العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
والسميع -سبحانه- هو الذي يسمع أقوال خلقه ودعاءهم وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم، فله السمع الكامل الشامل المطلق، فيسمع ربنا كل ما ينطق به خلقه من قول، يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفوت، والنطق والسكوت: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) [الأعلى: 7]، يسمع -سبحانه- جميع الأصوات على اختلاف الألسن واللغات والأصوات والحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أنعم علينا بالأسماع والأبصار والأفئدة، وهدانا إلى الإيمان به وبرسله، نسمع ونبصر ما حولنا، وهو يسمع ويبصر كل شيء في ذات الوقت، محيط بكل شيء سبحانه، لا تشبِهُ ذاتُهُ الذوات، ولا تشبِهُ صفاتُه الصفات، ولا تكتنفه الأرض ولا السماء، الأول بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء، جلَّ عن الصاحبةِ والأبناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كانَ قبلَ الأمكنةِ والأرجاءِ، فكوَّنَ الأكوانَ ودبَّرَ الزمانَ، وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واقدروه حق قدره، واعلموا أنه لا يخفى عليه شيء من أمركم، فراقبوا ربكم، واحذروا, فكثيرًا ما تغيب عنا معاني مراقبة الله -تبارك وتعالى-، واستشعار معيته واطلاعه، ولا نتذكر في أحيان كثيرة أن الله معنا في كل حين، يسمع كلامنا ويرى أفعالنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، محيطٌ بنا -سبحانه- سمعًا وبصرًا وتدبيرًا، ويحكم فينا قضاءه وقدره.
وتيقنوا -إخوتي- أن الله -سبحانه- مطلع على كل شيء، يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب؛ حيث لا يطلع عليها الملَك، ويعلم ما سيكون منها؛ حيث لا يطلع عليه القلب.
سبحانه البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضاءها، ولحمها ودمها، ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع.
وهو السميع الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمعٌ عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه كثرة السائلين.
سبحانه وتعالى يسمع خلقه كلهم على اختلاف اللغات، وتفنن الحاجات، قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهره، بل لو قام الجن والإنس كلهم من أولهم إلى آخرهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في صعيد واحدٍ وسألوا الله جميعًا في لحظة واحدة، وكل منهم تحدث بلهجته ولغته لسمعهم أجمعين، دون أن يختلط عليه صوتٌ بصوت، أو حاجةٌ بحاجة، يعلم سبحانه ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجز القائل عن التعبير عن مراده، فيعلم الله ما في قلبه فيعطيه سؤله، وصدق السميع العليم: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الملك: 13].
تبارك الله السميع, يسمع من يدعوه ويناجيه، فيجيب الدعاء، ويكشف السوء، ويقبل الطاعة، دعاه يوسف -صلى الله عليه وسلم- أن يصرف عنه كيد النسوة: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف: 34]، ودعاه يونس في بطن الحوت: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) [الأنبياء: 87 - 88].
وهو سبحانه السميع لنداء المضطرين وحمد الحامدين، وخطرات القلوب وهواجس النفوس، ومناجاة الضمائر، يسمع كل نجوى، ويدرك كل بلوى، ويحيط بكل شكوى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض أو في السماء، لا يشغله نداء عن نداء، ولا يمنعه دعاء عن دعاء.
فعظموا -إخوتي- ربكم واشكروا له، وتيقنوا أن السميع -سبحانه- أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكلّ الأصوات يسمع سرّها وعلنها، وكأنّها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللّغات، القريب منها والبعيد، والسرّ والعلانية عنده سواء، قال تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الملك:13] وقال سبحانه: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرّعد:10].
أيها المسلمون: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه السميع، قال سبحانه في معرض دعاء إبراهيم خليل الرحمن: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127]، وقال تبارك وتعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1]، وقال الله -جل وعلا-: (كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُون) [الشورى:15]، وقال الله -تعالى-: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون) [الزخرف: 80]، وقال جل شأنه: (إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 58].
وقد وصف نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ربه، وهو أعرف الخلق به، بأنه السميع، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: كنّا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في سَفَر، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس! أربعوا على أنفُسِكم؛ فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبًا، ولكنْ تدعون سميعًا بصيرًا". (البخاري (2992)). وعن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستفتح في صلاته قبل القراءة بقوله: "أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ". (أبو داود وصححه الألباني (775)).
وكما يكون سمعه خاصًّا بأهل طاعته، فكذلك يكون خاصًّا بأهل عقوبته؛ للدّلالة على شدّة غضبه وسخطه، كقوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) [آل عمران: 181]، ويؤكد ذلك حديث قصة رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من الطّائف، حيث ناداه جبريل فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ..". (متفق عليه: البخاري (3231) مسلم (4754)).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله -عز وجل-: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت: 22 ]" والحديث أخرجه البخاري في صحيحه (4817).
يا عباد الله: والسميع -سبحانه- هو الذي يسمع أقوال خلقه ودعاءهم وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم، فله السمع الكامل الشامل المطلق، فيسمع ربنا كل ما ينطق به خلقه من قول، يسمع السر والنجوى، سواء عنده الجهر والخفوت، والنطق والسكوت: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) [الأعلى: 7]، يسمع -سبحانه- جميع الأصوات على اختلاف الألسن واللغات والأصوات والحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، يسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء.
وهو السميع الذي وهب كل ذي سمع في هذا العالم حاسة السمع، فالإنسان مخلوق ضعيف زوَّده ربه بما يعينه على الحياة لعله يتذكر أو يخشى، قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان: 2]، وقال سبحانه مبينًا أنه واهب السمع وخالقه: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [السجدة : 9].
وتفرد السميع -سبحانه- بأنه هو السميع البصير، السميع العليم، السميع القريب؛ لأنه محيط بالمخلوقات كلها، لا يفوته شيء منها، ولا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات والأرض، وجميع الخلائق تحت سمعه وبصره وعلمه، يسمع أقوالهم، ويرى أعمالهم، وهو السميع الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، أحصى أقوال العباد وأفعالهم، من الطاعات والمعاصي، والحسنات والسيئات، ثم يجازيهم على ذلك في الآخرة: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام: 115].
ومن يتدبر القرآن الكريم يجد أن اسم الله السميع جاء في كثير من النصوص القرآنية مقترنًا باسم الله العليم في أكثر من ثلاثين موضعًا، ومقترنًا باسم الله البصير في أكثر من عشرة مواضع، ومقترنًا باسم الله القريب في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ:50]، ولا يخفى عليكم -إخوتاه- أن ارتباط اسم الله السميع بهذه الأسماء الحسنى (العليم – البصير - الرقيب) يدل على أن علم الله -سبحانه- وسمعه تام لا نقص فيه، ومراقبته لخلقه مطلقة لا حد لها، كاملة فلا سهو لا غفلة، فسبحان السميع العليم.
وكن على يقين أن الله الجليل -سبحانه- منزَّه عن كل عيب ووصف قبيح، فهو المحيط بكل ما يرى ويسمع، فكل شيء محضر لديه، ولا يخفى شيء عن علمه، فلا يلزم من سماعه أن يكون له أذن، بل يسمع سماعًا يليق به -سبحانه- يدرك به كل شيء.
وهو سبحانه وتعالى -كما وصف نفسه- السميع البصير، السميع بلا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، لا يشبه سمعُه سمعَ خلقه، يقول القرطبي -رحمه الله-: "إن السمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق -سبحانه وتعالى- متصفًا بهما".
أيها المؤمنون: اعلموا -بارك الله فيكم- أن السمع في كلام العرب يستعمل على ثلاثة أوجه: فيستعمل بمعنى القبول، كما في قول إبراهيم الخليل -عليه السلام-: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [إبراهيم : 39] أي: لقريب الإجابة ممن دعاه، وقد دعوته فلم يخيّب رجائي. وفي حديث أَنَسٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَوْلٍ لَا يُسْمَعُ، وَعَمَلٍ لَا يُرْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَعِلْمٍ لَا يَنْفَعُ" (مسند أحمد (13003) وهو على شرط مسلم)، فأفاد لفظ السمع في الحديث معنى القبول؛ حيث إن النبي -عليه الصلاة والسلام- استعاذ بربه من قول لا يُقبل.
كما يأتي السمع بمعنى الفهم وإدراك العلم، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104]، أي افهموا نهيه، واعقلوا توجيهه، واسمعوا سماع تنفيذ واستجابة، لا كسماع اليهود؛ حيث قالوا سمعنا وعصينا. ومنه قوله -تعالى-: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال:23] أي لأفهمهم، ولو أفهمهم لتولّوا، فجمعوا بين صفتي الجهل والكِبر، ومنه أيضًا قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10].
ويأتي السمع -كذلك- بمعنى الانقياد والاستجابة والاتّباع، كما في قوله -تعالى-: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) [المائدة: 41]، فهؤلاء المنافقون يستجيبون للكذب، وينقادون لغير الله، وحريّ بالعبد أن يعلم أن الله -سبحانه- لم يخلق له السمع إلا ليسمع خير الكلام في دينه ودنياه.
وإن أفضل ما يسمع هو كلام ربه الذي أنزله على نبيه فيستفيد به الهداية، فالعبد إذا تقرب إلى ربه بالنوافل أحبه الله، فأفاض على سمعه نورًا يضيء بصره وبصيرته، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "... وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ (يَبْطُشُ) بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" (البخاري (6502)).
وقد يأتي السمع بمعنى الإدراك، كما في قصة المجادِلة خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- حين جاءت تشكو زوجها لرسول الله سرًّا، فأنزل الله -تعالى- على إثر ذلك الموقف قوله -تعالى-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1], أي قد سمع الله يا محمد مجادلة المرأة سماعًا تامًّا، وأدرك حاجتها ومقصودها، وقد علقت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- على هذه الحادثة تعبيرًا جميلاً، فقالت: "الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ" (البخاري (7385))، وفي رواية: "تبارك الذي وسع سمعه الأصوات! والله إني لفي الحجرة وقد خفي عليّ بعض حديثها"، وتعجبت -رضي الله عنها- تسبح وتقدس من وسع سمعه جميع الأصوات الظّاهرة والباطنة، الخفيّة والجليّة، وإحاطته التامّة بها، فسبحان السميع العليم.
أيها المسلمون: اعلموا أن الله -سبحانه- له سمع عام وسمع خاصّ، عام يشمل جميع الأصوات، وخاص وهو إجابته السّائلين والدّاعين والعابدين، فالسّائل والدّاعي يجيبه الله، والعابد يُثيبه الله، قال تعالى حكاية عن إبراهيم -عليه السّلام-: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [إبراهيم:39]، أي: مجيب، ومن ذلك ما شُرع للمصلي عند الرّفع من الرّكوع أن يقوله -كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما- "سمع الله لمن حمده" (البخاري (736)) أي: استجاب الله لمن حمده.
وقد يأتي السمع مرادًا به النصر والتأييد، كما في قوله تعالى لموسى وهارون: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46]. أي لا تقلقا من بطش فرعون، إنني معكما بحفظي ونصري وقدرتي ورعايتي، أسمع كلامكما وكلامه، وأرى فعلكما وفعله، لا يخفى عليَّ شيء من حالكما وحاله، فهذا الطاغية ناصيته بيدي، ولا يستطيع أن يتحرك أو يتنفس إلا بإذني.
وقد يدل السمع على الوعيد والتهديد كما في قوله تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80]، فإن هذا يُرَاد به تهديدهم ووعيدهم؛ حيث كانوا يُسِرُّونَ ما لا يرضى من القول، كما قال تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [النساء:108]، فأعلمهم أن إسرارهم وتسترهم لا يعني خفاء أقوالهم وأعمالهم على الله، فليحذر العبد من اطلاع الله عليه في خلوته، ولا يبارز ربه بالعصيان، فالله سميع بصير، لا يخفى عنه شيء، وقد أحسن من قال:
إذا خلوت الدهر يومًا فلا تقل | خلوتُ، ولكن قل عليَّ رقيبُ |
ولا تحسبنّ الله يغفل سـاعةً | ولا أن ما تُخفيه عنه يغيبُ |
اللهم ارزقنا تقواك وخشيتك في السر والعلانية، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، السميع العليم، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، بالمؤمنين رءوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أنفسكم على النار لا تقوى، وارقبوا سمع الله فيكم، وبصره بكم، واطلاعه عليكم، واعلموا -إخواني- أن السميع البصير -سبحانه- أحاط بكل ما يُسمع وما يُرى، وبما يجول في الأذهان، وما تخفيه النفوس وما تكنه الضمائر، لا يخفى شيء من ذلك عن الله -سبحانه وتعالى-، فلنحذر من اطلاع الله علينا مع سابق علمه فينا، ولنكن من الدنيا على حذر، ولنعلم أن الله -تبارك وتعالى- معنا يسمع كلامنا فنخشى أن يسمع منا ما لا يرضيه، ولنحرص على قول وفعل وسماع ما يرضي السميع العليم -سبحانه-.
عباد الله: إننا لو تأملنا في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11] لوجدناها أصرحُ آية في القرآن في تنـزيه الله تعالى التنـزيه الكُلي، والكافُ في (كمِثله) لتأكيد النفي، ففي الآية نفي ما لا يليق بالله عن الله، وقوله -تعالى-: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فيه إثباتُ ما يليق بالله، فالسمع صفةٌ لائقةٌ، والبصرُ كذلك، وإنمَّا قدَّم الله -تعالى- في هذه الآية التنـزيه حتى لا يُتوهم أن سمعه وبصره كسمع وبصر غيره.
أيها المسلمون: لا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن دعاء الله -سبحانه- بأسمائه الحسنى، وليحرص على أن يتعبد لربه باسمه السميع، فيعلم أنه -عز وجل- فوق عرشه استوى، يسمع كل صغيرة وكبيرة في خلقه، فيراقب ربه في سره وعلانيته ويتقيه، ويخشاه، ولا يخاف من أحد سواه، ويذكره على الدوام صباح مساء، كما دلنا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ". (أبو داود (4425) والترمذي (3310) وصححه الألباني في صحيح الجامع).
واعلم –يا عبد الله- أن إيمانك بأن ربك (سميع) يورثك حفظًا للسانك، وصيانةً لكلامك، ومواظبةً على ذكر ربك وشكره، والإكثار من التوسل إليه بهذا الاسم العظيم؛ لكي يحقّق رجاءك ويعطيك سؤلك، كما أن إيمانك باسمه السميع يجعلك تفزع إليه في الشدائد، وترجوه في الأزمات، وسواء دعوته سرًّا أو علانية أو مناجاة، فكل ذلك يسمعه ويدركه، فسبحان السميع العليم.
وعليك أن تتوسل لله باسمه السميع وتدعوه به وترجوه، وقد أكثر القرآن العظيم من ذكر توسل الأنبياء إلى الله بهذا الاسم في دعائهم، ومن ذلك قول إبراهيم -عليه السلام-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) [إبراهيم : 39]، وفي دعاء زكريا-عليه السلام- أن يرزقه الذرية الصالحة قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [آل عمران : 38]، ودعت امرأة عمران أم مريم -عليها السّلام- فقالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران:35]، ودعوات الأنبياء لربهم واستجابته لهم في القرآن كثيرة، لا يتسع المقام لحصرها، فأجابهم سبحانه وتعالى فهو السميع العليم.
عباد الله: إذا كان الله -عزَّ وجلَّ- يسمع ما أسررنا وما أعلنا، فما أجدر العاقل أن يذكر الله بقلبه ولسانه، ويكثر من تلاوة كتابه، ويقوم بما يحبه الله من الدعوة إلى الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحمد الله وشكره على نعمه وإحسانه، وحين نتيقن إدراك الله الواسع وسمعه المحيط فإنه يسعنا أن نذكر الله سرًّا أو علانية أو في قلوبنا، مما يسهل علينا عبادته وذكره، ولا نجد في طاعته عسرًا، ولنطمئن فذكرنا مسموعٌ، وثوابنا محفوظٌ.
وكونوا -أيها المؤمنون- على حذر من ألسنتكم، واعلموا أن رب العالمين سميع لما تنطق به الألسنة، عليم بما في الصدور، فاحذروا ما يبغضه الله من الغيبة والنميمة، والكذب وقول الزور، فالكل مسموع، والكل محفوظ، والكل مسئول عنه، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
وفي آية عظيمة يبين لنا ربنا المنعم -جل وعلا- فضله على عباده، فيقول تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]، فيبين ربنا في هذه الآية أن ابن آدم مخلوق ضعيف، خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ووهبه الله الحواس السمع والبصر والفؤاد، لعله أن يكون من الشاكرين.
فاحرصوا -عباد الله- على محبة السميع -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسمعنا الخيرات، ويباعد بيننا وبين المنكرات، وأن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.