الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الاستجابةُ لله والرسول هي الاستجابةُ للإسلام بكل ما فيه، استِجابةٌ شاملةٌ واسعةٌ في كل شيءٍ دعانا إليه ربُّنا ورسولُنا -صلى الله عليه وسلم-. يستجيبُ المسلم لله في كل شؤون حياتِه، في الصلاة، والزكاة، والصيام، في طاعة الوالدَين، وصِلة الأرحام، والمُعاملات، في لِباسِه وهيئتِه وعملِه. والمرأةُ تستجيبُ لله في حجابِها، وسترها، وزينتها، ومنزلها، وعلاقتها مع زوجِها وأطفالِها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي أمرَنا بالاستِجابة، وحثَّنا على بلوغ الفضل والإنابَة، أحمده -سبحانه- وأشكرُه على نعمة التوفيق وطريق السعادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في النُّسُك والصلاة والعبادة، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه علَّمَنا منهجَ الرَّشاد والقيادة، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه أُولِي العزم والسيادة.
أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
الاستجابةُ لله والرسول هي الاستجابةُ للإسلام بكل ما فيه، استِجابةٌ شاملةٌ واسعةٌ في كل شيءٍ دعانا إليه ربُّنا ورسولُنا -صلى الله عليه وسلم-.
يستجيبُ المسلم لله في كل شؤون حياتِه، في الصلاة، والزكاة، والصيام، في طاعة الوالدَين، وصِلة الأرحام، والمُعاملات، في لِباسِه وهيئتِه وعملِه. والمرأةُ تستجيبُ لله في حجابِها، وسترها، وزينتها، ومنزلها، وعلاقتها مع زوجِها وأطفالِها.
سرعةُ الاستِجابة دليلُ الصدقِ في الاستِسلام، وهي ثمرةُ العلم النافع والعمل الصالح.
المُستجِيبُون لله ورسوله هم أهلُ الفلاح، وهم المؤمنون حقًّا، الفائِزون بالمطلوب، النَّاجُون من الكُرُوب، فتقرُّ أعينُهم، وتسعَدُ أرواحُهم.
قال الله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].
هذا هو قولُ أهل الإيمان: سمِعنا وأطعنا، في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر. أما المُنافِقون فشِعارُهم الإعراضُ والتولِّي، وديدَنُهم الصدُّ عن سبيل الله، ومُخالفةُ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء: 61].
في الاستِجابة لله والرسول حياةُ القلبِ والعقل، حياةُ النفس والمُجتمع، حياةُ الأمة كلِّها، ولهذا كان أكملُ الناس حياةً أكملَهم استِجابة، ومن ضعُفَت استِجابتُه ضعُفَ قلبُه ونقصَت حياةُ حياتِه، وأما من ماتَ قلبُه فلا استِجابةَ عنده؛ قال الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [النمل: 80].
أما الذين يرفُضون الاستِجابةَ لله ورسوله فإنهم يرفُضُون الحياةَ الكريمةَ، وليس لهم إلا الدُّون، ومصيرُهم الهلاك، ومآلُهم الدمارُ والوَبالُ، قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم: 28، 29].
ثم يقول الله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].
النُّكوصُ عن الاستِجابة يُسبِّبُ الاختلاف، واضطرابَ الأحوال، واختِلال الميزان، وشُيُوع الفساد، وهو المُعبَّرُ عنه بالفتنة.
عن زينَب بنت جحشٍ -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرجَ يومًا فزِعًا مُحمرًّا وجهُه يقول: "لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتَرَب، فُتِح اليوم من رَدم يأجوج ومأجوج مثلُ هذا". وحلَّقَ بإصبَعِه الإبهامِ والتي تلِيْها. قالت: فقلتُ: يا رسول الله: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟! قال: "نعم، إذا كثُر الخبَث".
الأمةُ التي تستجيبُ لوحيِ ربِّها، وتُسلِمُ وجهَها لبارِئها يحسُنُ حالُها، وتتغيَّرُ حياتُها صلاحًا وإصلاحًا، ويتحقَّقُ لها الأمنُ والحياةُ الطيبة، والوحدة الصادقة بين المؤمنين، وتتحوَّلُ العداوةُ والبغضاءُ إلى أن يكونوا بنعمة الله إخوانًا، كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مثلُ الجسَد إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى".
ويستجيبُ الله للعباد إذا استجابُوا له -سبحانه-، وهو يُقدِّرُ الاستِجابةَ في وقتها بتقديرِه الحكيم، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُستجابُ لأحدِكم ما لم يعجَل فيقول: قد دعوتُ فلم يُستجَبْ لي!". أخرجه البخاري ومسلم.
يستجيبُ الله لمن استجابَ له، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران: 195].
ولما حصلَ الخللُ في الاستِجابةِ لله ورسولِه مُنِعوا إجابة الله، ووُكِلوا إلى أنفسهم، ومن وكلَه الله إلى نفسِه خسِرَ وضعُفَ وذَلَّ.
وفي سُرعة الاستجابة سطَّر الأوائِلُ مواقِفَ خالِدَة يتلقَّى أحدُهم الأمرَ أو النهي، فيستجيبُ فورًا دون تردُّدٍ، يُحوِّلُه إلى واقعٍ ملموسٍ وفعلٍ محسوسٍ. وهذا يُنبِئُ عن عُمق إيمانٍ وصدِقِ إذعانٍ.
يقول أنسٌ -رضي الله عنه-: "بينما أنا أُديرُ الكأسَ على أبي طلحَة وفلان، فسمعتُ مُنادِيَ يُنادِي: ألا إن الخمرَ قد حُرِّمَت". قال: "فما دخلَ علينا ولا خرجَ منا خارِجٌ حتى أهرَقْنا الشرابَ، وكسَرْنا القِلال، وتوضَّأَ بعضُنا واغتسلَ بعضُنا، وأصَبْنا من طِيبِ أمِّ سُلَيم، ثم خرَجنا إلى المسجِد فإذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]".
وتقول عائشةُ -رضي الله عنها-: "إن لنساءِ قُريشٍ لفَضلاً، وإني -والله- ما رأيتُ أفضلَ من نساءِ الأنصار، أشدَّ تصديقًا لكتاب الله، ولقد أُنزِلَت: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31]، فانقلَبَ رجالُهنَّ إليهنَّ يتلُون ما أنزلَ الله إليهنَّ فيها، ويتلُو الرجلُ على امرأتِه وابنتِه وأختِه وعلى كل ذي قرابَته، فما منهنَّ امرأةٌ إلا قامَت إلى مِرطِها المُرحَّل، فاعتجَرَت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزلَ الله في كتابِه، فأصبَحن وراءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُعتجِراتٍ كأنَّ على رُؤوسهنَّ الغِربان".
ورأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ذهبٍ في يدِ رجُلٍ، فنزعَه وطرحَه وقال: "يعمِدُ أحدُكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلُها في يدِه". فقيل للرجُّلِ بعدما ذهبَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: خُذ خاتمكَ وانتفِع به. فقال: لا والله، لا آخُذُه أبدًا وقد طرحَه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: الحجُّ شُرِع استجابةً لله، جاء الحُجَّاج من كل فجٍّ عميقٍ استِجابةً لله ورسولِه، والاستجابةُ في الحجِّ في كل منسَكٍ وموقِفٍ، هؤلاء وفدُ الله ترَكُوا الأهلَ والمالَ والأوطانَ، دعاهُم ربُّهم للطوافِ بالبَيتِ فاستَجابُوا، ودعاهُم للحَجَر الأسوَد وتقبيلِه أو الإشارَة إليه فاستَجابُوا، مع علمِهم أنه حجرٌ لا يضرُّ ولا ينفع.
دعاهم للخُروج لمِنَى، والمبيت بها، وأعلَنوا الاستِسلام لله وحُكمِه، لا يقصِدُون بذلك رِياءً ولا سُمعةً، الإخلاصُ شِعارُهم، والمُتابَعةُ دِثارُهم، "لبَّيك اللهم لبَّيك" هي رمزُ الاستِجابة الكامِلة؛ أي: أفعلُ هذا تلبيةً لدعوتك، واستِجابةً لأمرك، واقتِداءً بنبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- القائل: "الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة". متفق عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي منَّ علينا وهدانا، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه على ما حبانا وأولانَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم.
أما بعد:
فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
وللاستِجابةِ علامات، أبرزُها: إقامةُ الصلاة، والشُّورى في الأمر، والإنفاقُ في سبيل الله، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الشورى: 38].
الكِبرُ وحبُّ الرِّياسَة والانغِماسُ في التَّرَف من مُعوِّقات الاستِجابة، واتِّباعُ الهوَى يصدُّ عن الاستِجابة، قال الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص: 50].
إخوة الإسلام: من استجابَ لله نالَ الحُسنى، ومن أعرضَ وعصَى ولم يستجِب فبئسَ المآل، ولن يُغنِيَ عنه جمعُه ولا مالُه ولو أتَى بمِلءِ الأرض ذهبًا ومثلِه معه ليفتدِيَ به، قال الله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [الرعد: 18].
ألا وصلُّوا -عباد الله- على رسول الهُدى؛ فقد أمرَكم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشِدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الآل والصَّحبِ الكِرام، وعنَّا معهُم بعفوِك وكرمِك ومنِّك يا أكرمَ الأكرَمِين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين، ودمِّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المُسلمين.