الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
" فقد ضربَ الصحابةُ -رضوان الله عليهم- أروعَ الأمثلة في استثمارِ الوقتِ فيها فالصلاةُ - مثلا- لا يُشغلُهم عنها شاغلٌ، ولا يصرفُهم عنها صارفٌ، حتى ولو كانوا في ساحاتِ الوَغى، ولا تسألْ عن حُسْنِ صَلاتِهِمْ، وطولِ قراءتِهم، وقيامِهم وركوعِهم وسجودِهم وخشوعِهم، حتى أُطلِقَ على بعضِهِمْ السُّجاَدُ -محمد بن طلحة بن عبيد الله- لعبادتِه وتألِهه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره..
إخوةَ الإيمانِ: حديثُ اليومِ عن الجوهرةِ الثَّمِيْنَةِ في نظرِ العارفين، والطاقةِ المُهَدَرَةِ عندَ البَّطَالِيْنَ، عن واحدٍ من جوانبِ النِّعْمَةِ المَغْبُونِ فيها كثيرٌ من النَاسِ، عن الوقتِ بل عن الحياةِ؛ فالوقتُ هو الحَياةُ.
والمسلمُ يستشعرُ قيمةَ الزمنِ، وأهميةَ الوقتِ من آي القرآنِ الحكيمِ، فاللهُ قد أقسمَ في كتابِهِ أكثرَ مِنْ مَرَّةٍ بِالوَقْتِ، وله أنْ يَقسِمَ بَمَا شاءَ لكنَّهُ لا يَقسمُ إلا بعَظيمٍ يَستَحِقُ القَسَمَ.
قال تعالى: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) [الفجر:1-5].
ومعَ مَا قيل في تأويلِ الفجرِ، والليالي العشر، والشفع والوتر والليل، فالذي يُلفتُ النَّظَرَ، أنَّ هذا القسمَ لِعَظَمتِهِ، وأهميةِ المُقسَمِ بِهِ إنَّما هو لأصحابِ العُقُولِ الذِيْنَ، يَعْقِلونُ مَا يَسْمَعُونَ، ويستفيدون مما يعلمون (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) [الفجر:5].
وإنَّما سُمِّيَ العقلُ حجراً؛ لأنَّه يَمْنَعُ صاحبَهُ من تَعاطِيْ مَالا يَليقُ بِهِ من الأفعالِ والأقوالِ، وهذا القسمُ هو بأوقاتِ العبادةِ، وبنفسِ العِبادةِ؛ من حجٍ، وصلاةٍ، وغيرِها، كما يقولُ المفسرون.
وقال تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:1- 4].
وهل الليلُ والنهارُ إلا مَراكبُ يَختلفُ الناسُ في سبلِ الانتفاعِ بهما؛ فمغبوطٌ يستثمرُها في طاعةِ اللهِ، ويزرعُ فيهما ما يَبلغُهُ إلى اللهِ، ويسعدُ يوم لقاءِه، ومَغبونٌ مُضيعٌ لساعاتِ الليلِ والنهارِ، مُفرِطٌ على نفسِه، يَحملُ الأوزارَ التي تثقلُ كاهلَه يوم العرضِ على اللهِ، وصَدَقَ اللهُ: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:4].
ويُقسمُ اللهُ مرةً ثالثةً بالدهرِ فيقولُ: (وَالْعَصْرِ * ِإِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصرٍ].
والعصرُ هو الزمانُ الذي يَقعُ فيه حَركاتُ بني آدمَ مِنَ خيرٍ وشرٍ، واللهُ تعالى يُقسِمُ أنَّ بَنِيْ الإنسانِ كُلَّهُم في خِسَارَةٍ، وهَلاكٍ إلا مِنْ اسْتَثْمَرَ وقتَهُ، واستنفدَ عمرَه في عملِ الصَّالِحَاتِ.
كما أقسم تعالى بالضحى والليل.
إخوةَ الإسلامِ: يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم بسنتيه القولية، والفعلية إلى استثمارِ الوقتِ بِمَا يَنْفَعُ، ويَحذرُ من إضاعةِ الأوقاتِ سُدى فيقول: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فيهما كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصحة والفراغ".
وتأملْ قولَهُ: "كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ"! والمعنى أنَّ الذي يُوفِقُ لاستثمارِ هاتين النِّعْمَتَينِ بما يَنفعُ قَلِيلٌ.
قال ابنُ الجوزي: قد يكونُ الإنسانُ صحيحاً، ولا يكونُ مُتفرغاً لشُغلِهِ بالمعاشِ، وقد يكونُ مستغنياً، ولا يكونُ صَحِيحاً، فإذا اجتمعَا فَغَلِبَ عليه الكُسَلُ عَنْ الطَّاعَةِ فهو المغبون، وتمامُ ذلك أنَّ الدُنيا مَزْرَعَةُ الآخرةِ، وفيها التَّجارةُ التي يَظهَرُ ربحُها في الآخرة، فمن استعمل فراغَه وصحتَهُ في طاعةِ اللهِ فهو المغبوطُ، و من استعملها في معصيةِ اللهِ فهو المغبونُ، لأنَّ الفراغَ يَعقبُه الشُغلُ، والصحةَ يعقبُها السقمُ، ولو لم يكن إلا الهرمُ كما قيل.
يسرُّ الفتى طولُ السلامة و البقا
ولقد كانَ استثمارُ الوقت أحدَ نصائحٍه، وضمنَ مواعظِه عليه الصلاة والسلام لأصحابِه يقول- وهو الناصحُ الأمينُ- لرجلٍ وهو يعظه: " اغتَنِمْ خمساً قبل خَمْسٍ: شبابَك قبل هرمِك، وصحتَك قبلَ سقمِك، وغناكَ قبل فَقْرِك، وفِراغَك قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ موتِك ".
فإذا كانت تلك طائفةً من سنته القولية، فيكفي أن ينظرَ اللبيبُ فيما عَمِلَ وخلف في مدة لا تتجاوزُ ثلاثة وعشرين عاماً، لقد أخرج اللهُ به الناسَ من الظلمات إلى النور، علم العلم وفاق غيره في العمل، وزرع الخيرَ واقتلع جذورَ الشرِ، جاهد في الله في كل ميدانٍ، وخلَّفَ أجيالاً تحمل مشاعلَ النور والهُدى من بعده.
أيها المسلمون: يكفيكم أنْ تَطلعوا على نماذجَ من سيرِ أصحابه؛ لتروا كيف كانوا يعملون، وكيف كانوا لأوقاتِهم مُستثمرين، وفي ذلك إجابةٌ لمنْ لازالوا حائرين في استثمارِ الأوقاتِ، متطلعين إلى نماذجَ راشدةٍ في ملءِ الفراغِ، وبماذا تُقضى الأوقاتُ؟.
وإذا كانت العبادةُ الحقةُ لله ربِّ العالمين هدفَ الوجودِ في هذه الحياة امتثالاً لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
فقد ضربَ الصحابةُ -رضوان الله عليهم- أروعَ الأمثلة في استثمارِ الوقتِ فيها فالصلاةُ - مثلا- لا يُشغلُهم عنها شاغلٌ، ولا يصرفُهم عنها صارفٌ، حتى ولو كانوا في ساحاتِ الوَغى، ولا تسألْ عن حُسْنِ صَلاتِهِمْ، وطولِ قراءتِهم، وقيامِهم وركوعِهم وسجودِهم وخشوعِهم، حتى أُطلِقَ على بعضِهِمْ السُّجاَدُ ( محمد بن طلحة بن عبيد الله ) لعبادتِه وتألِهه.
وبلغَ الحرصُ بهم في المحافظةِ عليها مع جماعة المسلمين، إذا أحدُهم إذا فاتته العِشاءُ في الجماعةِ أحيا بقيةَ ليلتِه كما ثبت عن ابن عمروٍ -رضي الله عنهما-.
وفي الصيامِ لهم أخبارٌ، وأحوالٌ تراها النفوسُ الضعيفةُ ضرباً من الخيالِ، ففي ترجمة أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه " أنَّه كان يسردُ الصومَ، وأنَّه كان لا يَفطِرُ إلا في سفرٍ أو مرضٍ ".
إخوةَ الإيمانِ: مما يستثمر الصحابةُ رضوان الله عليهم به أوقاتَهم تلاوةُ كتاب الله، تعلماً وتعليماً وعملاً، فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يسأل عنه عليٌّ -رضي الله عنه- فيقول قراءُ القُرآنِ، ثم وقف عنده وكفى به.
وفي رواية أخرى: وعلمُ السُنَّةِ وهو القائل: " كان الرجلُ منا إذا تَعلَّم عشرَ آيات لم يجاوزهن حتى يَعرفَ معانيهن، والعملَ بهن ".
وكانوا يعقدون لتعليمِ القرآن الحلق، وتمتلئ المساجد بالمتعلمين ولا تكاد تخلو من القائمين به في ساعاتِ الليلِ والنهارِ، وأَنعِمْ بكتابِ الله رفيقاً، وأَكْرِمْ ببيوتِ اللهِ مَوئِلاً.
وكان القومُ جادين في حياتِهم، مستثمرين لأوقاتِهم كذلك في بيوتهم؛ فهذا نافع -رحمه الله- يُسألُ: " ما كان يصنعُ ابنُ عمرَ في منزلِه؟ قال: لا تطيقونَه: الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ، والمُصحَفُ فيما بينهما ".
عبادَ اللهِ: يا من ترومون نهجَ السلف، وتريدون الاقتداءَ باستثمارِ الأوقاتِ بما ينفعُ، فقد كان للعلم والتعليم بكل عامٍ نصيبٌ وافرٌ من أوقاتِ العارفين، ومع ما كانوا فيه من عبادةٍ خاصةً، فقد كانوا يؤثرون الناس على أنفسِهم، ويَجلسون لتعليمِهم إذا احتاجوا إليهم، ويعتبرون ذلك ضرباً من العبادةِ يتقربون بها إلى خالقِهم؛ كما رُوي عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
وحين يَرِدُ الاختلافُ بينهم فيما يقرؤون من أجلِ التعليمِ يَنتهِي في وقتِه؛ لأنَّ الحقَّ رائدُهُم، "وهذا أبي بن كعب -رضي الله عنه- كان يقرأ قوله تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الفتح:14].
ولو حميتُم كما حموا لفسد المسجدُ الحرامُ، فبلغ ذلك عمرَ رضي الله عنه فأغلظَ له، فقال يا عمرُ: إنَّك لتعلم أني كنت أدخلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علَّمهُ اللهُ، والله لئن أحببتَ لألزمنَّ بيتي فلا أُحدثُ شيئاً ولا أقرئُ أحداً حتى أموتَ! فقال عمرُ: اللهم غفراً، إنَّا لنعلمُ أنَّ اللهَ قد جعل عندَكَ علماً فَعلِّمِ الناسَ ما عُلِّمْتَ".
وفي رواية: "بل أنتَ رجلٌ عندك علمٌ، وقرآنٌ فاقرأ وعَلِّمْ مما عَلَمَّك اللهُ ورسولُه" .
ولم يقف الأمرُ بهم عند حدودِ العلم والتعليم، بل استثمروا جزءاً من أوقاتِهم في الدعوة لله، فانتشروا في مشرقِ الأرض ومغربِها، يُعلِّمُون الناسَ الخيرَ، ويَدعون إلى اللهِ بالحسنى، ويَحملون صفاءَ الإسلامِ، وإشراقَ العقيدةِ حتى هدى اللهُ على أيديهم أُمماً من الناس، واستنقذ اللهُ بهم فئاماً من الخلقِ، وهم في ذلك كله مسترشدون بهديِ نَبِيِّهم صلى الله عليه وسلم الذي لم يكفه بياضُ النهار في الدعوةِ للخير، بل استثمرَ سوادَ الليل.
وهذا عمرُ -رضي الله عنه- يحدثنا أنّه كان هو وأبو بكر -رضي الله عنه- يسمرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في بيت أبي بكرٍ في بعضِ ما يكونُ من حاجةِ النبي صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].
الخِْطبةُ الثَّانِيَةُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِيْنَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ رب العالمين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائرِ المرسلين.
أيَّها الأخوةُ المسلمون: ثَمَةَ مَا يَقْضِيْ به المُسلمونُ أوقاتَهم، ويتقربون به إلى خالقِهِمْ ألا وهو الجِهادُ في سبيلِ اللهِ، والمرابطةُ في ثغورِ المسلمين، وهذا أبو طلحة -رضي الله عنه- شيخٌ كبيرٌ، ومع ذلك يقرأ قوله تعالى: (انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة:41]. فيقول: "استنفرنا اللهُ وأمرَنَا شيوخَنا وشبَابَا، جهزوني، فقال بنوه: يرحمُك الله، إنَّك قد غزوتَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرٍ، ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا البحرَ فماتَ، فلم يجدوا له جزيرةً يدفنونَه فيها إلا بعد سبعةَ أيامٍ فلم يَتغيرْ ".
ولئن عجبتَ من همةِ هذا الشيخ الكبيرِ، واستثمارِ عُمرِه حتى الممات، فعجبُكَ سيكونَ أعظمَ حين تَقفُ على همةِ شيخٍ ضريرٍ، عذره اللهُ وأنزلَ بشأنِه وأمثالِه قوله تعالى: (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:95].
ومع ذلك كان يغزو بعد ويقول: "ادفعوا إليَّ اللواءَ فإني أعمى لا أستطيعُ أنْ أفِرَّ وأقيموني بين الصفين".
ويُقال: إنه قاتلَ -رضي الله عنه- يوم القادسية، وفي رواية أخرى: شهدهَا ومعه الرايةُ، ويقال: إنَّه استُشهِدَ يومَ القادسية.
وإذا كانت تلك همةَ هؤلاءِ، فلا تسأل عن همم من سواهم! ويكفيك أنْ تقفَ على مقولة سيفٍ من سيوفِ اللهِ أبلى في الجهاد بلاءً حسناً، وأمضى حياتَه بين صليل السيوف، وطعن الرماح، ومع ذلك كان يستشعرُ لذةَ هذهِ الحياة، ويرجو أجرَها عند اللهِ فيقول: خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: " لقد طلبتُ القتلَ مظانّه فلم يُقدَر لي إلا أنْ أموتَ على فراشِيْ، وما من عملي شيء أرجَىْ عندِي بعد أن لا إله إلا الله من ليلةٍ بتُّها وأنا متترسٌ، والسماء تهلني تمطر، إلى صبحٍ حتى نغير على الكفار ".
وهو القائل: " ما من ليلةٍ يُهدَى إليَّ فيها عَروسٌ أنا لها مُحِبٌّ أو أُبَشَّرُ فيها بِغَلامٍ أحب إليَّ من ليلةٍ شديدةِ البردِ كثيرةِ الجليدِ في سَرِيَةٍ أصبحَ فيها العَدوُ ".
وهذا سلمانُ الفارسي -رضي الله عنه- يزورُ الشامَ، فيسأل عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- فيقال: هو مرابطٌ، فيقول سلمان: وأين مرابطُكم؟ قالوا بيروت، فتوجه قبله ثم قال: "يا أهل بيروت ألا أحدثكم حديثاً يذهب اللهُ به عنكم عرضَ الرباط، سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "رباطُ يومٍ وليلةٍ كصيام شَهرٍ وقِيامِه، ومنْ ماتَ مُرابطاً أجيرُ من فتنةِ القبرِ، وجرى له صالحُ عملِه إلى يوم القيامة ". وفي رواية لمسلم:"وإن ماتَ جرى عليه عملُه الذي كان يعملُه، وأُجرىَ عليه رزقُ وأمن الفتان".
أمةَ الإسلامِ: إذا عز الجهادُ في سبيل الله، أو تعذر الرباطُ في ثغورِ المسلمين فلا أقلَ من أنْ يبقى حديثُ النفس في الغزوِ والجهادِ، وإنَّهما من خير ما تستثمرُ به الأوقاتُ، وتُستنفدُ فيه الأعمارُ، فـ "الجَنَّةُ تَحْتَ ظِلالِ السُيُوفِ".
ويُحذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمتَه من تناسي هذه الشعيرةِ الكبيرةِ ويقول: "من ماتَ ولم يغزُ ولم يُحَدِّثْ نفسَهُ بالغزوِ، مات على شُعْبَةٍ من النِّفَاقِ".
أيها المسلمون: ليس الجهادُ مقصوراً على جهادِ الأعداءِ في ساحاتِ الوَغَى؛ فالجهادُ باللسانِ وبذلُ الأموالِ في سبل الخيرِ، والتيقظُ للثغراتِ في الداخلِ، وكشفُ النفاقِ، وفضحُ المنافقين، كل ذلك ضَربٌ من ضُروبِ الجِهادِ، حثَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".
واهتم له السلفُ الصالحُ حتى ظهرت السُنَّةُ، وماتت البدعةُ، وأخمدت نيرانُ الفِتَنِ المُشتَعِلة، وقَضوا به شطراً من أوقاتهم.
