الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحج |
ومن خصائص الذكر التي لا تماثله فيها عبادة قط؛ أن الذكر يُسَيِّرُ العبدَ وهو في مضجعه على فراشه، وهو قائمٌ في سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وسفره وإقامته، فليس في الأعمال شيءٌ يَعمُ الأوقاتَ والأحولَ...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: يقول الله -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا..)[البقرة:200]، بهذا أوصى الله عباده بعد انقضاء فريضة حجهم وإتمام نسكهم خلافاً لما كان أهل الجاهلية يصنعون، قال القرطبي في تفسيره قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ في سبب نزول الأية: "كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَضَتْ حَجَّهَا تَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَتُفَاخِرُ بِالْآبَاءِ، وَتَذْكُرُ أَيَّامَ أَسْلَافِهَا مِنْ بَسَالَةٍ وَكَرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ، عَظِيمَ الْجَفْنَةِ، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنَ الْتِزَامِهِمْ ذِكْرَ آبَائِهِمْ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ..".
وَالْمَعْنَى: إِذَا أَتْمَمْتُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- مَنَاسِكَ حَجِّكُمْ فَلَا تَنْقَطِعُوا عَنْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ بِتَعْظِيمِهِ وَحَمْدِهِ، وَبِالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ لِتَحْصِيلِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَخَيْرِ الْآخِرَةِ.. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.. وقال ابن رجب -رحمه الله-: وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النسك في هذه الآية معنى: وهو أنَّ سائر العبادات تنقضي ويُفرَغ منها، وذُكر الله باقٍ لا ينقضي ولا يُفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة: ولقد ورد الأمر بالإكثار من الذكر؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزاب:41-43]؛ قال السعدي -رحمه الله-: يأمر الله -تعالى- المؤمنين، بذكره ذكرا كثيرًا، من تهليلٍ، وتحميدٍ، وتسبيحٍ، وتكبيرٍ وغير ذلك، من كلِ قولٍ فيه قُربة إلى الله، وأقلُّ ذلك، أن يلازِمَ الإنسان أورادَ الصباحِ، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارضِ والأسبابِ.
وينبغي مداومةُ ذلك، في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإنَّ ذلك عبادةٌ يسبقُ بها العاملُ، وهو مستريحٌ.. وداعٍ إلى محبةِ اللهِ ومعرفتِهِ، وعونٌ على الخيرِ، وكفٌ اللسانِ عن الكلامِ القبيحِ.
وقال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ"(رواه أحمد عن مُعَاذٌ بن جبل -رضي الله عنه- وصححه الألباني).
ووعدَ رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذاكرين بالتحصينِ والحفظِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِمَا السَّلام- بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ. ومنها: وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ"(رواه الترمذي وصححه الألباني عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه-).
قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً على هذا الحديث: "فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلةُ الواحدة؛ لكان حقيقاً بالعبد ألا يفترَ لسانُه من ذكرِ الله -تعالى- وألا يزالَ لَهِجاً بذكره؛ فإنه لا يحرزُ نفسَه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخُلُ عليه العدوُ إلا من بابِ الغفلةِ فهو يرصدُه فإذا غفلَ وثبَ عليه وافترسه، وإذا ذكر الله -تعالى- انخنسَ عدوُ الله وتصاغر وانقمع، حتى يكونَ كالذبابِ ولهذا سُمى الوسواسُ الخناس أي يوسوس في الصدور فإذا ذكر الله -تعالى- خنس أي كف ونقبض".
أيها الإخوة: وفي الذكر حياةٌ للقلب، ونجاةٌ من الغفلة التي تميته، وبرهانُ ذلك قول المصطفى اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ"(لفظ البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى).
ولمسلم: "مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ" فجعل بيتَ الذاكرِ بمنزلة بيتِ الحي، وبيتَ الغافلِ بمنزلة بيتِ الميت وهو القبر. وفي اللفظ الأول جعل الذاكر بمنزلة الحي والغافلَ بمنزلة الميت فتضمن اللفظان أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء والقلب الغافل كالميت في بيوت الأموات. ولا ريبَ أن أَبْدَانَ الغافلين قبورُ قلوبِهم، وقلوبُهم في أبدنهم كالأمواتِ في القبورِ..
والذكر يورث حياة القلب؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الذكر للقلب مثلُ الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء".
ومن خصائص الذكر التي لا تماثله فيها عبادة قط؛ أن الذكر يُسَيِّرُ العبدَ وهو في مضجعه على فراشه، وهو قائمٌ في سوقه، وفي حال صحته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذته، وسفره وإقامته، فليس في الأعمال شيءٌ يَعمُ الأوقاتَ والأحولَ مثلَه. ومن وفق للذكر فقد وفق لخير كثير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من الذاكرين وأن يجعلنا من عباده الصالحين؛ بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ جَهَّزَ حَاجًّا، أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ"(رواه ابن خزيمة والنسائي عنْ زيدِ بنِ خالدٍ الجهني وصححه الألباني).
وتجهيز الحاج ليس بما قد يتبادر للذهن من إعطائه المال ليحج فقط.. إن تجهيز الحاج شامل لكل خدمة تقدم له شخصياً من تقديم أكل أو شرب أو مأوى أو حراسة أو توفير وسائل النقل وحفظ أمن السبل والطرق وتهيئة أماكن العبادة بالخدمات المختلفة وتقديم الإرشاد الديني والتوعية والرعاية الصحية والإسعافية، وتجهيز المشاعر بالطرق والمساكن وسن الأنظمة ورعاية أمن المشاعر على مدار الساعة وغير ذلك كثير وتجنيد من يقوم بذلك بالمال والعتاد.. كل ذلك من تجهيز الحاج..
وكل ذلك تقوم به حكومة هذا البلاد المملكة العربية السعودية المباركة بكل أريحية؛ شكراً لله –تعالى- بأن مَنَّ الله عليها فجعلها مهبط الوحي، ومنبع الرسالة، والحاضن للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة ومسجد المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأشرقت منها أنوار التوحيد وعمت الأرجاء وأضاء سناها جميع البقاع والأنحاء. تبذلُ جهوداً جبارةً في خدمة حجاج بيت الله الحرام لا تنتظر جزاء ولا شكورا من أحد، تقوم بواجبها مرضاة لله -سبحانه وتعالى-..
يقول ذلك ويعلنه ملك هذه البلاد وحكومته ومواطنوها ويقدمون ذلك بكل أريحية شكراً لله على هذه النعمة، وقياماً بأمر الله وحكمه وطمعاً بما يعده الله للقائمين على هذا العمل من الأجر والمثوبة.. فالحمد لله أن أتم موسم الخير بخير، وجزاهم الله خير الجزاء وزادهم من فضله وأعانهم، ودحر الله كل مغرض وجاحد لهذه الجهود..
أيها الإخوة: في الأسبوع القادم يستقبل أبناء وبنات هذه البلاد بكل أعمارهم ومستوياتهم عاماً دراسياً جديداً.. نقول للمربين ونحن نستقبله: إن علينا أن نغرس في أولادنا معاني الجدية في الحياة، والحرص على العمل والإنتاج المفيد بدلاً من الكسل واللعب والانشغال بتوافه الأمور؛ لتسعد بهم، أمتهم وانظروا لتفضيل الله للعاملين المجتهدين بقوله: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:95].
أيها الإخوة: في كل عام وقبل عودة المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات يطلق بعض الناس بعض التعليقات الساخرة منهم وأنهم بصدد البداية بالتعب والنصب، وسلام على الراحة وكفاكم ما استمتعتم به من إجازة وراحة.. وهذا عمل لا يليق.. وحري بأمة اقرأ وأتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو المحفز والمعزز لكل عمل إيجابي يُعز الأمة ويعمر الكون أن يكونوا عاملين جادين..
وعلينا أيها الإخوة: أن نتجاهل تعليقاتهم، وألا نتناقلها فيما بيننا.. فما هي إلا تعليقات ساخرة للتندر..
ولو سألتهم هل تريدون أن تضل الأمة في إجازة طوال حياتها.؟ هل تظنون أن السعادة بالقعود والراحة البدنية الدائمة.؟ هل تريدون ذلك لأمة واجبها قيادة العالم وهدايته.؟ لقالوا لا. ونقول: وهل أمة سادت بغير التعلم والجد والبذل والتفاني بالعطاء؟
إذا لنحسن استقبال الطلاب والطالبات ونطلق عبارات الترحيب والفرح والتحفيز ونبعث وننشر في الأمة معاني الجد والإيجابية والعمل الجاد والباني، ونأخذ بوصية رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ: "سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا: لَهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقْنُوهُمْ"؛ أي: عَلِّمُوهُمْ.(رواه ابن ماجة وحسنه الألباني عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ). ودرج على الترحيبِ بالمتعلمين وحسنِ استقبالِهم والبشاشةِ والاستئناسِ بهم علماءُ الأمةِ قبولاً لوصية النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهم.
أيها الإخوة: ولأننا ولله الحمد نرفل بالنعم، وأرزاق دارة وخيرات قارة وآمن وأمان ومتع ننهل منها إناء الليل والنهار..
لما لا نقول أهلاً بالأحدِ يومِ الدراسة والعملِ الأول: ما دمنا بنعمة الإسلام رافلين..
أهلا بالأحد: وهمنا في الأيامِ القادمة النهوض للمدارس والأعمال سعيدين مستعدين..
أهلا بالأحد: ونحن نفيق من النوم بصحة وعافية.
اللهم وفقنا لشكر نعمك ونعوذ بك من تحول عافيتك، اللهم امنح المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات الجد والاجتهاد والنشاط ووفقهم للعلم النافع والعمل الصالح وجعلهم بناة خير لأنفسهم وأمتهم.. وصلوا وسلموا على خير البرية ومعلم البشرية…