاقبتهم تكون هذه العاقبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
وبعد: أيها الأحباب الكرام، قصة ثالثة يقصها الله -سبحانه وتعالى- علينا في سورة المائدة، لما نجى الله -سبحانه وتعالى- موسى -عليه السلام- ومعه بنو إسرائيل نجاهم من فرعون وملئه خرجوا من أرض مصر وانطلقوا قاصدين بيت المقدس، وكان بيت المقدس تحت حكم أناس أشداء أقوياء، فتوجه موسى إلى قومه يخاطبهم ويذكرهم بنعمة الله -سبحانه وتعالى- عليهم: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ) [المائدة:20].
ثم أمرهم بأن يتوجهوا لمواجهة هؤلاء القوم ويحرروا بيت المقدس من أيديهم، قال: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [المائدة:21].
بنو إسرائيل خافوا وفزعوا وأصابهم الهلع: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ)، أي: قوم أشداء أقوياء، (وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) [المائدة:22].
هنا، في هذه اللحظة قام رجلان اثنان قاما ناصحين صادقين ينصحان بني إسرائيل: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا)، أنعم الله عليهما بالتوفيق، أنعم الله عليهما بقول كلمة الحق في موضعها، قالوا ماذا؟ قالوا: (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ)، لا تخافوا، لا تهابوا، أقدموا واقتحموا، فإذا دخلتم عليهم الباب فإنكم غالبون منصورون بإذن الله، (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23]، نصيحة رائعة فيها تثبيت، وفيها شحذ للهمم وإيقاظ للعزائم وتذكير بالله -سبحانه وتعالى-.
ولكن بني إسرائيل لم يقبلوا هذه النصيحة، بل بقوا على خوفهم وهلعهم وجبنهم، وتخلوا عن نبيهم: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة:24]، فماذا كانت العاقبة؟ ماذا حل بهم؟ حين لم يستجيبوا لنبيهم ولم يسمعوا قول ناصحيهم قال الله -عز وجل-: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ)، أي: الأرض المقدسة، (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:26].
ضرب الله -عز وجل- عليهم التيه فصاروا يتخبطون في صحراء سيناء يدورون فيها، لم يتمكنوا من الخروج منها، لم يهتدوا إلى الطريق، ولم يعرفوا السبيل، ظلوا يدورون في هذه الصحراء أربعين سنة، يتخبطون لأنهم لم يستمعوا لقول الناصحين.
وهكذا -أيها الأحباب- الأمم في كل زمان ومكان حين لا تستمع لأقوال الناصحين تظل في ضياع، تظل في تيه وتخبط، تظل في اضطراب، وتدخل في متاهات لا تستطيع أن تخرج منها إلا أن يشاء الله، بينما كان بالإمكان أن تجنب نفسها هذا كله، بأن تستمع لأقوال العلماء، لأقوال العقلاء، لأقوال الحكماء، الذين يقدرون الأمور حق قدرها، والذين يدركون الأمور على حقيقتها، ويفهمون الأمور كما هي، صحيح أن أصواتهم قد تكون ضعيفة وقد تكون خافتة في وسط الأصوات التي تتعالى من هنا أو هناك، ولكن هذه الأصوات الخافتة تظل شاهدة على الناس أنها قد نصحت، وقد بينت وحذرت.
وعجبا ممن يأخذ بكلام مجاهيل الإنترنت أو يأخذ بكلام من لا يعرف بعلم ولا عقل، أو يأخذ بكلام من عرف فساده وكذبه، ويترك كلام العلماء والعقلاء جانبا لا يلتفت إليه ولا يلقي له بالا، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "قبل الساعة سنوات خداعة، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين".
ولعلها هذه السنوات التي نعيشها أيها الأحباب! لا صلاح للناس ولا استقامة لأحوالهم إلا إذا كان العقلاء والحكماء هم قادة القوم وسراتهم؛ فإن سراة القوم هم الحكماء والعقلاء.
وقد صدق الأفوة الأودي حين قال:
والبيـتُ لا يُبْتَنَـى إلا لـهُ عَمَـدٌ | ولا عِمـادَ إذا لـمْ تُـرْسَ أَوْتـادُ |
فـإنْ تجمـعَ أَوتــادٌ وأَعـمـدَةٌ | وساكنٌ بلغوا الأمرَ الـذي كـادوا |
لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُم | ولا سَـراةَ إذا جُهالُهُـمْ ســادُوا |
تُلفَى الأمورُ بأهلِ الرشْدِ ما صَلَحَتْ | فـإنْ تَوَلـوْا فبالأَشْـرارِ تَنْـقـادُ |
إذا تَولـى سَـراةُ القـومِ أَمْرَهُـمُ | نَما على ذاك أَمْرُ القـومِ فـازْدادُوا |
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوالنا كلها، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يصرف عنا الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن...