الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن راضي المعيدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
ولما تولى عمر الخلافة وصعد المنبر ألقى خطبته العظيمة، بيّن فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عمرية ما سمع الناس بمثلها. كان عمر يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم، تأتيه القوافل محمّلة بالغنائم والفيء والذهب والفضة على الجمال وتدخل المدينة، وخليفة المسلمين يصلي بالناس في بردته وبها أربع عشرة رقعة تختلف بعضها عن بعض...
الخطبة الأولى:
عباد الله: إن لهذه الأمة سلفًا، هم أبر الناس قلوبًا، وأحسنهم إيمانًا، وأقلّهم تكلفًا، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية.
وإننا اليوم على موعد مع واحدٍ من هؤلاء العظماء، إنه رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجلٌ غليظٌ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، وليٌ من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مُرقَّع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، إنه شهيد المحراب، إنه من قُتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، أظنكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، إنه الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأرضاه وجمعني وإياكم في زمرته.
سنتحدث في هذا اليوم عن سيرته العطرة وفضائله، ونستلهم من ذلك الدروس والعبر، وأول هذه الفضائل -يا عباد الله-ـ أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يفسِّر ثلاث رؤى رآها في المنام، كلها لعمر -رضي الله عنه-، وكلها صحيحة كالشمس.
الأولى: قال -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا نائم؛ رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قُمُص، منها ما يبلغ الثُّدِي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره"، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين". دينه يغطيه، دينه يستره، فلا يظهر منه إلا كلّ جميل، ولا يخرج من فيه إلا كل حق.
الثانية: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بينا أنا نائم أُتِيت بقدح لبن، فشربت، حتى إني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب"، قالوا: فما أوّلته يَا رسولَ الله؟ قال: "العلم". سبحان الله! رجل اجتمع له العلم والدين، فأي رجل هو؟!.
الثالثة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قال: "بينا أنا نائمٌ رأيتُني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضّأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبرًا"، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!.
وقال -صلى الله عليه وسلم- يخاطب عمر: "والذي نفسي بيده، ما لقيَك الشيطان سَالكًا فجًا قط إلا سلَك فجًّا غير فجّك". وسأل عمرو بن العاص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أحب الرجال إليه فقال: "أبو بكر"، قال: ثم من؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب" وعدَّ رجالاً.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ينزع من بئر، فجاء أبو بكر فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين، قال: ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر، فاستحالت في يده غربًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن. ولقد صدق الله رسوله الرؤيا، فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر -رضي الله عنهما-، وقوي سلطان الإسلام، وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس، حتى قيل: إن الفتوحات في عهده بلغت ألفًا وستًا وثلاثين مدينة مع سوادها، وبنى فيها أربعة آلاف مسجد.
قال ابن سعد في طبقاته: "إنَّ أوّل من سُمِّي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وإنه أول من كتب التاريخ، كتبه من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، وهو أولُ من جمع القرآن في المصحف، وهو أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان وكتب به إلى البلدان".
أيها المسلمون: وإذا أردنا أن نتحدث عن سيرة عمر فبماذا وعن ماذا نتحدث؟! أنتحدث عن دينه وعلمه، أو نتحدث عن زهده وورعه وتقواه، أو عن حكمه وسياسته وعدله، أو عن شجاعته وقوته وجهاده، أم عن محافظته على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتمسك بها وتأديب كلّ من حاول الإحداث في الدين، أم عن سهره ومراقبته لكل ما يحدث في البلاد ومتابعته بنفسه لكل صغيرة وكبيرة؟! حقًا إنك لتحتار وأنت تتحدث عن عمر!.
لقد كان إسلامه فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة، كما قال عبد الله بن مسعود: "ولقد رأيتُنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي". أي: كفار قريش. والقتال هنا المضاربة باليد؛ لأن الجهاد لم يؤذَن به إلاّ بعد الهجرة. لقد أعلن عمر -رضي الله عنه- إسلامَه وجهر به وازداد المسلمون عزةً وقوةً بإسلامه.
عن ابن عمر -رضي الله عنه-ما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه". وقد قال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا عن عمر -رضي الله عنه-: "كان فيما خلا قبلكم من الأمة ناس مُحّدَّثون -أي: ملهَمون-، فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب". والمحدَّث هو الملهَم، وهي منزلة جليلة من منازل الأولياء. وقد قيل عنه -رضي الله عنه-: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر؛ إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر.
وقد وافق القرآن قول عمر -رضي الله عنه- في عدة مواقف، منها ما قاله للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يحجب زوجاته أمهات المؤمنين، فنزل الأمر بالحجاب، وقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- حينما طاف بالكعبة في العمرة: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزل قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125].
ولما تولى عمر الخلافة وصعد المنبر ألقى خطبته العظيمة، بيّن فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عمرية ما سمع الناس بمثلها. كان عمر يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم، تأتيه القوافل محمّلة بالغنائم والفيء والذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وخليفة المسلمين يصلي بالناس في بردته وبها أربع عشرة رقعة تختلف بعضها عن بعض. وكان -رضي الله عنه- إذا هدأت العيون وتلالأت النجوم يأخذ درّته ويجوب سكك المدينة، علّه يجد ضعيفًا يساعده أو فقيرًا يعطيه أو مجرمًا يؤدّبه.
وبينا هو يمشي في ليلة من الليالي إذ بامرأة في جوف دارٍ لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القِدْرُ الذي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيه ماءً، هو ذا، أُعلّلهم به حتى يناموا، وأوهمهم أن فيه شيئًا، فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غِرارة، وجعل فيها شيئًا دقيقًا وشحمًا وسمنًا وتمرًا وثيابًا ودراهم حتى ملأ الغرارة، ثم قال لمولاه: "يا أسلم، احمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك، فقال: لا أمّ لك يا أسلم، أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة"، فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: "فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا".
أيها الأحبة: كان عمرو بن العاص واليًا على مصر في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، لماذا يضربه؟ فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط فاضرب، فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله، فما أقلع عنه حتى تمنّينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر لعمرو -رضي الله عنهما-: "منذ كم تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارً؟!". قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني.
تلك هي عدالة عمر، وتلك مقولته الخالدة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!.
وتستمر مسيرة عمر الخالدة، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعًا، فحلف عمر أن لا يأكل سمينًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان يبكي ويقول: آلله يا عمر، كم قتلت من نفس؟ وهل قتل عمر أحدًا؟! لا والله ما قتل، وإنما أحيا الله به النفوس.
وقف على المنبر يوم الجمعة ببُرْده المرقّع، وأثناء الخطبة قرقر بطنه، أمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: "قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
عباد الله: ومن المواقف العظيمة في سيرة عمر -رضي الله عنه-, أنه حينما أرسل كسرى مستشاره الهرمزان إلى المدينة يريد عمر لابسًا تاجًا من ذهب وزبرجد وعليه الحرير، يدخل المدينة فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتًا من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال: أين حرسه؟ قالوا: ليس له حرس، فطرق الهرمزان الباب، فخرج ابنه، فقال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه، فبحثوا عنه فوجدوه نائما تحت شجرة وقد وضع درّته بجانبه وعليه ثوبه المرقع وقد توسّد ذراعه في أنعم نومة عرفها زعيم، وكأني بالهرمزان يتساءل في نفسه: أهذا عمر؟! أهذا الذي فتح الدنيا؟! هذا الذي دوّخ الملوك؟! هذا الذي داس جماجم الخونة؟! ينام تحت شجرة؟! فانهدّ الهرمزان من الدهشة وقال: حكمتَ فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرًا | بين الرعية عُطلاً وهـو راعيهـا |
فوق الثرى تحت ظلِّ الدوح مشتملاً | ببُردةٍ كاد طول العهـد يبليهـا |
فقال قولـة حـقّ أصبحـت مثلاً | وأصبح الجيل بعد الجيـل يرويها |
أمنـت لما أقمـت العـدل بينهمُ | فنمت نوم قرير العيـن هانيهـا |
وأخرج ابن سعد عن البراء بن معرور أن عمر خرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى، فنُعت له العسل، وفي بيت المال عُكّة، فقال: "إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فهي عليّ حرام"، فأذنوا له.
وخرج مرة في سواد الليل فرآه طلحة -رضي الله عنه-، فذهب عمر فدخل بيتًا، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع؟!.
أيها الناس: هذا تاريخنا، فهل لنا تاريخ غير تاريخ عمر؟! بماذا نتكلم مع الأمم؟! بماذا نفتخر؟! بماذا نتصدى للهجوم البشع على الإسلام؟!