المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
فتلك سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهن، ويقتدينَ بهن في الدين والخلق ومراقبَةِ الله والانقياد التام لله ورسوله وملازمةِ العبادة والإكثار من الطاعات والصّدق في الحديث وحفظ اللسان والبذل للفقراء وتفريجِ كرُبات الضعفاء والسعيِ لإصلاح الأبناء...
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فاتقوا الله -عبادَ الله- حقَّ التقوى، فتقوَى الله ذِكرَى لكلّ أوّابٍ ونجاةٌ للعبادِ من العَذاب.
أيّها المسلِمون: تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) [الأحزاب:32]، زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.
أُولاهنّ المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب خديجة بنت خُويلدٍ -رضي الله عنها-، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه -عليه الصلاة والسلام- كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: "ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي"، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت: له: "كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا" (صحيح البخاري).
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير رحمه الله: "خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة" (أسد الغابة).
عظُمَت الشّدائِد على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء" (رواه أحمد).
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- منها سوَى إبراهيم، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب -أي: لؤلؤ مجوَّف-، لا صخَبَ ولا نصَب" متفق عليه. قال السّهيليّ -رحمه الله-: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا".
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: "قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي" متفق عليه. قال ابن القيّم -رحمه الله-: "وهي فضيلةٌ لا تعرَف لامرأةٍ سِواها". أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنّي رُزِقت حبَّها" رواه مسلم.
كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها.
حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطِّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة"، فربما قُلتُ له: "كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة!" فيقول: "إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد" رواه البخاري. وسمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: "ذكَّرتني بخديجة" (البخاري ومسلم).
كمُلَت في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد" رواه ابن مردويه.
سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والسناء، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "خيرُ نِسائِها ـ أي: في زمانها ـ مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها ـ أي: مِن هذه الأمّة ـ خديجة" متفق عليه.
صَلحت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية" رواه أحمد.
كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ -رحمه الله-: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة".
عباد الله: وفي بَيتِ الصّدقِ والتّقوَى ولِدَت عائشة بنتُ أبي بكر الصديق -رضي الله عنها-، ونشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة. ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقًا وحفظًا ثاقِبًا، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "لم يكن في الأمَمِ مثلُ عائشَةَ في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعَقلها".
فاقَت نساءَ جِنسها في العِلم والحكمة، رزِقَت في الفقه فهمًا وفي الشعر حِفظًا، وكانت لعلومِ الشّريعة وِعاءً، يقول الذهبي -رحمه الله-: " أفقَهُ نساءِ الأمّة على الإطلاق، ولا أعلَمُ في أمّة محمد بل ولا في النّساء مطلَقًا امرأةً أعلَم منها".
سمَت على النساء بفضائِلِها وجميلِ عِشرتها، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فضل عائشةَ على النساء كفضلِ الثريد على سائر الطعام" متفق عليه. أحبَّها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، يقول عمرو بن العاص : "أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة"، قلت: فمن الرجال؟ قال: "أبوها" رواه البخاري.
لم يتزوَّج بِكرًا غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، لا تخرُج من دارِها إلاّ ليلاً لئلا يراها الرّجال، تقول عن نفسِها: "كنّا لا نخرُج إلاّ ليلاً"، محقّقةً قولَ الله: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33]، قال القرطبيّ -رحمه الله-: "والشريعةُ طافِحَة بلزوم النّساءِ بيوتَهنّ والانكفافِ عن الخروج منها إلا لضرورَة.. فإن مَسّت الحاجةُ إلى الخروجِ فَليكُن على تبذُّلٍ وتستّر تامّ".
والله يبتلِي من يحِبّ، والابتلاء على قدرِ الإيمان، بُهِتَت -رضي الله عنها- وعُمرُها اثنَا عشرَ عامًا، قالت: "فبكَيتُ حتى لا أَكتحِل بنوم ولا يَرقأ لي دَمع، حتى ظنَّ أبواي أنّ البكاءَ فالِقٌ كبِدِي، واشتدَّ بها البلاء، قالت: حتى قلَصَ دمعي فلا أحسّ منه قطرة". قال ابن كثير -رحمه الله-: "فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم".
لم تزل ساهِرةً على نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها.
وسَليمَةُ القلب سَودةُ بنت زمعَة -رضي الله عنها-، أوّلُ من تزوّجَ بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجَة، وانفردَت به نحوًا من ثلاثِ سنين، كانت جليلةً نبيلَة، رزِقَت صفاءَ السّريرةِ، وَهَبت يومَها لعائشةَ -رضي الله عنها- رِعايةً لقلب النبي -صلى الله عليه وسلم- تبتَغِي رِضَا ربِّها.
والقوّامَةُ الصّوّامة حفصةُ بنت أميرِ المؤمنين عمَرَ بن الخطاب -رضي الله عنه-، نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدرًا، تقول عنها عائشة -رضي الله عنها-: "هِي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-".
والمُنفقةُ زينبُ بنت خُزيمة الهلاليّة، ذات البذلِ والمسارعة في الخيرات، مكثَت عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- شهرَين ثم توفِّيَت.
والمهاجرة المحتسِبَة أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيانَ -رضي الله عنها-، ليس في أزواجِهِ مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، ولا في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها، ولا فيمَن تزوَّج بها وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة وجهَّزها إليه.
والصّابِرة الحيِيَّة أمّ سلمة -رضي الله عنها- هندُ بنت أبي أميّة مِنَ المهاجرات الأوَل، ولمّا أرادتِ الهجرةَ إلى المدينة مع زوجِها أبي سلمة فرَّقَ قومُها بينها وبين زوجِها وطِفلِها، قالت: "فكُنتُ أخرج كلَّ غداة وأجلس بالأبطَح، فما أزال أبكي حتى أمسِي سنةً كاملة أو قريبًا منها، حتى أشفَقوا عليَّ فأعادوا إليَّ طفلي".
يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجًا لها، تقول: سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما مِن مسلم تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون اللّهمّ أجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها إلا أخلَف الله له خيرًا منها"، قالت: "فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أوّل بيت هاجر إلى رسول الله؟! ثمّ إني قلتها فأخلَف لي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-". رواه مسلم. فاجعَل هذا الدعاءَ ذُخرًا لك عندَ حلولِ المصاب يعوّضْك خيرًا من مصيبَتِك.
وأمّ المساكين زَينبُ بنتُ جَحش بنت عمّةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، زوَّجَها الله نبيَّه بنصِّ كتابِه، بلا وليٍّ ولا شاهد، قال -عز وجل-: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) [الأحزاب:37]. زواجُ النبيِّ بها بركَةٌ على المسلِمات إلى قيامِ الساعة حين فُرِض الحجابُ على بناتِ حوّاء بعد أن تزوَّجها؛ ليكونَ صِيانة للشّرَف والعفاف والنقاء.
سخِيَّة العطاءِ للفقراءِ والضّعفاء، كثيرةُ البرّ والصدقة، ومع شريف مكانتِها وعلوِّ شأنها كانت تعمَل بيدها تدبَغ وتخرزُ وتتصدَّق من كسبِها، قالت عنها عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيتُ امرأة خيرًا في الدّين من زينب؛ أتقَى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقة".
والعابدة جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيتُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومِها منها".
كثيرةُ التعبُّد لربِّها، قانتةٌ لمولاها، كانت تجلِس في مصلاَّهَا تذكرُ الله إلى نصفِ النّهار، تقول: أتى عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غُدوة وأنا أسبِّح، ثم انطلَقَ لحاجته، ثمّ رجع قريبًا من نصف النهار، فقال: "أما زِلتِ قاعدة؟" يعني: تذكرِينَ الله، قالت: نعم. رواه مسلم.
والوجيهةُ صفيّة بنت حيَيّ -رضي الله عنها-، مِن ذرّيّة هارونَ -عليه السلام-، كانت شريفةً عاقلة ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار، قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لابنةُ نبيّ -أي: هارون-، وإنَّ عمَّك لنبيّ -أي: موسى-، وإنّك لتحتَ نبيّ" رواه الترمذي.
كانت وليمةُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عليها في زواجِها السّمن والأقِط والتمر، فكان زواجًا ميسَّرًا مباركًا.
وواصِلة الرّحِم أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليّة -رضي الله عنها- من عظماءِ النساء، منحَها الله صفاءَ القلب ونقاء السريرة وملازمةَ العبادةِ، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "أما إنَّها كانت من أتقانَا لله وأوصلِنا للرحم".
أيها المسلمون: فتلك سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهن، ويقتدينَ بهن في الدين والخلق ومراقبَةِ الله والانقياد التام لله ورسوله وملازمةِ العبادة والإكثار من الطاعات والصّدق في الحديث وحفظ اللسان والبذل للفقراء وتفريجِ كرُبات الضعفاء والسعيِ لإصلاح الأبناء والصّبر على تقويمِ عوَجِهم والتحصُّن بالعلم وسؤالِ العلماء الراسخين وملازمة السّترِ والعفاف والقرارِ في البيوت والحِجاب والبعد عن الشبهات والشهوات والحذَرِ من طول الأمل والغفلة في الحياة أو الاعتِناء بالظاهِر مع فسادِ الباطن وإطلاق البصَر في المحرّمات والخضوع بالقول مع الرجال، وليَحذَرن من الأبواقِ الدّاعية إلى التبرّج والاختلاط بالرّجال، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها وحِجابها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من ك ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيّها المسلمون: زوجاتُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عِشن معه في بَيتٍ متواضِع، في حجراتٍ بنِيت من اللّبِن وسَعَف النخل، ولكنه ملِيء بالإيمان والتقَوى، صبَرن مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على الفقرِ والجوع، كان يأتي عليهنّ الشهر والشهران وما يوقد في بيوتهنّ نار، وتأتي أيّامٌ وليس في بيوتهنّ سِوى تمرة واحدة، ويمرّ زمنٌ من الدّهر ليس فيها سِوى الماء بدون طَعام، قناعةٌ في العيش وصَبر على موعودِ الله، (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى) [الضحى:4].
أجورهنّ مُضاعفة مرتين، (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) [الأحزاب:31].
خمسٌ منهنّ تزوَّجهنّ -عليه الصلاة والسلام- وأعمارهنّ مِن الأربعين إلى الستّين عامًا، حقَّق بذلك رعايةَ الأراملِ وكفالة صبيانهنّ الأيتام.
تزوَّجَ خديجةَ -رضي الله عنها- وعمرها أربعون عامًا ولها ثلاثةُ أولادٍ من غيره، وهو لم يتزوَّج بعد، وتزوَّجَ زينبَ بنت خزيمة وهي أرملةٌ ناهزَت الستّين من عُمرِها، وتزوّج أم سلَمَة وهي أرمَلَة ولها ستّة أولاد، وتزوَّجَ سودَةَ وهي أرملةٌ وعمرها خمسَةٌ وخمسون عامًا.
تزوَّج من الأقارب من بناتِ عمّه وعمّاتِه، وتزوّج من الأباعد، وكان لهنّ زوجًا رحيمًا برًّا كريمًا جميلَ العِشرة معهنّ دائمَ البِشر متلطِّفًا معهنّ، فمن طلَب السعادةَ فليجعَل خيرَ البشَر قدوةً له، ولتلحَقِ المسلمة بركابِ زوجاتِه الصالحات، فلا فلاحَ للمرأة إلا بالاقتفاءِ بمآثرهنّ في السترِ والصلاح والتقوى والإحسان إلى الزّوج والولد.
ثم اعلَموا أن الله أمَركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكمِ التّنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقّ وبه كان يعدلون: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين...