الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
تزول الأمانة من القلوب شيئاً فشيئاً، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة. ثم إذا زال الجزء الثاني خلفه ظلمة أشد من الظلمة التي قبلها، ويصبح الأمين بعد ذلك غريباً في الناس، حتى يمدح من لا خير فيه ولا إيمان.
الحمد لله الذي وعد من حفظ الأمانة ورعاها أجراً جزيلاً. وتوعد من أضاعها، وأعد له عذاباً وبيلاً. أحمده على جزيل نعمه. وأشكره على تتابع إحسانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حث على أداء الأمانة وحذر من الخيانة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن حمل الأمانة ثقيل، قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
والأمانة لغة: مأخوذة من الأمان، وهو طمأنينة النفس وذهاب الخوف عنها. وهي عبارة عن كل ما استحفظ عليه من حقوق سواء كانت لله تعالى أو لخلقه. وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن المراد بالأمانة المذكورة في الآية: جميع التكاليف الشرعية فمن قام بها أثيب. ومن تركها عوقب. وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرضها وما يتبعها من ثواب وعقاب على السموات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن، أي: خفن من عواقب حملها لما ينشأ عن التساهل بها من عذاب الله وسخطه، وإيثاراً للعافية وبعداً عن التبعة.
وحملها الإنسان بما فيها من مسؤولية عظيمة وخطورة بالغة، فانقسم الناس بعد هذا التحميل إلى ثلاثة أقسام:
قسم التزم بها ظاهراً وضيعها باطناً، وهم المنافقون والمنافقات الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله.
وقسم ضيع هذه الأمانة ظاهراً وباطناً، وهم المشركون والمشركات الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله.
وقسم حفظوا هذه الأمانة ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون والمؤمنات، الذين اتصفوا بالإيمان ظاهراً وباطناً.
فالقسمان الأولان معذبان والقسم الثالث مرحوم. قال تعالى: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)...
إن الأمانة تشمل كل ما أوجبه الله على عباده. فالصلاة أمانة. والزكاة أمانة. والصيام أمانة. والحج أمانة. والطهارة للصلاة أمانة. وكل واجبات الدين أمانة. يجب الوفاء بها. وترك المحرمات أمانة. والودائع والعواري التي عندك للناس أمانة. والسر الذي بينك وبين أخيك أمانة. والأعمال التي تتولاها من شؤون المسلمين أمانة. فالسلطان يتحمل أمانة. ونائب السلطان يتحمل أمانة. والقاضي ومن في حكمه يتحمل أمانة. والمدرس يتحمل أمانة. والتاجر في متجره يتحمل أمانة النصح في المعاملات وعدم الغش والخداع وتجنب المكاسب المحرمة. والموظف يتحمل أمانة. والرجل في بيته يتحمل أمانة. وكل سيسأل عن أمانته فيثاب إن حفظها ويعذب أن ضيعها...
إن الله أمر بأداء الأمانة فقال سبحانه: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ). وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) وقال –صلى الله عليه وسلم- "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" وقال –صلى الله عليه وسلم-: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" فهذه الأوامر تدل على أن أداء الأمانة واجب حتم لا يجوز التساهل فيه. فيجب على الوالي أن ينصح لرعيته، ويجيب على القاضي أن يعدل في حكمه، ويجب على المدرس أن يخلص في تدريسه ويكون قدوة حسنة لطلابه في جميع تصرفاته. ويجب على الموظف أن يؤدي العمل الذي أنيط به. فيحفظ وقته ويرتب أعماله ويستقبل المراجعين وينهي طلباتهم ويستمع إلى شكاواهم، ولا يحابي قريباً أو صديقاً أو يقدم أحداً على أحد بغير حق، أو يضيع وقت الدوام في غير عمله. وأعظم من ذلك إذا امتنع من إنجاز بعض المعاملات حتى يدفع له المراجع شيئاً من المال. إنه بهذا يجمع بين جريمتين عظيمتين: الخيانة في العمل، وأكل المال الحرام، وقد كثر هذا بين من لا دين لهم ولا حياء فصاروا يبيعون الأعمال بيعاً ويؤذون عباد الله.
إن الله كما أمر بأداء الأمانة فقد نهى عن الخيانة فيها –قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وأخبر أن الخيانة في الأمانة من صفات اليهود فقال سبحانه: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً). كما أخبر –صلى الله عليه وسلم- أن الخيانة في الأمانة من صفات المنافقين حيث يقول: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
إن الخيانة في الأمانة ظلم. وإن الظالم نادم عما قليل قال –صلى الله عليه وسلم-: وروى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: قال: والأمانة في الصلاة. والأمانة في الصوم. والأمانة في الوضوء. والأمانة في الحديث. وأشد ذلك الودائع؛ إن رعاية الأمانات من صفات المؤمنين الذين وعدهم الله وراثة الفردوس والإكرام في الجنات، قال الله تعالى: إلى قوله: وقال في آية أخرى:.
عباد الله: إن الأمانة ترفع في آخر الزمان فقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر- حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: "ينام الرجل النومة فتقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كحجر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء –ثم أخذ حصاةً فدحرجها على رجله –فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده ما أظرفه، ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" ومعنى الحديث: أن الأمانة كانت موجودة في الناس عن طريق الفطرة والوحي، ثم تقبض منهم لسوء أفعالهم. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فتزول الأمانة من القلوب شيئاً فشيئاً، فإذا زال أول جزء منها زال نوره وخلفه ظلمة. ثم إذا زال الجزء الثاني خلفه ظلمة أشد من الظلمة التي قبلها، ويصبح الأمين بعد ذلك غريباً في الناس، حتى يمدح من لا خير فيه ولا إيمان.
فاتقوا الله أيها المسلمون في أماناتكم. روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم أقوام يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)..
إن الخيانة في الأمانة ظلم. وإن الظالم نادم عما قليل –(وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) قال –صلى الله عليه وسلم-: "لتؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" وروى ابن جرير بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها –أو قال: يكفر كل شيء إلا الأمانة؛ يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: أد أمانتك. فيقول: أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له: أد أمانتك. فيقول: أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمه الهاوية، فيذهب به إلى الهاوية فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جنهم، حتى إذا رأى أنه قد خرج هوت فهوى في أثرها أبد الآبدين" قال: والأمانة في الصلاة. والأمانة في الصوم. والأمانة في الوضوء. والأمانة في الحديث. وأشد ذلك الودائع؛ إن رعاية الأمانات من صفات المؤمنين الذين وعدهم الله وراثة الفردوس والإكرام في الجنات، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقال في آية أخرى: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ).