المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
الحاسد إذا رأى نعمة ما على غيره يتحرك قلبه بالحقد، وتنغاض نفسه الخبيثة، فيتمنى لهذه النعمة أن تزول عن ذلك الإنسان. وبعض الناس يحسد مَنْ يعرف من الناس ومن لا يعرف، يحسد مَنْ يحب ومن لا يحب، يحسد هذا لجماله، وذاك لماله، أو لمنصبه، وهذا يحسد جاره لبيت بناه، أو سيارة اشتراها، أو أثاث زيّن به بيته، وأخرى تحسد جارتها على كل شيء، تحسدها إذا خطبت ابنتها، أو...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
قال بعض السلف: "الحسد أوّل ذنبٍ عُصِيَ الله به في السماء" يعني حسد إبليس لآدم -عليه السلام- "وأوّل ذنب عُصي الله به في الأرض" يعني حسد ابن آدم لأخيه حتى قتله.
والواقع الإنساني يشير إلى استشراء ظاهرة الحسد في المجتمعات، وكثرة الحاسدين، ولا يسلم منه إلا من رحم الله.
ولعلّ مَنْ يحسد الناس يستهين بفعله هذا، ويظن أنه ليس بذاك الذنب، خاصة وأن أصل الحسد كَامِنٌ في باطن الإنسان، وقلّ من يطلع عليه، ولذلك دعونا في هذه الخطبة نضع الحاسد في ميزان العقيدة، لنرى ماذا قالت فيه؟ وبماذا وصفته؟
عباد الله: الحاسد صاحب عقيدة مهينة، وإيمان ضعيف غير مستقر؛ ففي الحديث الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد".
لا يجتمعان؛ لأن الإيمان نور والحسد ظلمة، ولأن الإيمان طهارة والحسد نجاسة، فهل يقبل المؤمن على نفسه هذا؟
الحاسد صاحب قلب مريض مصاب بداء الحسد، فالقلوب تمرض كما تمرض الأجساد، ففي الحديث الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد، والبغضاء".
فالحسد داء يصيب الإنسان.
الحاسد صاحب نفس خبيثة كارهه للخير، كما قال تعالى: (حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم)[البقرة: 109].
جِيءَ فِيهِ بِ"مِنِ" الِابْتِدَائِيَّةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَأَصُّلِ هَذَا الْحَسَدِ فِيهِمْ، وَصُدُورِهِ عَنْ نُفُوسِهِمْ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةِ "عِنْدِ" الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِقْرَارِ لِيَزْدَادَ بَيَانُ تَمَكُّنِهِ.
ويقول ابن تيمية إنّ الحسد هو: "البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود".
فالحاسد إذا رأى نعمة ما على غيره يتحرك قلبه بالحقد، وتنغاض نفسه الخبيثة، فيتمنى لهذه النعمة أن تزول عن ذلك الإنسان.
وبعض الناس يحسد مَنْ يعرف من الناس ومن لا يعرف، يحسد مَنْ يحب ومن لا يحب، يحسد هذا لجماله، وذاك لماله، أو لمنصبه، وهذا يحسد جاره لبيت بناه، أو سيارة اشتراها، أو أثاث زيّن به بيته، وأخرى تحسد جارتها على كل شيء، تحسدها إذا خطبت ابنتها، أو نجح ابنها، أو رأتها فرحه مع زوجها، بل لربما يحسد الجار جاره على شجرة مثمرة أمام منزله، وذاك موظف مشحونة نفسه بالكراهية لزملائه كلما ترقوا أو ازدادوا مالا ومكانة، وهكذا يدبّ الحسد في كل مفاصل الحياه، ويملؤها كما يملؤ الحسد أوصال الحاسد؛ فهل هذه من أخلاق المؤمن؟
أيها المؤمنون بالله وبالقدر خيره وشره: الحاسد في ميزان العقيدة هو إنسان متسخط على أقدار الله؛ لا تعجبه أقدار الله، الحاسد لا يثق بالله ولا بحكمة الله، ولا يرضى بقضاء الله.
يقول ابن القيم: "أصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود".
فالحاسد في حقيقته معترض على الله -سبحانه-.
نَعَم، معترض على الله، لماذا أعطى هذا ولم يعطه هو؟ لماذا يوزع نعمه بتلك الطريقة؟
كما قال ربك عن حُسّاد قريش: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31].
هذه هي حقيقة الحاسد، إنه لا يؤمن حقيقة بأن الله هو المعطي والمانع، وهو الرزاق، وهو المنعم، وهو صاحب الإحسان والفضل، وهو صاحب القدر والقضاء: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)[الأنعام: 165].
إنه لا يؤمن بحكمة الله فيما يقضيه لعباده، إنه لم يعرف بعد حقيقة: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)[التين: 8].
هذا هو الحاسد إنه معترض على الله، لماذا؟
لأن النعم التي يحسد الآخرين عليها هي من عطاء الله حقيقة، هي من فضل الله على عباده، فما ذنب الآخر حتى تحسده؛ كما قال سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)[النساء : 54].
والله -سبحانه- لا يوجد أحد إلا وله عليه الأفضال الكثيرة.
الحاسد في ميزان الله هو فاعل لمحرم من المحرمات؛ قال النووي في شرحه لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".
"باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، والحسد تمني زوال النعمة وهو حرام".
وكون حكم الحسد حراماً، أمر متفق عليه بين العلماء.
الحاسد في ميزان الله هو ظالم ومفسد، ظالم لأخيه المسلم، ومفسد بين الناس، والله لا يحب الظالمين، والله لا يحب المفسدين.
الحاسد قد يحسد أهل بيته وجيرانه وأقاربه ومن معه بالعمل والوظيفة، ويكيد لهم.