وهذا العالمُ الفطن والصحابي النجيبُ عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- يقول: "جاهدوا المنافقين بأيدِيْكم، فإنْ لم تستطيعوا فبألسنَتِكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تُكَفْهِرُوا في وجوهِهم فافعلوا".
وإذا كانت ساحةُ المعركةِ في الخارجِ مكشوفةً لكل أحدٍ، فإن ميدانَ المعركة في الداخلِ، وإفسادِ المنافقين الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون لا يَخفى على الواحدِ الأحدِ.
إخوةَ الإيمانِ: استثمر السلفُ الصالحُ جزءاً من أوقاتِهم في تفقد أحوالِ إخوانِهم المسلمين، وقضاءِ حوائجِ المحتاجين، ولله درُّها من نُفوسٍ لم يُلهِهَا الغِنَىُ عن استشعارِ من يبيتون على الطوى، وتَذكرِ من يَفترشُون الأرضَ، ويلتحفونَ السَّماءَ، يفزعون في النائبةِ، ويُطعمون المِسكينَ والأرملةَ، وهاكم نموذجاً لهؤلاء، فأهلُ المدينةِ -كما تقول الروايات- كانوا عيالاً على عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ثلثاً يقرشهم، وثلثاً يقضي دينَهم، ويصل ثلثاً.
ومع ذلك كان يخشى الهَلكةَ على نفسِه، فيأتي أمَّ المؤمنين، أم سلمة -رضي الله عنها- ويقول: "يا أم المؤمنين إني أخشى أن أكون قد هلكتُ، إني من أكثرِ قٌريشٍ مالاً، بعتُ أرضاً لي بأربعين ألف دينارٍ، فتوصيه بالنفقة" .
ترون -معاشرَ المسلمين- ماذا سيكونُ موقِفُنا إذا سألنا عن أرملةٍ من أراملِ المُسلمِين، تُهدهدُ أطفالَها وليس عندها ما تطعمُهم؟ أو عن مغيبةٍ طال ليلُها وحيل بينها وبين زوجِها، أو عن أسرٍ فقيرةٍ مُعدمة لا يسألون الناس إلحافا، وعن مدين أقلقَ الدائنون مضجعه، ولا يجد لديونهم سَداداً.
ألا وإنَّ تَفقدَ أحوالِ المُسلمين، وقضاءَ حاجاتِ المحتاجين من سماتِ هذا الدين، ومن أخلاقِ المؤمنين، ومما تُستثمَرُ به الأوقاتُ، والدالُ على الخيرِ كفاعله، ومنْ فَرَّجَ عن مسلم كربةً من كُرَبِ الدنيا فَرَّجَ اللهُ عَنهُ كُربةً من كُرَبِ الآخرةِ.
هذه -معاشرَ الأحبةِ- إطلالةٌ يسيرةٌ على جوانبِ من استثمار الوقتِ، عند السلف الصالحين وهي -كما ترون- صلاةٌ وصيامٌ، وتلاوةٌ واعيةٌ للقرآن، علمٌ وتعليمٌ، وعمارةٌ للمساجدِ بذكر الله، دعوةٌ للخير وجهادٌ في سبيل الله بالمال والنفس واللسان، ومرابطةٌ في ثغورِ المسلمين دفاعاً عن حياض الإسلامِ، وحُرمات المسلمين، وتلمس واعٍ لحاجات المسلمين، والتقفي لأحوالِ المحتاجين؛ فأين الشعورُ بالفراغِ لمن يستثمرُ وقتَهُ في هذه الأعمالِ الجليلة، أو مثلها، وأي مكان في مجتمع المسلمين لمن يهلكون أوقاتَهم في أماكنُ الخنا والزنا، وأين من ينتظرون نصرةَ هذا الدينِ، وهم بعد لأوقاتهم مُضيعون، ولأهوائِهم وشهواتِهم مستسلمون.
إنَّ الأمة مُحتاجةٌ لكل طاقةٍ، وإنَّ الدعوة لا تَستغني عن أي وسيلةٍ مُباحةٍ؛ فَلْيَسُدَّ كُلُّ واحدٍ من المسلمين الثُغرةَ التي يُحسِنُها؛ لنتق الله في أوقاتنا ولنقدم خيراً لأنفسٍنا.
اللهم إنا نعوذُ بك من العجزِ والكَسلِ، اللهم ألهمنا رُشدَنا، ويسر أمورَنا، واختم بالصالحاتِ أعمالَنا.