الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
الحياة لا تحتاج منا إلى اليأس والحزن والقنوط، ولكنها تحتاج إلى العمل والبذل والتفاؤل، وراحة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، والسعادة ليست بكثرة الأموال، أو بالمنصب والجاه، أو بكثرة الأولاد والأتباع. فلو كانت السعادة بالأموال لما فكر الكثير من الأغنياء في الانتحار والتخلص من الحياة. لو كانت السعادة بالأموال لما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، و(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان: 61- 62].
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، عزّ جاهك، وجلّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، هدى الله به البشرية، وأنار به أفكار الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعد:
عباد الله: لقد حرص الإسلام على تدعيم العلاقة بين المسلمين بكل الوسائل والطرق، وفي جميع الأحوال والظروف، فكان من هذه الوسائل التي تقوي علاقة المسلم مع أخيه المسلم، وتجعله محبوباً بين الناس: التبسم وطلاقة الوجه.
فالبسمة آية من آيات الله -تعالى-، ونعمة ربانية عظيمة، إنها سحر حلال تنبثق من القلب، وترتسم على الشفاه فتنثر عبير المودة، وتنشر نسائم المحبة، وتستلّ عقد الضغينة والبغضاء، لتحل ّ الألفة والإخاء.
عن عبد الله بن الحارث: قال: "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" [رواه الترمذي].
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
ويقول جرير بن عبدا لله البجلي -رضي الله عنه- وهو يحدثنا عن تبسمه صلى الله وعليه وسلم في وجوه أصحابه، فقال: "ما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا تبسم في وجهي" [رواه البخاري].
والابتسامة عبادة وصدقة: "فتبسمك في وجه أخيك صدقة"[رواه الترمذي].
ويأتي إليه الأعرابي بكل جفاء وغلظة، ويجذبه جذبة أثرت في صفحة عنقه، ويقول: "يا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ الله الَّذِي عِنْدَكَ؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"[صحيح مسلم].
بل حتى مع شدة عتابه صلى الله عليه وسلم للذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لم تغب هذه الابتسامة عنه وهو يسمع منهم، يقول كعب -رضي الله عنه- بعد أن ذكر اعتذار المنافقين وحلفهم الكاذب: "فَجِئْتُهُ فلمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ" [صحيح البخاري ومسلم].
وكان بعض الصحابة يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.
وكان رسول -صلى الله عليه وسلم- يبتسم وهو ينظر إلى مستقبل هذه الأمة، وحتى وهو في منامه؛ فعن أم حرام بنت ملحان -رضي الله عنها- قالت: "نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك، قال: أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة، قالت: فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها" [البخاري].
بل لم تنطفئ هذه الابتسامة عن محياه الشريف، وثغره الطاهر حتى في آخر لحظات حياته، وهو يودع الدنيا صلى الله عليه وسلم، يقول أنس كما في الصحيحين: "بَيْنَمَا المُسْلِمُونَ في صَلاَةِ الفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الاثْنَيْنِ وأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِهِمْ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إلَّا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ صلوات ربي وسلامه عليه".
أيها المؤمنون -عبــــاد الله-: والإسلام شرع الأعياد والمناسبات ليفرح الناس، وجعل من الأعياد والمناسبات نقطة انطلاق لإصلاح العلاقات بينهم، بالتسامح والعفو ولين الجانب، وهي فرصة لتذكيرهم بالتبسم وطلاقة الوجه، رغم أن هذه الدنيا لا تنتهي مشاكلها، ولا تتوقف ابتلاءاتها، ومع ذلك يأمرنا الإسلام أن نفرح وندخل السرور على من حولنا.
فالحياة لا تحتاج منا إلى اليأس والحزن والقنوط، ولكنها تحتاج إلى العمل والبذل والتفاؤل، وراحة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، والسعادة ليست بكثرة الأموال، أو بالمنصب والجاه، أو بكثرة الأولاد والأتباع.
فلو كانت السعادة بالأموال لما فكر الكثير من الأغنياء في الانتحار والتخلص من الحياة.
لو كانت السعادة بالأموال لما عاش محمد -صلى الله عليه وسلم- سعيدًا بشوشًا وهو ينام على الحصير ويأكل الخبز والشعير، ويركب البغل والبعير.
لو كانت السعادة بالأموال لم يسعد أحد ولكن الحقيقة أن السعادة في طاعة الله -سبحانه- وفي العيش في كنفه ورضاه، كما قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
لذلك ابتسم للحياة ولمن حولك ولن تخسر شيئاً.
ابتسم واصنع السعادة لنفسك ولمن حولك وأكسب الأجر والثواب من عبادة لا تكلفك شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم: "تَبَسُّمُكَ في وجْهِ أخِيك لكَ صدَقةٌ، وأمرُك بالمعروفِ ونهيُك عن المنكرِ صدقةٌ، وإِرْشادُك الرجلَ في أرضِ الضَّلالِ لكَ صدَقةٌ، وإماطَتُك الحجرَ والشَّوْكَ والعظْمَ عن الطَّريقِ لكَ صدَقةٌ، وإِفراغُك من دَلْوِك في دَلْوِ أخِيكَ لكَ صدَقةٌ"[صحيح الجامع: 2908)].
فما أكثر ما فرطنا في هذه العبادة وما أكثر ما بخلنا في هذه الصدقة، فهي السحر الحلال، وهي إعلان الإخاء، وعربون الصفاء، ورسالة الود، وخطاب المحبة، تقع على صخرة الحقد فتذيبها، وتسقط على ركام العداوة فتزيلها، وتقطع حبل البغضاء، وتطرد وساوس الشحناء، وتغسل أدران الضغينة، وتمسح جراح القطيعة.
وإذا كان نبي الله سليمان -عليه السلام- قد تبسم لنملة صغيرة في وادٍ مترامي الأطراف عندما سمعها تحذر قومها من جيشه؛ كما قال تعالى: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[النمل: 19].
فما أحوجنا إلى تبسم الأخ في وجه أخيه، والجار في وجه جاره، في زمن طغت فيه المادة، وقلت فيه الألفة، وكثرت فيه الصراعات.
وما أحوجنا إلى تبسم الرجل في وجه زوجته، والزوجة في وجه زوجها، في زمن كثرت فيه المشاكل الاجتماعية، فلا ترى إلا عبوس الوجه، وتقطيب الجبين، وكأنك في حلبة صراع من أجل البقاء.
وما أحوجنا إلى تلك الابتسامة من مدير في وجه موظفيه، فيكسب قلوبهم، ويرفع من عزائمهم بعيداً عن العنجهية والتسلط والكبرياء.
وما أحوجنا إلى الابتسامة الصادقة من ذلك الحاكم والمسئول في وجه من يقوم برعايتهم وخدمتهم من غير ما خداع أو كذب أو تزوير، أو وعيد أو تهديد فتحبه قلوبهم، وتلهج بالثناء الحسن، والدعاء له ألسنتهم.
وما أحوجنا إلى الابتسامة من ذلك التاجر، فيكسب القلوب، وتحل عليه البركة، ويكثر رزقه، وتدركه رحمة ربه؛ فقد روى البخاري دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرحمة، حيث قال: "رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى".
وفى رواية بشره بالمغفرة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لرجل ممن كان قبلكم كان سهلا إذا باع سهلا إذا اشترى سهلا إذا اقتضى"[صحيح الجامع 4162)].
بل يقول الصينيون في حكمة يرددونها: "إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتح متجراً".
طلب عمال إحدى المحلات التجارية الكبرى في باريس رفع أجورهم، فرفض ذلك صاحب العمل فما كان من عماله إلا أن اتفقوا أن لا يبتسموا للزبائن كرد فعل على صاحب المحل، فكانت النتيجة أن انخفض دخل المحل في الأسبوع الأول حوالى 60% عن متوسط دخله في الأسابيع السابقة.
فانظر أثر عبوس الوجه، وصدق الله العظيم الخبير بالنفوس، حين قال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
اللهم اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، واهدنا صراطك المستقيم.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانيــة:
عبـــاد الله: لنتعلم فن التبسم بصدق، ولننشر ثقافة الوجه الطلق، والسماحة والسعادة بيننا، وفي مجتمعاتنا، ففي ذلك الضمان الأكيد لحياة سعيدة، وعلاقة أخوية مترابطة، ولنتأسَ بأعظم رسول -صلى الله عليه وسلم-، ولنستشعر الأجر والمثوبة من الله -سبحانه وتعالى-.
وتلطف في النصيحة، وتصدق على الناس ببسمتك، تلك الصدقة التي تتميز على صدقة المال بفارق كبير، فصدقة المال تبحث عن صاحبها المستحق لها من الفقراء والمساكين والمعوزين، أما صدقتك بالبسمة فهي تمنح لكل الناس، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- قال قولاً كريماً تنبيهاً لكم وتعليماً، وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.