انظروا إلى إخوة يوسف -عليه السلام- كيف حسدوا أخاهم الصغير يوسف، ودبروا له المكيدة والحيل للايقاع به؛ كما سجل القرآن ذلك: (لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [يوسف: 5].
والحاسد لا يترك أحداً حتى الدعاة والعلماء يحسدهم على نجاحهم في دعوتهم، أو تفوقهم في عملهم الديني.
نعم، إن الحسد مفسدة عظيمة؛ لأن الحاسد يفسد بين العالِم والحاكم، ويفسد بين التاجر وزبائنه، وبين الموظف ومسؤوله، وبين الزوجة وزوجها، والولد ووالده، والصديق وصديقه، وبين الشريك وشريكه، والمعلم وتلاميذه.
فالحاسد رجلا كان أو امرأة يدخل إلى كلّ محلّ نظيف ليوسخه، والى كل طيب ليفسده، وإلى كل عامر ليخربه، وإلى كل متصل ليقطعه، حتى بين الأسرة المتماسكة يدخل إليها ليفككها.
ولذلك قيل للحسن البصري: أيحسِد المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أباً لك؟!
أيها الحاسد: اعلم أن قدوتك إبليس اللعين، نعم، إبليس، فهو أوّل من ارتكب ذنب الحسد في الوجود كله، حينما حسد آدم على نعمة الله عليه، تكبراً وغروراً وإعجابا بنفسه، فكان من الخاسرين.
اعلم أن حسدك هذا يلحق الضرر بالمحسودين في معنوياتهم وفي أموالهم، وفي أجسادهم، وفي أسرتهم، فأين تقواك لله؟
فهذا أحد ابني آدم حسد أخاه، فقاده حسده له لقتله.
واعلم أن حسدك هذا محرقة لحسناتك ولأجرك، ومجلبة للسيئات؛ كما في الحديث الصحيح: "... الحسد، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تَحْلِقُ الشعر ولكن تحلق الدين".
أيها المؤمنون بالله: إذا أردنا أن نعرف خطورة الحسد والحاسدين فما عليك إلا أن تقرأ الآية الأخيرة من سورة الفلق، والتي يقول الله فيها: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 5].
ما معنى هذا؟
معنى هذا: أن الله -سبحانه- يطلب من عباده أن يحتموا به، ويستعيذوا به -سبحانه- من شرّ ذلك الإنسان الخبيث الذي يحسد الآخرين، رجلا كان أو امرأة.
فيكفيك -أيها الحاسد- وضاعةً وزوراً وظلماً: أنّ الله قرنك بالسحرة، وجعلك مثل الشيطان يُسْتعاذ بالله منك؛ فكيف -أيها المؤمن- تقبل على نفسك هذا؟ وكيف أيتها المؤمنة ترضين لنفسك كلّ هذا؟
ألا فلنترك الحسد، ولنطهّر قلوبنا من هذا الشر الأثيم، ونزكي نفسنا من هذا الخبث الأليم قبل الرحيل، وملاقاة ربّ العالمين، الذي مقت الحسد والحاسدين.
أقول قولـي هـذا، وأستـــغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
يا عبد الله، أيها المسلم: لا تسلك طريق الحسد، واسلك طريق التنافس على فعل المعروف والمبادرة للخيرات، اسلك طريق الغبطة، وتمني الطاعة والزيادة من فعل الصالحات؛ ففي صحيح البخاري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل عَلَّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له، فقال: ليتني أوتيتُ مثلما أُوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يُهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أُوتيتُ مثل ما أُوتي فلان فعملت مثل ما يعمل".
نعم، اسلك طريق عمر بن الخطاب وأبي بكر -رضي الله عنهما- فقد روى أبو داود في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلتُ: والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا".
هو كما قال ربك -سبحانه-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
أيها العبد المسلم: لا تجعل قلبك مريضا بداء الحسد، ولا تكن من أصحاب النفوس الخبيثة بل كن صاحب قلب مطمئن بقضاء الله، وصاحب نفس راضية بما قسم الله، فقد يكون الحرمان من بعض الأمور فيه خير لآخرتك، ولله الحكمة البالغة في كل ما يعطي ويمنع.
فلا تكن مبغضا لأخيك المسلم، ولا لنعم الله عليه، بل كن كما طلب منك رسولك -صلى الله عليه وسلم- حينما قال لك: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه".
ولا تتناسى ولا تتغافل عن نِعَم الله عليك، وترى فقط ما عند الآخرين.
نعم -يا عبد الله-: لا تجعل قدوتك إبليس، ولا اليهود في حسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، بل اجعل قدوتك الصحابة -رضوان الله عليهم- الذي امتدحهم الله، فقال فيهم سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا)[الحشر: 9].
"أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فَضَّلَهم الله به من المنزلة والشرف والتقدير في الذِّكر والرتبة".
وتذكر -أيها المسلم-: أن الدنيا لو أعطاها الله لغيرك فإنها لا تعدل جناح بعوضه، وتذكر أن مَنْ تحسده إنْ كان من أهل الجنة فما ينتظره من نعيم الجنة أعظم بكثير مما ناله في الدنيا، وإن كان من أهل النار فما سيلقاه من عذاب وبؤس في الآخرة هو أكبر من كل ما في يديه من حطام الدنيا الفانية.
تذكر -أيها الإنسان-: أنك بحسدك للآخرين لن تكسب شيئا، ولن تزداد رزقاً، قال رجل لشريح القاضي: إني لأحسدك على ما أرى من صبرك على الخصوم، ووقوفك على غامض الحكم، فقال له شريح: "ما نفعك الله بذلك ولا ضرني".
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين.