البحث

عبارات مقترحة:

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

توجيهات إلى حجاج البيت العتيق

العربية

المؤلف صالح بن محمد آل طالب
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحج
عناصر الخطبة
  1. موسم الحج شعار الوحدة والتوحيد .
  2. الشوق إلى البيت العتيق .
  3. فضل الحج والعمرة .
  4. فضل عشر ذي الحجة .
  5. فوائد تربوية .
  6. فضل يوم عرفة .

اقتباس

موسمُ الحجِّ إلى بيت الله العتيق، شَعارُ الوحدة والتوحيد، وموسِمُ إعلان العهود والمواثِيق، وحِفظ الحقوق والكرامات، وحقن الدماء وعصمة النفوس والأموال. إنه موسِمُ الرُّوح، وإنها أيامُ الله. وقعُ خُطَا الحَجيج في دُروبِ المشاعِر، واتحادُ وصفِهم، وبياضُ لبسِهم، ووَجيفُ قلوبِهم وهم يُلبُّون لله: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك". فيا لله! كيف تجِدُ أعينُهم فُسحةً من الدمع لتُبصِرَ دربَها؟! وكيف تحمِلُهم أقدامُهم قد انقطعَت قلوبُهم إلا من رحمة الله، وخلَت نفوسُهم إلا من الشوقِ له؟!

 
 
 
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله، وله المحامِد والتحايا الزاكيات، الحمد لله حمدًا يملأُ فِجاجَ الأرض وطِباقَ السماوات، سبحانه وهو أهلُ الثناءِ والمجد، شرَّف مكةَ ومِنَى والمُزدلفَة وعرفات، وجعلَ فيهنَّ وفادَة ضيفِه رحمةً ومغفرةً وإجابةً للدعوات، أحمدُ ربي تعالى وأشكرُه، وأُثنِي عليه وأستغفره، تفضَّل على خلقِه بالمواسِم السانِحة، وأغدقَ مكارِمَه عليهم غاديةً ورائِحةً، فالمُوفَّقُ من تاجرَ مع ربِّه؛ فهي -والله- التجارةُ الرابِحة.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حجَّ الحجيجُ له وهم يجأرُون بالتلبيَةِ والتوحيد، وجعلَ المشاعِرَ والبيتَ الحرامَ شواهِدَ على أن لا شريكَ له ولا نَديد، وأنه الإله الأعظم، وأن الخلقَ كلُّ الخلقِ له عَبيد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ونبيُّه هو الرسولُ الأخيرُ الأخْيَر، وقد أعطاه ربُّه الحوضَ والكوثَرَ، وأمرَه أن يُصلِّي لربِّه وأن ينحَرَ، ويحُجَّ البيتَ الحرامَ ويذكُر ربَّه عند المشعَر، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه إلى يوم القِيام والمحشَر، وسلِّم يا رب تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لباس، وهي وصيةُ الله المُكرَّرة لحُجَّاج بيتِه العتيق: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

أيها المؤمنون: تعيشُ الأمةُ اليوم موسِمًا عظيمًا من أيام الله تعالى، ورُكنًا من أركان الإسلام العِظام. موسمٌ تُغفرُ فيه الذنوبُ والخطايا، وتُقالُ فيه العثَرَات، وتُقبَلُ الدعوات.

موسمُ الحجِّ إلى بيت الله العتيق، شَعارُ الوحدة والتوحيد، وموسِمُ إعلان العهود والمواثِيق، وحِفظ الحقوق والكرامات، وحقن الدماء وعصمة النفوس والأموال. إنه موسِمُ الرُّوح، وإنها أيامُ الله.

وقعُ خُطَا الحَجيج في دُروبِ المشاعِر، واتحادُ وصفِهم، وبياضُ لبسِهم، ووَجيفُ قلوبِهم وهم يُلبُّون لله: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك".

فيا لله! كيف تجِدُ أعينُهم فُسحةً من الدمع لتُبصِرَ دربَها؟! وكيف تحمِلُهم أقدامُهم قد انقطعَت قلوبُهم إلا من رحمة الله، وخلَت نفوسُهم إلا من الشوقِ له؟!

تركُوا الدنيا بضَجِيجِها وزُخرُفها وخلافاتِها وراء ظُهورِهم وكانوا وفدَ الله. أتَوا ليشهَدوا منافِعَ لهم ويذكُروا اسمَ الله على ما رزقَهم، وله يشكُرون.

وراءَ كل حاجٍّ منهم أهلٌ وقرَابات حملَت نفوسُهم من الشوقِ أضعافَ ما حمَل، وبقوا يُتابِعون أخبارَ الحَجيج واللَّهفَاتُ تُسابِقُ العبَرَات، حبَسَتهم أعذارُهم عن اللَّحاقِ بالرَّكب، يُردِّدون مع الحادِي قولَه:

يا راحِلين إلى البيت العتيقِ لقد

سِرتُم جُسومًا وسِرنا نحن أرواحًا

إنـا أقَمنـا على عُذرٍ نُكابِدُه

ومن أقـامَ على عُذرٍ كمن راحَا

خرجَت أمُّ أيمن بنتُ عليٍّ من مصر وقتَ خُروج الحُجَّاج والجِمالُ تمرُّ بها وهي تبكِي وتقول: "هذه حسرةُ من انقطعَ عن الوصول إلى البيت؛ فكيف تكونُ حسرةُ من انقطعَ عن ربِّ البيت؟!".

على كـل أُفقٍ في الحِجازِ ملائِكٌ

تزُفُّ تحايـا الله والبَرَكـات

لك الدينُ يا ربَّ الحَجيج جمعْتَهم

لبيتٍ طَهورِ السَّاحِ والعَرَصَات

أرى الناسَ أصنافًا ومن كل بُقعةٍ

إليك انتهَوا من غُربـةٍ وشتات

تساوَوا فلا الأنسابُ فيها تفاوتٌ

لديـكَ ولا الأقـدارُ مُختلِفات

وأنت وليُّ العفـوِ فامحُ بناصِعٍ

من الصَّفحِ ما في العُمر من هفَوَات

عباد الله، أيها المسلمون في كل مكان: تبتهِجُ النفوسُ اليوم بمرأَى الحُجَّاج ينعَمون بالبيت الحرام، وينتظِمُ عِقدُهم في رِحابِه الطاهِرة، في منظرٍ إيمانيٍّ رهيبٍ، يبتَغون فضلاً من الله ورِضوانًا.

حطُّوا رِحالَهم عند بيت الله العَتيق: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 96، 97].

مُلبِّين النداءَ القديمَ المُتجدِّد: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 27، 28].

يُؤدُّون رُكنَ الإسلام الخامِس: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97]. يُلبُّون ويدعُون، يأمَلون من الله القَبول، ويرجُون رحمتَه ويخافُون عذابَه.

قدِمتُم -أيها الحُجَّاج- أهلاً، ووطِئتُم سهلاً، مرحبًا بكم في هذا الوادِي المُقدَّس، وبين جنَبَات البيت العتيق أول بيتٍ وُضِع للناس، حجَّ إليه الأنبياء، واستقبلَ أوائِلَ الوحي من السماء، وخطَرَ جبرائِيلُ بين أفيائِه، وتنزَّلَ القرآنُ الكريمُ على سامِق جِبالِه، وانطلقَت منه بِعثةُ نبيِّنا محمدٍ -صلى الله عليه وعلى آله-، وربَّى نبيُّنا -عليه السلام- أبرَّ وأصدقَ رِجالِه.

بيتٌ بناه الخليلُ إبراهيمُ -عليه السلام-، وحجَّه الأنبياءُ على تباعُد العُصور وترادُفِ الأعوام، زمزم والمقام، والحِجرُ، والصفا والمروة، والجبالُ والأوديةُ والشِّعاب، كلُّها شواهِدُ على تصارُعِ الحقِّ والباطِل، ومُغالَبَة الهُدى والضلال، حتى بزَغَ النورُ وعمَّ ضِياهُ الخافِقَيْن.

فعلى هذه الرُّبَا تُغسَلُ الخطايا، ويعودُ الحاجُّ نقيًّا كما ولدَتْه أمُّه، وليس مكانٌ في الدنيا له ميزةٌ كهذا المكان. فاقدُرُوا للبيت حُرمتَه، وتلمَّسُوا من الزمان والمكان بركَتَه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه". متفق عليه.

وفي الصحيحين أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة". متفق عليه.

تقبَّل الله منكم الطاعات، وغفرَ الخطيئَات، وأتمَّ لكم النُّسُك.

أيها المسلمون في مشارِق الأرض ومغارِبِها، حُجَّاج بيت الله الحرام: أيامُكم هذه أيامٌ عظَّم الله أمرَها، وشرَّفَ قدرَها، وأقسمَ بها في كتابِه العزيز، فقال -جلَّ شأنُه-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر: 1، 2]، وقال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام". قالوا: ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟! قال: "ولا الجهادُ في سبيلِ الله، إلا رجلٌ خرجَ بنفسِه ومالِه ثم لم يرجِع من ذلك بشيءٍ". أخرجه البخاري.

وعند الإمام أحمد: "فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحمِيد".

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

أيها المسلمون: لقد أُسِّس هذا البيتُ العتيقُ لأجل توحيدِ الله تعالى وإفرادِه بالعبادة: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) [الحج: 26]، ثم رفعَ الخليلُ -عليه السلام- البناءَ وهو يدعُو: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 127، 128].

(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ): الإسلامُ هو الاستِسلامُ لله، والانقيادُ بالطاعة، والخُلُوصُ من الشِّرك وأهلِه، (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) تأصيلٌ للصواب، ولُزوم الشريعة، واتِّباع السُّنَّة.

وفي ثَنايا آيات الحجِّ يقول الله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) [الحج: 30، 31].

وفي حديثِ جابرٍ -رضي الله عنه- قال: ثم أهلَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لك لا شريكَ لك لبَّيك". رواه أبو داود.

فأخلِصوا دينَكم لله، وتفقَّدوا أعمالَكم ومقاصِدَكم.

عباد الله: وفي مناسِك الحجِّ تربيةٌ على إفرادِ الله بالدعاء والسؤال والطلَب، مع التوكُّل عليه واللُّجُوء إليه، والاستِغناء عن الخلق، والاعتِماد على الخالِق: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18]، لا نبيًّا ولا وليًّا ولا مكانًا ولا رسمًا.

كما لا يجوزُ أن يُحوَّلَ الحجُّ إلا ما يُنافِي مقاصِدَه؛ فلا دعوةَ إلا إلى الله وحدَه، ولا شِعارَ إلا شِعارُ التوحيد والسُّنَّة. فالدينُ دينُ الله، والشرعُ شرعُه، والواجِبُ على من بلغَه كلامُ الله وسُنَّةُ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- أن يتَّبِع الحقَّ ويطَّرِح ما سِواه، ولا يترُك القُرآنَ والسنَّةَ لقول أحدٍ مهما كان، والله تعالى يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].

ولقد تسرَّب الوهْنُ للأمة بقَدرِ ما تسرَّبَ إليها من البِدَع والمُحدَثات والانحِراف عن الطريق الحقِّ. وإذا كان المُسلمون اليوم يلتمِسُون طريقًا للنُّهوض، فليس لهم من سبيلٍ إلا وحدةُ جماعتهم، ولا سبيلَ إلى وحدَتهم إلا على الإسلام الصحيح، والإسلامُ الصحيحُ مصدرُه القرآنُ والسُّنَّةُ، وهو ما عليه سلَفُ الأمةِ من الصحابَةِ والتابِعين لهم.

أيها المسلمون: والحجُّ عبادةٌ فريدةٌ تجمعُ ملايين البشَر، المُتدفِّقين لأداء النُّسُك شوقًا، التارِكين لدُنياهم طوعًا. فأيُّ مشهَدٍ أبهَى من هذا التجمُّع الإيمانيِّ العَظيم؟! فيه اجتماعُ الأمة وائتِلافُها، وظُهورُ قِيَمها وأخلاقِها، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة: 197].

قِيَمُ التسامُح والإخاء، والبُعد عن الخِلافِ والمِراء، قِيَمُ المُساواة والعدل، قِيَمُ القَناعَة والبَسَاطَة في تجرُّد الحاجِّ من متاع الدنيا في لِباسِه ومسكَنه ومنامِه.

أيها المسلمون: ومنذُ بدأ الحجُّ في الإسلام وموسِمُه الجامعُ يُنتهَزُ للتوجيهات الكُبرى للأمة المُسلمة؛ فهو مُلتقَى المُسلمين ومثابَتُهم العُظمَى، ففي حجَّة الوداع كان الخِطابُ العظيمُ الذي ألقاه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في أكرَم جمعٍ، هو خِطابٌ لم تعِ المسامِعُ أرقَى من مبادِئِه، ولا أشرفَ من مقاصِدِه، وهو السجلُّ الصادقُ لحقوق الإنسان وحرِّيَّات الأُمم.

والحجَّةُ التي تمَّت في السنَة التاسِعة من الهِجرة أُعلِن فيها بُطلان المُعاهَدات التي عُقِدَت مع المُشركين، وهي مُعاهداتٌ كان الوفاءُ فيها من جانِبِ المُسلِمين وحدَهم، أما المُشرِكون فطالَما عبَثُوا بهذه العُهُود، وخرَجُوا عليها ما دامُوا يقدِرُون. وهذا مشهَدٌ يتكرَّرُ كل زمان.

وبعدُ:

حُجَّاج بيت الله الحرام: تعلَّموا أحكامَ مناسِكِكم، وتحرَّوا صحَّةَ أعمالكم قبل إتيانِها، تفرَّغوا لما جِئتُم له، واشتغِلوا بالعبادة والطاعات؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ بالتفريط.

أكثِروا من الدُّعاءِ والتضرُّع، والهَجوا بذِكر الله في كل أحوالِكم، فنبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما جُعِل الطوافُ بالبَيت وبين الصفا والمروة ورميُ الجِمار لإقامة ذِكر الله". رواه أبو داود والترمذي.

والله -عز وجل- يقول: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 198- 200].

بارَك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابِه أجمعين.

أما بعد:

عباد الله، حُجَّاج بيت الله الحرام: بعد غدٍ هو اليومُ الثامنُ من ذِي الحِجَّة، وفي ضُحاه يُحرِمُ من يُريدُ الحجَّ، ويذهبُ إلى مِنَى فيُصلِّي بها الظهرَ في وقتِها قصرًا، والعصرَ في وقتِها قصرًا، والمغربَ في وقتِها، والعِشاءَ في وقتِها قصرًا، ويَبيتُ بمِنَى تلك الليلة.

فإذا صلَّى بها الفجرَ وطلَعَت شمسُ اليوم التاسِعِ توجَّه إلى عرَفَات، وصلَّى بها الظهرَ جمعًا وقصرًا، ثم يقِفُ على صَعيد عرفَات مُكثِرًا من ذِكر الله تعالى، مُتذلِّلاً بين يدَيه يسألُه خيرَيْ الدنيا والآخرة، ويُلِحُّ في الدعاء والرَّجاء في ذلك الموقف العظيم؛ فإن الحجَّ عرفة، كما قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقال أيضًا: "خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلِي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قدير". رواه الترمذي.

عباد الله: ومن لم يكُن حاجًّا فيُستحبُّ له صِيامُ يوم عرفة مُحتسِبًا أن يُكفِّرَ الله عنه السنةَ الماضِيةَ والباقِية، كما قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم.

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يومٍ أكثرُ من أن يُعتِق اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائِكة، فيقول: ما أرادَ هؤلاء؟!". رواه مسلم.

فإذا غرَبَت الشمسُ انصرَفَ الحاجُّ إلى مُزدلِفَة بسَكينةٍ ووَقار، وصلَّى بها المغربَ والعِشاءَ جمعًا، ويقصُرُ العِشاءَ، ويَبيتُ بمُزدلِفَة تلك الليلة ويُصلِّي بها الفجر، ويُكثِرُ من ذِكر الله تعالى ومن الدعاء حتى يُسفِرَ جِدًّا، ثم ينصرِفُ إلى مِنَى قُبَيل طلُوع الشمس، ويجوزُ للضَّعَفَة من النساء والصِّبيان ونحوِهم الانصِرافُ من مُزدلِفَة بعد نِصف الليل، ويتحقَّقُ ذلك بغُروبِ القمر.

فإذا وصلَ الحاجُّ إلى مِنَى رمَى جمرةَ العقَبَة بسبْع حصَيَاتٍ مُتعاقِبَات، يُكبِّرُ مع كل حصَاة، ثم ينحَرُ الهديَ إن كان عليه هديٌ، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُه -والحلقُ أفضلُ-، ثم يتوجَّه إلى البيت الحرام إن تيسَّر له يوم العيد، وإلا بعده فيطوفُ طوافَ الإفاضة، ثم يسعَى بين الصَّفَا والمروة، فإن كان قارِنًا أو مُفرِدًا وقد سعَى قبل الحجِّ بعد طوافِ القُدُوم فيكفِيه سعيُه ذلك. ومن قدَّم شيئًا أو أخَّر شيئًا من أعمال يوم النَّحر فلا حرجَ عليه.

ثم يعودُ إلى مِنَى، ويبيتُ بها ليالِي أيام التَّشريقِ، ويرمِي الجِمارَ الثَّلاثَ في كل يومٍ بعد زوالِ الشمس، ثم إن شاءَ تعجَّلَ في يومين، وإن شاءَ تأخَّر لليوم الثالث عشر، والتأخُّر أفضل. ثم لا يبقَى عليه إلا طوافُ الوَداع عندما يُريدُ السَّفَر من مكة.

ولقد كان للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مواطِنُ يُكثِرُ فيها من الدعاء حرِيٌّ بالمُسلم الحِرصُ عليها، منها: يوم عرفة وبالأخصِّ آخر النهار، وبعد صلاة الفَجر بمُزدلِفَة حتى يُسفِر جدًّا، وبعد رمْيِ الجَمرة الأولى، وبعد رمْيِ الجَمرة الثانية من أيام التشريق، وكذا الدعاءُ فوقَ الصَّفَا والمروة.

فاجتهِدوا في تمام حجِّكم، واتَّقُوا الله فيما تأتُون وتذَرُون، وأخلِصُوا لله في عملِكم وقصدِكم، واتَّبِعوا الهُدى والسنَّة، واجتنِبُوا ما يخرِمُ حجَّكم أو يُنقِصُه، وعليكم بالرِّفق والسَّكينَة والطُّمأنينة، والشَّفَقَة والرحمة بإخوانِكم المُسلمين، سيَّما في مواطِن الازدِحام، وأثناء الطوافِ، ورمِْي الجِمار، وعند أبواب المسجِد الحرام. واستشعِروا عِظَم العبادة وجَلالَة الموقف.

واعلَموا أن الدولةَ برِجالاتها وأجهزَتها ومُؤسَّساتها تبذُلُ جهودًا هائلةً لخِدمتِكم وتيسيرِ حجِّكم، والنظامُ وُضِع لمصلَحتكم، والجهودُ كلُّها لأجلِكم.

فالتزِموا التوجيهات، واتَّبِعوا التعليمات، واستشعِروا ما أنتم فيه، وكُونُوا على خيرِ حالٍ في السُّلُوك والأخلاق، والزَموا السَّكينةَ والوقار، واجتهِدوا وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمِّلُوا، فإنكم تقدُمون على ربٍّ كريمٍ.

جعلَ الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.

هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابَة نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتَّبَع سُنَّتَهم يا رب العالمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، واجعَل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين.