البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
يا أيها المؤمن: هل أحسست يوما بقسوة في قلبك، وتحجرٍ في عواطفك، وعدمِ تأثرٍ بالقرآن والمواعظ؟ هل شعرت يوما بضيق في صدرك، أو بهمّ أثقل عليك كاهلك، فأنت في ضَيق لا تعرف له سببا، ولا تجد منه مخرجا؟ هل وجدت وحشة فيما بينك وبين الله، فأصبحت تستثقل العبادات، وتتهاون في الطاعات، ولا تجد لذةً لأنواع القربات؟ هل أصبحت تشكو كما يشكوا الكثيرُ من...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها المؤمن: هل أحسست يوما بقسوة في قلبك، وتحجرٍ في عواطفك، وعدمِ تأثرٍ بالقرآن والمواعظ؟
هل شعرت يوما بضيق في صدرك، أو بهمّ أثقل عليك كاهلك، فأنت في ضَيق لا تعرف له سببا، ولا تجد منه مخرجا؟
هل وجدت وحشة فيما بينك وبين الله، فأصبحت تستثقل العبادات، وتتهاون في الطاعات، ولا تجد لذةً لأنواع القربات؟
هل أصبحت تشكو كما يشكوا الكثيرُ من قسوة القلب، كمن يقول: "لا أجد لذة للعبادة"، "أشعر أن إيماني في الحضيض"، "لا أتأثر بقراءة القرآن"، "لا أتأثر بموعظة" "أقع في المعصية بسهولة"؟.
إذا كان أصابك شيء من ذلك، فاعلم أن السبب في هذا هو ما يسمى بظاهرة الفتور، أو ضعفِ الإيمان، وهو مرض واسع الانتشار يعاني منه الجميع بلا استثناء، ولو بين الحين والحين.
وذلك أن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والكتاب والسنة مليئان بالأدلة على هذا الأمر، وكذا كتب السلف الصالح.
وقد أخبرنا رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن الإيمان يبلى في قلب المؤمن، ويحتاج إلى تجديد؛ كما أخرج الحاكم في مستدركه وصححه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا قال: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم".
وقد روي في بعض الآثار: "ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء".
وقد ورد مرفوعا وفيه ضعف، والمعنى صحيح، فكما أن القمر أحيانًا بينما هو منير في السماء تأتي عليه سحابة تحجب ضوءه ونوره، ثم ما تلبث هذه السحابة أن تنقشع، فيرجع له ضوؤه فينير السماء، كذلك قلب المؤمن بينما هو سائر في طريق استقامته إذا اعتورته بعض السقطات والهنات، ولحظاتُ الضعف، بل والمعاصي فحجبت عنه نوره فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله انقشعت تلك الغمة، وعاد للقلب نوره واستقامته.
أيها المؤمنون: هناك صفات وعلامات للفتور بها يعرف المسلم أنه بحاجة لصقل قلبه، وتجديد إيمانه، الذي خَلِقَ بسبب ما عرض له من أسباب الفتور؛ فمن ذلك:
قسوة القلب: فيحس أن قلبه يتجمد شيئا فشيئا، لا يتأثر بموعظة ولا برؤيةٍ لأهل البلاء، ولا حتى بسماع القرآن، وربما دخل المقابر وحمل إليها الأموات وواراهم التراب وكأنه لم ير شيئًا، حاله كما قال الله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أو أشد قسوة)[البقرة: 74].
فإذا أحسست بقسوة في قلبك، وتحجر في عواطفك، فاعلم أنه مظهر من مظاهر ضعف الإيمان والفتور.
ومنها: الوحشة بينه وبين الله: وعلامتها استثقال العبادة، والتهاون في الطاعة، وعدم الحزن على فواتها، فتفوته مواسم العبادة ولا يتأثر، ويتأخر عن الجمع والجماعات ولا يحزن، وعبادته إن أداها فهي مظاهر خالية من الروح: فالصلاة بلا خشوع، وقراءة القرآن بلا تدبر، والأذكار عادة، والدعاء مجرد كلام باللسان مع غياب القلب، والله لا يقبل دعاءَ قلب ساهٍ لاهٍ.
ومنها: الاستهانة بالمكروهات والمشتبهات: فبعد ما كنت تسألُ عما فيه شبهةٌ لتجتنبه حفاظًا على دينك ولا تتجرأَ أن تقترب مما قيل إنه مكروه، إذا بك لا ترى بما دون الحرام بأسًا، فقارفت المكروهات، وولغت في الشبهات: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام...".
فقادك هذا التساهل إلى رفع الحاجز عن الحرام، فسهل عليك الوقوع فيه، فاجترأت على محرمات لم تكن قديما تخطر لك على بال، وكلما ضعف الإيمان ازداد المرء تفلتا.
ومنها: عد م الغيرة على محارم الله: فإن نار الغيرة إنما توقدها جذوة الإيمان، وقد خبت تلك الجذوة؛ فكيف ينكر المحرَّمَ من وقع فيه؟ وكيف يكره أهل المعاصي من يعيش بينهم؟
وربما زاد القلب إظلاما حتى يرى الحق باطلا، والباطلَ حقا، والحسنَ قبيحا، والقبيحَ حسنا.
ومن مظاهر ضعف الإيمان أيضا: حب الدنيا على جميع صوره، والهلعُ عند المصيبة والجزع لها، وكثرة المراء والجدال المقسي للقلب، والاهتمام بالمظاهر والمغالاة فيها، وغيرها كثير.
معاشر المؤمنين: من ابتلي بمثل هذه العلامات، فليسارع بغسل قلبه بالتوبة، وليسع جاهدا في تقوية إيمانه، وليتدارك نفسه قبل أن يموت قلبه وهو لا يشعر.
اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
فيا أيها الناس: ومن أمثلة الفتور عن الطاعة التي نعايشها في هذه الأيام: تكاسل الكثير عن الطاعات في نهاية رمضان، ويزداد الكسل والفتور بعد رمضان، فبعد أن كان المسلم متحمسا للطاعة، مجتهدا في العبادة، إذا به يكسل شيئا فشيئا، حتى يتركَ كثيرا من الطاعات.
لذا كان لزاما على العبد أن يسعى جاهدا في دفع الفتور عن نفسه، وإن من أهم عوامل دفع الفتور وتقوية الإيمان، هو: معرفة الأسباب التي دعت لذلك، فبإزالتها تعود الحياة للقلب، ويزهر إيمانه، قال بعض السلف: "من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزدادُ إيمانُه أم ينقص، ومن فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان من أين تأتيه".
فمن فقه الإنسان أن يراقب قلبه ودينه، وينظر من أين يأتيه الفتور، وماهي أسباب ضعف إيمانه؟
وقد ذكروا منها: الصحبة السيئة، وإن شئت قل الابتعاد عن أجواء الإيمان، وهو أول ما يدخل الفتور به على أهل الإيمان.
ومنها: الانشغال بالدنيا، والحرص عليها، والسعي وراءها وطلب الجاه فيها: قال معاذ -رضي الله عنه-: "يا ابن آدم! أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر".
ومنها: الابتعاد عن العلم الشرعي: وخاصة إذا اعتاظ عنها بالكتب التي تقسي القلب، وتشتت الفكر؛ ككتب الفلسفة، وقصص الحب الساقطة، والمجلات الخليعة، وقد يصاب بقسوة القلب من يُكثر من الجدال والمراء، وكذلك قراءة كتب أهل البدع والخلاف، وترك كتب الرقائق، وخير ما يستفاد منه قوةَ الإيمان كتابُ الله، ثم مدارسةُ السنة، والسيرة، ثم قصصُ الصالحين وأحوالهم.
ومن أسباب الفتور: الإفراط في الكلام والطعام والمنام والخلطة، وغيرها ممن يقسي القلب، ويجفف العين.
عباد الله: من أراد إزالة الفتور عن قلبه، فعليه بدوام المراقبة والمحاسبة.
والأصل في هذا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
ومن أسباب الشفاء من الفتور: تدبر القرآن: فإن ضعف الإيمان مرض قلبي، والله أنزل القرآن شفاء لأدواء القلب والبدن: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82].
وإنما يأتي العلاج مع التدبر والفهم: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
ومن الأسباب كذلك: ذكر الله: فهو جلاء القلوب من صدئها وشفاؤها من أمراضها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو روح الأعمال الصالحة، والفلاح يترتب عليه: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)[الأنفال: 45].
وهو وصية الله لعباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)[الأحزاب: 41].
فالذكر مرضاة للرحمن، مطردة للشيطان، مزيل للهم والغم، جالب للرزق والفهم، به تطمئن القلوب، وتبتهج النفوس، وتنشرح الصدور: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
وترك الذكر قسوة للقلب، وأي قسوة، كيف لا وهو نسيان لله، ومن نسي الله نسيه الله.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "في القلب قسوة لا يزيلها إلا ذكر الله -تعالى-، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله".
قال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذبه بالذكر".
ومن الأسباب الدافعة للفتور: الدعاء والانكسار بين يدي الله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[غافر: 60].
وأقرب باب يدخلُ منه العبد على الله باب الافتقار والمسكنة، ولذلك كان أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فسل ربك أن يطهر قلبك، وينوره بالإيمان.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، أن تجدد الإيمان في قلوبنا.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
والحمد لله رب العالمين.