الحيي
كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ما الذي نشاهده اليوم -أيها الاخوة- هل قضي على هذه الأخوة ونسينا روحها ورائحتها؟!، هل ذبحت بغير سكين؟!، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين ويتصدق، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ ملئ قلبه بالعصبية للأشخاص والأحزاب والآراء والمذاهب والمناطق والبلاد، فلأجلها يحب ومن أجلها يعادي، وفي سبيلها يقاتل، بل إنك لتجد من يعترف أنه على خطأ في قوله وفعله وسلوكه، ومع ذلك يتعصب...
الخطبة الأولى:
أيها الاخوة: اسمحوا لي اليوم ان أتحدث إليكم حديث المسئولية الملقاة على عاتقكم, حديث الأمانة التي حملتموها, حديث التغيير الذي يبدأ من نفوسكم, حديث الإصلاح الذي تنشدونه في كل شئونكم.
لقد وصلنا اليوم إلى ما وصلنا إليه من الحال الذي تعرفونه, والأوضاع التي تلامسونها بسبب جملة من الأمراض التي كنا سببا في نشأتها, وعاملا رئيسيا في انتشارها, والمرض إذا أهمل سرى في الجسم وانتشر وتغلغل في المفاصل؛ فأوهن البدن وأتعبه ودمره وثبطه, وهكذا المجتمعات مثل الجسد إذا غزتها الفيروسات السلوكية؛ تصدعت وتخلخلت, ولن يصح لنا حال ولن يبرأ لنا وضع حتى نتخلص جميعا بيد واحدة, كل ينطلق من مسئوليته ودوره، ينطلق من الألم الذي يشعر به ويلامسه، ينطلق من الجو المحيط به, ويسعى جاهدا للقضاء على كل مرض يرهق المجتمع ويصدعه, ويساهم في تفتيته وانقسامه.
ومن هذا المنطلق فإني سأتحدث اليوم بين أيديكم عن مرض فتاك من هذه الأمراض, عانينا منه ونعاني وسنعاني لأيام قادمات, وسيجني ثماره الأبناء بسبب تفريط الآباء.
هذا المرض الذي يتشربه المجتمع تشرب الإسفنج للماء؛ بسبب ما يحقنه الاعلام اليوم بمرئيه ومسموعه من جرعات مركزة, تمتلئ حقداً وكراهية على بعضنا البعض, ويستمر التأجيج حتى تظهر أعراضه بيننا, كلمات نلفظها, وافعالا نمارسها, وعداوات نحصد شوكها, ومجتمع هش لا حياة له.
هذا المرض الذي مازال الإعلام اليوم ينشره ويحقنه في المجتمع هو التعصب بجميع مظاهره؛ التعصب للجنس البشري، التعصب للون أو للأسرة والقبيلة والنسب، التعصب للمنطقة والمكانة والبلد، التعصب للرأي، التعصب للمذهب، التعصب للأشخاص، التعصب للحزب.
خلق من أخلاق الجاهلية يملؤه النتن, وتفوح رائحته برائحة كريهة حذر منها الإسلام أبناءه, وحذر من تغلغله في المجتمع وطارد فلوله في الأزقة الطرقات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكلُّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ". وغضب لذلك غضبًا شديدًا (السياسة الشرعية، لابن تيمية).
التعصب أن يعتقد الإنسان أنه أفضل من غيره؛ بسبب لونه أو جنسه، أو قبيلته أو نسبه، أو مذهبه أو مهنته ووظيفته، أو حزبه أو رأيه، هذه العصبية لم تدخل في مجتمعٍ إلا فرَّقته، ولا في عمل صالحٍ إلا أفسدته، ولا في كثيرٍ إلا قللَّته، ولا في قوي إلا أضعفتْه، وما نجحَ الشيطانُ في شيءٍ مثلما نجحَ فيها.
لقد بين الله -سبحانه وتعالى- أن الناس جميعاً متساوون، خلقوا من تراب، وقسم بينهم معيشتهم، وجعلهم شعوباً وقبائل، وجعل شرط التميز التقوى له، والقرب منه، والالتزام بشرعه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
أيها المؤمنون: بالإيمان والتقوى يترجح ميزان الإنسان، ويرتفع قدره عند الله، وما عدا ذلك فلن يغني عنه من الله شيئاً، أعلن ذلك محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يخاطب البشرية في خطبة الوداع: "يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] "ألا هل بلغت؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "فيبلغ الشاهد الغائب". (رواه البيهقي في الشعب، والمنذري في الترغيب والترهيب وصححه الألباني).
قال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة، إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة، ثم بكى بكاءً شديدا، وسقط على الأرض مغشيا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي -رضي الله عنهم أجمعين-، فرفعت رأسه في حجري وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده، ففتح عينيه وقال: من هذا الذي يهجم علينا?. قلت: أنا الأصمعي، ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة?. فقال: هيهات هيهات -يا أصمعي-، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً، أليس الله تعالى يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) [المؤمنون: 101].
هذا ما تعلموه من محمد -صلى الله عليه وسلم-, الذي ما برح محذرا من التعالي والتفاخر بالأنساب والأحساب، فقالها مدوية يلقنها البشرية من بعده : "إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عِبية الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين أقوامٌ عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان، التي تَدفع النتن بأنفها". (رواه أبو داود في السنن وأحمد في المسند وحسنه الألباني رحمه الله).
إنه تحذير نبوي كريم من فيروسات الجاهلية وآثارها التي جاء الإسلام ليحطمها، ويقيم عليها البناء الشامخ القوي, إنها أخوة الإسلام التي لا ترقى إليها العصبية، ولا تؤثر فيها الجاهلية أخوة الإسلام التي لا تعرف حزبيات ولا مناطقيات ولا طائفيات.
ما الذي نشاهده اليوم -أيها الاخوة- هل قضي على هذه الأخوة ونسينا روحها ورائحتها؟!، هل ذبحت بغير سكين؟!، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين ويتصدق، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ ملئ قلبه بالعصبية للأشخاص والأحزاب والآراء والمذاهب والمناطق والبلاد، فلأجلها يحب ومن أجلها يعادي، وفي سبيلها يقاتل، بل إنك لتجد من يعترف أنه على خطأ في قوله وفعله وسلوكه، ومع ذلك يتعصب بالحق وبالباطل وينتصر لموقفه وهواه؛ ولو خالف جميع الشرائع والقيم.
ألا يعلم هؤلاء أن إمام الانسانية -صلى الله عليه وسلم- قد زجر البشرية عن ذلك ونهى، فقال محذرا : "من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم -أي من جماعتها-. قالوا: يا رسول الله: وإن صام وإن صلى؟. قال: وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم, فادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله -عز وجل- المسلمين، المؤمنين، عباد الله -عز وجل-". (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، والحاكم في المستدرك).
إنها العصبية التي دمرت الحياة، وقلبت الموازين، وغيرت القيم، ونشرت الرذائل؛ وبسببها انقسم المجتمع وبدأت تظهر النعرات المختلفة التي تسمعونها اليوم تسري في الأزقة والطرقات.
وآلت اليمن اليوم إلى نداءات عصبية يغذيها الإعلام, وتلوكها الألسن, ونراها تصرفات بين بعضنا البعض. وهل نطمح بعدها إلى بناء البلد وتلبية طموحات أبنائه الذين يطحنهم اليوم التشاجر ويفتتهم التناحر والتنابز؟.
عباد الله: ومن أبرز مظاهر التعصب في حياتنا اليوم: التعصب الحزبي، والذي بسببه طمست الحقائق، وضيعت الحقوق، وأهملت الواجبات، وكثرت الصراعات، وحلت البغضاء، وقل الإنتاج، وأهدرت الأموال، وأصبحت قيم الحب والإخاء والمودة بين الناس قائمة على الانتماء الحزبي، فأين نذهب من قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10].
الحزبية في كل بلاد العالم أسلوب عمل ومشروع بناء, يتنافس فيه الناس على تقديم الأفضل لبناء بلدانهم؛ إلا في بلدنا اليوم أصبحت وسيلة للهدم والإقصاء, وبسببها سُيست القضايا وتبادلنا الاتهامات, واتهمنا بعضنا البعض بسوء النوايا.
إن الأحزاب في العمل السياسي ما وجدت إلا لأجل تنسيق الجهود بين الأفراد والمجموعات، والتنافس في خدمة المجتمع، وإثراء الحياة بكل مفيد وجديد، وتعميق حب الدين والقيم الفاضلة، ونشر الخير في النفوس، ومتى ما خرجت عن رسالتها أصبحت معول هدم في جسد الأمة، وسبب لتخلفها وتأخرها، وواجب على كل مسلم أن يقوِّم الاعوجاج، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يبن الحق من الباطل، والخير من الشر؛ تعبداً لله، وإعذارا إليه، وطلباً للنجاة من عقابه، وطمعاً في ثوابه
.
والإنسان الواعي يدرك أن انتماءه لحزب ما أو جماعة ما؛ لا يعني أن ينسى أن رابطة الدين ووشائج الإيمان مع المسلمين من حوله أعظم من كل رابطة ووشيجة, ويسعى للتقريب بين وجهات النظر ولم الشمل وجمع الكلمة والنصيحة ولو على نفسه.
ومن التعصب: التعصب للرأي، فيعتقد أن رأيه هو الصواب ودونه يكون الخطأ، ولا يناقش ولا يحاور غيره من الناس، وقد حكى القرآن الكريم لنا نماذج من المتعصبين، منكرا عليهم، ومنددا بمسلكهم، تحذيرا للمسلمين أن يحذوا حذوهم، فقال عن بني إسرائيل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) [البقرة: 91]. إن رفع شعار (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) [غافر: 29].منطق فرعوني واضح وسلوك منحرف في المجتمعات.
من ذا الذي يريد أن يعيش في البلد وحده مقصياً لآراء الآخرين وأفكارهم وتنوعاتهم حاملا لهم على فكرته ورأيه.
لقد تغلغلت ثقافة التعصب في حياتنا حتى على أتفه الأشياء؛ للفرق الرياضية والمنتخبات واللاعبين، وبسببه نشأت الخصومات والعداوات، وأهدرت الأموال والأوقات.
إذن لنحذر من هذه العصبية بجميع مظاهرها، ولننشر في مجتمعاتنا ثقافة الحب والتسامح والتراحم، والتعايش في الوطن الواحد, والكف عن تصيد الزلات وتبادل الاتهامات, والدخول في النيات, ولنحذر من وساوس الشيطان ونزغاته، ولنقوي أخوتنا، ونوحد صفنا، ونكون عباد الله إخوانا، ولنقوم بواجباتنا، ونؤدي الحقوق التي علينا، ولنتذكر أننا على الله مقبلون، ومن الدنيا راحلون، وعلى أعمالنا محاسبون.