البحث

عبارات مقترحة:

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

سوء العذاب وسوء الدار

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. حسن المقام في الآخرة وارتباطه بحسن العمل .
  2. خوف سوء الحساب من كياسة أهل الإيمان .
  3. صور سوء العذاب يوم القيامة .
  4. أسباب سوء الحساب وسوء الدار وسوء المآب .
  5. أنواع الناس في عمل السوء .

اقتباس

يَرْتَبِطُ حُسْنُ المَقَامِ فِي القَبْرِ وَفِي الآخِرَةِ بِحُسْنِ العَمَل فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ عَذَابَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ مُرْتَبِطَانِ بِسُوءِ العَمَلِ فِي الدُّنْيَا؛ إِذِ الدُّنْيَا حَرْثُ الآخِرَةِ، فَلْيَنْظُرْ كُلُّ عَبْدٍ مَا وَضَعَ فِي حَرْثِهِ. وَهَذِهِ القَضِيَّةُ هِيَ أَهَمُّ قَضِيَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَشْغَلَ الإِنْسَانَ -أَيَّ إِنْسَانٍ- لِأَنَّهَا قَضِيَّةُ مَصِيرِهِ وَنِهَايَتِهِ وَخُلُودِهِ، وَمَا عُمُرُ الدُّنْيَا فِي أَبَدِ الآخِرَةِ؟! وَمَا نَعِيمُهَا وَشَقَاؤُهَا فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ وَشَقَائِهَا؟!

الخطبة الأولى:

الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ الأَعْلَى؛ خَالِقِ الخَلْقِ، وَمَالِكِ المُلْكِ، وَمُدَبِّرِ الأَمْرِ: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحمن:29]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ يَجْزِي عَلَى الحَسَنَاتِ أَضْعَافَهَا، وَعَلَى السَّيِّئَاتِ أَمْثَالَهَا، فَمَنْ أَحْسَنَ فَلَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ وَالمَآبِ، وَمَنْ أَسَاءَ فَلَهُ اللَّعْنَةُ وَلَهُ سُوءُ الدَّارِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ تَمَنِّي المَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِمْ، فَإِمَّا مُحْسِنُونَ يَزْدَادُونَ إِحْسَانًا، وَإِمَّا مُسِيئُونَ يُحْدِثُونَ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ، وَجَانِبُوا سَيِّئ القَوْلِ وَالعَمَلِ؛ فَإِنَّ العَبْدَ لاَ يُغَادِرُ الدُّنْيَا حِينَ يُغَادِرُهَا إِلاَّ بِعَمَلِهِ: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ". (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 123 – 124].

أَيُّهَا النَّاسُ: يَرْتَبِطُ حُسْنُ المَقَامِ فِي القَبْرِ وَفِي الآخِرَةِ بِحُسْنِ العَمَل فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ عَذَابَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ مُرْتَبِطَانِ بِسُوءِ العَمَلِ فِي الدُّنْيَا؛ إِذِ الدُّنْيَا حَرْثُ الآخِرَةِ، فَلْيَنْظُرْ كُلُّ عَبْدٍ مَا وَضَعَ فِي حَرْثِهِ.

وَهَذِهِ القَضِيَّةُ هِيَ أَهَمُّ قَضِيَّةٍ يَجِبُ أَنْ تَشْغَلَ الإِنْسَانَ -أَيَّ إِنْسَانٍ- لِأَنَّهَا قَضِيَّةُ مَصِيرِهِ وَنِهَايَتِهِ وَخُلُودِهِ، وَمَا عُمُرُ الدُّنْيَا فِي أَبَدِ الآخِرَةِ؟! وَمَا نَعِيمُهَا وَشَقَاؤُهَا فِي نَعِيمِ الآخِرَةِ وَشَقَائِهَا؟!

وَالكِتَابُ وَالسُّنَّةُ زَاخِرَانِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي تُذَكِّرُ بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ المُهِمَّةِ، وَتُؤَكِّدُ عَلَيْهَا، وَتَغْرِسُهَا فِي قَلْبِ العَبْدِ؛ لِئَلاَّ يَنْسَاهَا أَوْ يَغْفُلَ عَنْهَا وَيُشْغَلَ بِغَيْرِهَا، وَقَارِئُ القُرْآنِ تُذَكِّرُهُ آيَاتُهُ بِهَا؛ وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ القُرْآنِ وَأَهِمِّيَّةِ المُدَاوَمَةِ عَلَى قِرَاءَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.

وَكَمَا أَنَّ المُؤْمِنَ الطَّائِعَ يُجْزَى فِي الآخِرَةِ بِأَحْسَنِ الثَّوَابِ، وَلَهُ حُسْنُ المَآبِ فِي الجَنَّةِ وَالرُّضْوَانِ، فَكَذَلِكَ الكَافِرُ العَاصِي لَهُ سُوءُ الحِسَابِ، وَسُوءُ العَذَابِ، وَسُوءُ الدَّارِ، وَسُوءُ المِهَادِ.

أَمَّا سُوءُ الحِسَابِ؛ فَهُوَ مُنَاقَشَتُهُ عَلَى النَّقِيرِ وَالقِطْمِيرِ، وَالجَلِيلِ وَالحَقِيرِ، وَالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ، وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ، وَسَبَبُ سُوءِ حِسَابِهِ عَدَمُ اسْتِجَابَتِهِ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوء الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [الرعد: 18].

وَمِنْ كَيَاسَةِ أَهْلِ الإِيمَانِ وَفِطْنَتِهِمْ خَوْفُهُمْ سُوءَ الحِسَابِ: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) [الرعد: 21].

وَأَمَّا سُوءُ العَذَابِ -نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ- فَهُوَ شِدَّةُ إِيلاَمِهِ، وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي عَدَدٍ مِنَ الآيَاتِ، كَمَا فِي الإِخْبَارِ عَمَّنْ يُعْرِضُ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ آيَاتِهِ، سَوَاءً عَرَفَ حَقِيقَتَهَا فَأَعْرَضَ عَنْ حُكْمِهَا، أَوْ جَهْلِهَا وَأَبَى أَنْ يَتَعَلَّمَهَا، وَمَا أَكْثَرُ المُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذَا الزَّمَنِ: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوء العَذَاب بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام:157].

وَجَاءَ الإِخْبَارُ عَنْ سُوءِ العَذَابِ فِي شَأْنِ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ إِيمَانًا صَحِيحًا؛ كَمَنْ يُنْكِرُ البَعْثَ مِنَ المَادِّيِّينَ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانًا خَاطِئًا كَأَهْلِ الكِتَابِ، وَلاَ يبحثُ عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوء العَذَاب وَهُمْ فِي الآخِرَة هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [النمل: 4-5].

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِمْ فِرْعَوْنُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي شَرَكِهِ: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء العَذَاب * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَاب) [غافر: 45-46].

وَأَعْظَمُ ذَلِكَ وَأَشَدُّهُ أَلَمًا وَإِهَانَةً وَذُلاًّ أَنْ يَقَعَ سُوءُ العَذَابِ عَلَى الوَجْهِ: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوء العَذَاب يَوْمَ القِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الزُّمر:24].

يَا لَهُ مِنْ سُوءِ عَذَابٍ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَطْلُبُ وِقَايَةَ وَجْهِهِ فَلاَ يَجِدُ مَا يَقِيهِ بِهِ إِلاَّ وَجْهَهُ؛ لِأَنَّهُ مَغْلُولُ الأَيْدِي وَالأَرْجُلِ، مَعَ أَنَّ الوَجْهَ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الإِنْسَانِ، وَيَقِيهِ بِكُلِّ جَسَدِهِ، وَلَكِنْ مِنْ سُوءِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُمْ يَتَّقُونَ العَذَابَ بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِي خَلْقِهِمْ وَهُوَ وُجُوهُهُمْ، وَذَلِكَ أَشَدُّ إِيلاَمًا فِي النَّفْسِ وَعَلَى الجَسَدِ؛ وَلِذَا نُهِيَ فِي الدُّنْيَا عَنْ ضَرْبِ الوَجْهِ لِكَرَامَتِهِ.

وَأَهْلُ سُوءِ العَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَوَدُّونَ لَوْ أَنَّهُمْ مَلَكُوا الأَرْضَ بِأَجْمَعِهَا لِيُقَدِّمُوهَا فِدَاءً لَهُمْ مِنْ سُوءِ العَذَابِ؛ لِإِيقَافِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ، وَلَكِنْ لَا يَقِيهِمْ شَيْءٌ إِلاَّ مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا لَوْ كَانُوا عَمِلُوا صَالِحًا، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَنَا أَهَمِّيَّةَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ العَاقِلَ يَسْعَى لِنَجَاتِهِ بِهِمَا مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوء العَذَاب يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزُّمر:47].

وَأَمَّا سُوءُ الدَّارِ فَهِيَ النَّارُ -أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالَى وَالمُسْلِمِينَ مِنْهَا- وَتَبْدَأُ رِحْلَةُ صَاحِبِ سُوءِ الدَّارِ مَعَهَا فِي آخِرِ لَحَظَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا حِينَ يَرَى فِي احْتِضَارِهِ مَلَكَ المَوْتِ؛ فَيَنْزَعُ رُوحَهُ بِشِدَّةٍ حَتَّى تَتَقَطَّعَ، وَحِينَ يَرَى مَلاَئِكَةً غِلاَظًا سُودَ الوُجُوهِ يَأْخُذُونَ رُوحَهُ فَيَضَعُونَهَا فِي مَسُوحٍ غَلِيظٍ، وَحِينَ تُلْقَى رُوحَهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَحِينَ يُفْتَنُ فِي قَبْرِهِ فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَّةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَحِينَ يُفْرَشُ قَبْرُهُ مِنَ النَّارِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، وَحِينَ يَمْثُلُ لَهُ عَمَلُهُ السَّيِّئُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الوَجْهِ قَبِيحِ الثِّيَابِ مُنْتِنِ الرِّيحِ، يُبَشِّرُهُ بِمَا يَسُوؤُهُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ، حِينَهَا يَعْلَمُ عَاقِبَةَ سُوءِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا فَيَتَمَنَّى أَلاَّ تَقُومَ السَّاعَةُ وَلَوْ كَانَ فِي قَبْرِهِ مُعَذَّبًا؛ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ شِدَّةِ عَذَابِ النَّارِ.

وَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الكُفْرِ وَالعِصْيَانِ بِسُوءِ الدَّارِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّار) [غافر: 52]، وَفِي مَقَامٍ آخَرَ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً مِنْ أَوْصَافِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّار) [الرعد:25].

فَالنَّارُ دَارُهُمْ وَمَأْوَاهُمْ وَمَثْوَاهُمْ لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُهُا: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 151]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد: 15].

وَأَشَدُّ مَا يَكُونُ غَبْنًا لَهُمْ، وَعَذَابًا عَلَيْهِمْ، أَنَّهُمْ فِي قُبُورِهِمْ يَرَوْنَ مَقَاعِدَهُمْ فِي الجَنَّة لَوْ آمَنُوا وَعَمِلُوا صَالِحًا، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّة إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّة لَوْ أَحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَأَمَّا سُوءُ المِهَادِ؛ فَالمِهَادُ هُوَ الفِرَاشُ، وَهُوَ مِنْ نَارٍ: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 12]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ) [الأعراف: 41]، وَغَلَبَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَقُوَّتُهُمْ لاَ تَقِيهِمْ مِهَادَ جَهَنَّمَ فِي الآخِرَةِ: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 196-197].

إِنَّ سُوءَ المُعْتَقَدِ وَسُوءَ القَوْلِ وَسُوءَ العَمَلِ أَسْبَابٌ لِسُوءِ الحِسَابِ وَسُوءِ الدَّارِ وَالمَآبِ؛ وَلِذَا فَإِنَّ أَهْلَ السُّوءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا سُوءً فِي الدُّنْيَا، أَوْ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَمْ تُحْصَ عَلَيْهِمْ: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].

فَأَيُّ حَيَاةٍ يَعِيشُهَا، وَأَيُّ مُسْتَقْبَلٍ يَنْتَظِرُ مَنْ هُوَ مَوْعُودٌ بِسُوءِ الحِسَابِ، وَسُوءِ الدَّارِ، وَسُوءِ العَذَابِ، وَسُوءِ المَهَادِ، لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُ العَذَابُ؟! إِنَّ الإِنْسَانَ لَوْ صَرَفَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا، وَمَالَهُ كُلَّهُ، وَضَحَّى بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ لِاتِّقَاءِ ذَلِكَ السُّوءِ المُتَرَاكِمِ فِي الآخِرَةِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابٍ أَبَدِيٍّ هَذَا وَصْفُهُ، فَكَيْفَ وَاللهُ تَعَالَى أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِمَّا يَظُنُّونَ، فَلَمْ يَكُلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ، مِنْ بَذْلِ الأَنْفُسِ وَالأَهْلِ وَالأَوْلاَدِ وَالأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ دِينِهِ، وَالوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِ، وَالْتِزَامِ أَوَامِرِهِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِهِ، وَالانْتِهَاءِ عَنْ نَوَاهِيهِ، فَمَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ نَجَا مِنَ السُّوءِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَالَ الفَوْزَ العَظِيمَ، وَحَازَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَحُسْنَ المَآبِ، وَرِضَا الرَّحْمَنِ. فَاللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنَا فِيمَا يُرْضِيكَ، وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سُوءِ الحِسَابِ وَسُوءِ الدَّارِ وَسُوءِ العَذَابِ وَسُوءِ المِهَادِ وَالمَآبِ، إِنَّك سَمِيعُ الدُّعَاءِ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ التَّوَّابِ الرَّحِيمِ: "يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".

نَحْمَدُهُ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى نَجَاةً مِنَ السُّوءِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزُّمر:61].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: النَّاسُ فِي عَمَلِ السُّوءِ عَلَى أَنْوَاعٍ:

فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْغَمِسُ فِي السُّوءِ إِلَى أَنْ يَلْقَى اللهَ تَعَالَى غَارِقًا فِي سُوئِهِ، فَهُوَ المَوْعُودُ بِالسُّوءِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ كَادَ يَغْرَقُ فِي السُّوءِ، وَلَكِنَّهُ وُفِّقَ قَبْلَ مَمَاتِهِ لِتَوْبَةٍ انْتَشَلَتْهُ مِنْ سُوئِهِ؛ فَهَذَا يَعْفُو اللهُ تَعَالَى عَنْ سُوئِهِ بِتَوْبَتِهِ، فَيَسْعَدُ وَمَا ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَسْعَدُ.

وَمِنْهُمْ يُبَاعِدُ عَنِ السُّوءِ فَتْرَةً مِنْ حَيَاتِهِ أَوْ أَكْثَرِهَا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ إِذْ نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ حَتَّى يُخْتَمَ لَهُ بِسُوءِ عَمَلِهِ، فَهَذَا شَرُّ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ حُسْنَ العَمَلِ وَذَاقَهُ، ثُمَّ فَارَقَهُ عَنْ عِلْمٍ وَإِصْرَارٍ إِلَى سُوءِ العَمَلِ حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى بِهِ؛ فَهَذَا يُؤْخَذُ بِسُوءِ عَمَلِهِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؟! قَالَ: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَقَدْ يَضْعُفُ المُؤْمِنُ فَيَقَعُ فِي سُوءِ العَمَلِ لِأَجْلِ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ شَهْوَةٍ، فعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْ سُوءِ العَمَلِ، وَيُبَادِرَ بِالتَّوْبَةِ، وَيُتْبِعَ سُوءَهُ بِعَمَلٍ حَسَنٍ يَمْحُو أَثَرَهُ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110 - 112]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوء فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النمل: 11]، بَلْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَحَوِّلُ سَيِّئَاتِهِ السَّابِقَةَ بِتَوْبَتِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ إِلَى حَسَنَاتٍ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) [الفرقان: 70]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللهِ تَعَالَى فِي الأَرْضِ عَلَى العَبْدِ فِي حُسْنِ عَمَلِهِ أَوْ سُوئِهِ، وَلاَ سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ مِنْهُ، وَرَأَى مَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؛ فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إِذَا أَحْسَنْتُ، وَإِذَا أَسَأْتُ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ، فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ، فَقَدْ أَسَأْتَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.

وَسُوءُ العَمَلِ سَبَبٌ لِعَذَابِ الدُّنْيَا مَعَ سُوءِ العَذَابِ فِي الآخِرَةِ؛ وَلِذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنبياء: 76، 77] وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي لُوطٍ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) [الأنبياء: 74].

فَحَذَارِ حَذَارِ مِنْ سُوءِ العَمَلِ؛ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِسُوءِ الحَالِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، سَبَبٌ فِي الدُّنْيَا لِضِيقِ الرِّزْقِ، وَذَهَابِ الأَمْنِ، وَحُلُولِ النِّقَمِ، وَسَبَبٌ فِي الآخِرَةِ لِسُوءِ الحِسَابِ وَسُوءِ العَذَابِ وَسُوءِ الدَّارِ، وَسُوءِ المِهَادِ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...