التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
لما قدم عمرُ الشامَ استقبله الناس وهو على بعيره، فقالوا: يا أمير المؤمنين! لو ركبت برذونًا يلقاك عظماء الناس ووجوههم. فقال: لا أراكم ههنا. إنما الأمر من ههنا! وأشار بيده إلى السماء.
الحمد لله الملك الوهاب، هو أعلم حيث يجعل رسالته ويختار لكل نبي الحواريين والأصحاب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعَزَّ الإسلامَ بعُمَرَ بنِ الخطَّاب.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوصَى بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين رضي الله عنهم ورضُوا عنه، ومنهم أبو بكر وعمر، وكانا أولى الصحابة بالخلافة بعده، وحازا قصب السبق إلى قمم الفضائل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر".
أما بعد:
فيا عباد الله! أوصيكم وإياي بتقوى الله تعالى، وأداءِ حقِّه، وامتثال أمر نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، والتصديق بأخباره، ومعرفة فضائل أصحابه، والاجتهاد في الاقتداء بهم، ومحبتهم، فالمرء مع من أحبَّ، وإن لم يلحق به.
وإن أجلَّ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر، وبعد أبي بكر في الفضل والخلافة عمر. ومعرفة فضائلهما من السنة، بل هي عند بعض العلماء، من الواجب. وقال بعض العلماء: إذا أردتم أن يطيب المجلس فأفيضوا في ذكر عمر.
عباد الله: لقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- ربَّه أن يهديَ عمرَ بنَ الخطَّاب، ويُعزَّ الإسلام به، فأجاب الله دعوته، ورأى الصحابة مصداق هذه الدعوة منذ أسلم عمر إلى أن استشهد -رضي الله عنه-؛ فعن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهمَّ أعِزَّ الإسلام بأحبِّ الرجلين إليك: بعمرَ بنِ الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" وكان أحبّهما إليه عمر.
وعن صهيب بن سنان -رضي الله عنه- قال: لمـَّا أسلم عمرُ -رضوان الله عنه- ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حِلَقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ما زلنا أعزَّ منذ أسلم عمر.
واسمعوا -عباد الله- الثناء العطر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صاحبيه أبي بكر وعمر، وتقديره التام لهما، وأمره بالاقتداء بهما، والشهادة لهما أنهما من أهل الجنة، بل من سادات أهل الجنة، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه في المسجد ليس معنا ثالث إذ أقبل أبو بكر وعمر، كل واحد منهما آخذ بيد صاحبه، فقال: "يا عليّ، هذان سيِّدا كهول أهل الجنة ممن مضى من الأولين والآخِرين، ما خلا النبيين والمرسلين؛ يا عليّ، لا تخبرهما بذلك؛ فما أخبرتُ بهذا الحديث حتى ماتا".
وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لست أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر؛ واهتدوا بهدي عمَّار، وما حدثكم ابن مسعود فصدِّقوه" أخرجه الترمذي.
والصحابة والتابعون يعرفون تلك المنزلة الرفيعة لهما -رضي الله عنهما-، فعن أبي حازم، عن أبيه، قال: قيل لعلي بن الحسين -رضوان الله عليهما-: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كمنزلتهما اليوم وهما ضجيعاه.
وعن العتكي، قال: قال هارون الرشيد لمالك: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال كقرب قبرهما من قبره. قال: شفيتني يا مالك. وعن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قال رجل من قريش لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين! سمعتك تقول في الخطبة آنفًا: اللهم أصلحنا بما أصلحتَ به الخلفاء الراشدين المهديين، فمن هم؟ فاغرورقت عيناه، ثم أهملهما، ثم قال: هما حبيباي وعمَّاك: أبو بكر وعمر، إماما الهدى، وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مَن اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هُدي الصراط المستقيم، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله، وحزب الله هم المفلحون.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة ليرَون أهل علِّيِّين كما ترون الكوكب الدريَّ في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما" قيل: يا أبا سعيد! وما "أنعما"؟ قال: أهلُ ذلك هما.
وعن محمد بن المنكدر، قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُدخلت الجنة فرأيت فيها دارًا وقصرًا فسمعت فيه ضوضاء أو صوتًا فقلتُ: لمن هذا؟ فقيل: لعمرَ، فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك"، فبكى عمر وقال: يا رسول الله! أوَيُغار عليك؟.
وفي حديث أبي أمامة قال: "فمضيت، فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين، وذراري المسلمين، ولم أر فيها أحدًا أقلَّ من الأغنياء والنساء. قيل: أما الأغنياء فهم ههنا بالباب يحاسَبون ويحصون. وأما النساء فألهاهن الأحمران: الذهب والحرير؛ ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية، فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوُضِعتُ فيها ووضعَتْ أمَّتي في كفة فرجحت بها، ثم أتي بأبي بكر فوُضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوُضعوا فرجح أبو بكر، ثم أتى بعمر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوضعوا فرجح عمر".
واسمعوا -رحمكم الله- إلى قصة استخلاف أبي بكر وبيعته له وهي تحكي النزاهة التامة من أبي بكر ومن عمر ومن الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، ونُصحِهم لأنفسهم، وللإسلام، ولأمة الإسلام: عن عاصم بن عدي قال: جمع أبو بكر الناس وهو مريض فأمر من يحمله إلى المنبر، فكان آخر خطبة خطب بها، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! احذروا الدنيا ولا تثقوا بها فإنها غدَّارة، وآثِروا الآخرةَ على الدنيا وأحِبُّوها، فبحبِّ كل واحدة منهما تُبغض الأخرى. وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخرُه إلا بما صلح به أوله، ولا يحتمله إلا أفضلُكم مقدرة، وأملككم لنفسه؛ أشدُّكم في حال الشدة، وأسلسُكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة؛ قوي على الأمور، لا يخور لشيء منها حده بعدوان ولا تقصير، يرصد لما هو آتٍ عتادَه من الحذر والطاعة، وهو عمرُ بنُ الخطاب. ثم نزل.
وسمع بعض الصحابة خبر استخلاف عمر فدخلوا على أبي بكر، فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غِلظته؟ فقال أبو بكر: أَجْلِسُوني، أبِالله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم. أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت من وراءك. ثم اضطجع، ودعا عثمان بن عفان فقال: اكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا هو ما عهد أبو بكر الصديق بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدِّق الكاذب: إني استخلفتُ عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله وديني ونفسي وإياكم خيرًا، فإن عدل فذاك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخيرَ أردتُّ، ولا أعلم الغيب، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشُّعَرَاء:227]، والسلام عليكم ورحمة الله".
ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم دعا أبو بكر ورفع يديه وقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فاجتهدت لهم رأيي، فولَّيْتُ عليهم خيرَهم، وأحرصَهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فأخْلِفني فيهم فهُم عبادك. وبعث إلى عمر فقال: لا حاجة لي فيها. قال: ولكن لها بك حاجة، وقد رأيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبته، ورأيت أثرته أنفسنا على نفسه، حتى إن كنا لنهدي إلى أهله فضل ما يأتينا منه، ورأيتَني وصحِبتني، وإنما اتبعت أثر من كان قبلي. هذه هي المبررات العظيمة لاستخلافه لعمر -رضي الله عنهما وأرضاهما-.
فاللهَ اللهَ عبادَ الله! أوصيكم بحب الصحابة عامة، وحب صاحبيه خاصة، والإكثار من الترضِّي عنهما، ومعرفة فضائلهما، والاقتداء بهما في فعل كل واجب، واجتناب كل محرم، وما استطعتم من فعل مندوب وترك مكروه؛ فمَن عرف سيرتهما- رضي الله عنهما- استقل ما عمل من خيرات، ومن كان من الخطائين كان إلى التوبة والإنابة والاستغفار والرجوع إلى الله من المسارعين بتوفيق الله، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التّوبَة:100].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأبرأ إليه ممن أشرك به وكفر.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نُصر بالرعب من مسيرة شهر، حتى إنه ليخافه ملك الروم (بني الأصفر)، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.
أما بعد: فيا عباد الله! إن الخليفتين الراشدين قد رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة؛ ومع تلك الفتوحات العظيمة، والفضائل الكثيرة، كانا أزهد الناس في الدنيا، مقتدييْن بمثَلهما الأعلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، خائفيْن من ربهما، راجيين أرفع ثواب لديه بعد النبيين.
عن محمد بن قيس قال: دخل ناس على حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- فقالوا: إن أمير المؤمنين قد بدا علباء رقبته من الهزال، فلو كلمتيه أن يأكل طعامًا هو ألين من طعامه، ويلبس ثيابًا ألين من ثيابه، فقد رأينا إزاره مرقعًا برُقَعٍ غيْر لون ثوبه، ويتخذ فراشًا ألين من فراشه، فقد أوسع الله على المسلمين؛ فيكون ذلك أقوى على أمرهم.
فبعثوا إليه حفصة، فذكرت ذلك له، فقال: أخبريني بألين فراش فرشتيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط؟ قالت: عباءة كنا نثنيها له باثنين، فلما غلظت عليه جعلتها بأربعة. قال: فأخبريني بأجود ثوب لبسه؟ قالت نمرة صبغناها له، فرآها إنسان فقال: اكسنيها يا رسول الله، فأعطاها إياه. قال عمر: ائتوني بمقناع من تمر، فأمرهم فنزعوا نواه، ثم أكله كله. ثم قال: تروني لا أشتهي الطعام، إني لآكل السمن وعندي اللحم، وآكل الزيت وعندي السمن، وآكل الملح وعندي الزيت، وآكل البحت وعندي ملح، ولكن صاحبيَّ سلكا طريقًا فأخاف أن أخالفهما فيخالف بي.
وعن إسماعيل بن قيس قال: لما قدم عمرُ الشامَ استقبله الناس وهو على بعيره، فقالوا: يا أمير المؤمنين! لو ركبت برذونًا يلقاك عظماء الناس ووجوههم. فقال: لا أراكم ههنا. إنما الأمر من ههنا! وأشار بيده إلى السماء، خلُّوا جملي.
وكان -رضي الله عنه- ربما توقد له النار ثم يدنِي يده منها ثم يقول: ابن الخطاب! هل لك على هذا صبر؟.
وقال -رضي الله عنه-: ليتني كنت كبش أهلي، سمَّنُوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمنَ ما أكون زارهم بعضُ مَن يُحِبون، فجعلوا بعضي شواء، وبعضي قديدًا، ثم أكلوني فأخرجوني عذرة؛ ولم أكُ بشرًا.
وجيء بتاج كسرى إلى عمر -رضي الله عنه- فقال: إن الذين أدَّوا هذا لأمناء. فقال له علي -رضي الله عنه: إن القوم رأوك عففْتَ فعَفُّوا، ولو رتَعْتَ لرَتَعُوا.
وفضائله -رضي الله عنه- كثيرة، منها تعبُّدُه واجتهاده، وبكاؤه، وحذره من الابتداع في الدين، وإشارته بجمع القرآن، وهيبته في القلوب، وزهده، وتواضعه، ونزول القرآن بموافقته في مواضع، وفرار الشيطان منه، واهتمامه برعيِّته وملاحظته لهم، وغزواته، وفتوحاته، وحَجَّاته، وعدله في رعيته، وقوله وفعله في بيت المال، وحذَره من المظالم، وغير ذلك كثير.
عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: رأيتُ عمرَ بنَ الخطاب على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين! أين تذهب؟ فقال: بعير ندَّ من إبِل الصدقة أطلبه. فقلت: لقد أذللت الخلفاء بعدك. فقال: يا أبا الحسن! لا تلمني، فوالذي بعث محمدًا بالنبوة! لو أن عناقًا ذهبت بشاطئ الفرات لأُخذ بها عمرُ يوم القيامة.
فرضي الله عنه وأرضاه، ورزقَنا حبَّه وحبَّ صاحبِه، وفي الحديث: "المرء مع من أحب".