البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

القريب

كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...

أجهزة التواصل الاجتماعي (1) ظواهر مؤذية.. ومظاهر مؤلمة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. تحول البيان من اللسان إلى الأصابع .
  2. ثورة التواصل تغير السلوك والأخلاق .
  3. أثر ثورة التواصل في تدمير الأواصر الاجتماعية .
  4. مظاهر اجتماعية سيئة .
  5. أجهزة التواصل أمضى الأسلحة في نشر الأكاذيب .
  6. كيف نواجه فتنة ثورة التواصل؟! .

اقتباس

إنها ثورة في التواصل قد غيرت الأخلاق والسلوك وأنماط التعامل بين الناس، حتى قلبت حياتهم رأسا على عقب. فالبيوت الحية بحديث أهلها صمتت كأنها خالية من أهلها، ومنتديات الناس للحديث والمؤانسة اتخذ الناس بدلا عنها مقاهٍ مظلمة كأنها مقابر، وحينما كانت الضوضاء تخرج من بيوت الأجداد والجدات في آخر الأسبوع حيث اجتماع الأولاد والأحفاد ذهبت هذه الحيوية والنشاط فيأتي كلُ واحد منهم يتأبط جهازه فيسلمون على بعض ثم يتخذ كل واحد منهم من كبير وصغير وذكر وأنثى زاوية من الغرفة...

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ (عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرَّحْمَنَ: 2- 4]، فَأَبَانَ الْإِنْسَانُ عَنْ مَكْنُونِ نَفْسِهِ بِلِسَانِهِ، أَوْ خَطَّهُ بِبَنَانِهِ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْكَثِيرَةِ، وَآلاَئِهِ الْجَسِيمَةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ مُرَاقَبَتَهُ إِحْسَانًا فَوْقَ الْإِسْلامِ وَالْإيمَانِ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تُكَنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الْأُمَّةَ، وَبَلَّغَ الْبَلَاغَ المُبِينَ؛ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدَ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ مُحْصَاةٌ عَلَيكُمْ، وَإِنَّ أَلْفَاظَكُمْ مُدَوَّنَةٌ فِي كِتَابِكُمْ: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلّا لَدَيه رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18]، وَإِنَّكُمْ تُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا قُلْتُمْ وَمَا عَمِلْتُمْ، فَكَمْ مِنْ قَائِلٍ قَوْلًا أَنْكَرَهُ، وَكَمْ مِنْ عَامِلٍ عَمَلًا جَحَدَهُ، فَتَشْهَدُ الْأَرْكَانُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يَسِ: 65].

أَيُّهَا النَّاسُ: كَانَ اللِّسَانُ مِنْ قَبْلُ يَنْطِقَ كَثِيرًا، وَكَانَ الْعُلَمَاءُ وَالْوُعَاظُ يُحَذِّرِونَ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ وَآفَاتِهِ؛ حَتَّى أُلّفَتْ الْكُتُبُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَبَيَانِ خُطُورَتِهِ، وَسِيقَتْ النُّصُوصُ المُعَظِّمَةُ لِشَأْنِهِ، وَاَسْتَحْضَرَ النَّاسُ فَيَهِ قَوْلَ النَّبِيِّ -عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلَامُ-: "وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!"، وَقَوْلَهُ -عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلَامُ-: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هَذَا فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيه اللِّسَانُ مَلِكَ الْبَيَانِ، لَا تُنَافُسُهُ عَلَيهِ إِلَّا الْكِتَابَةُ وَالْإِشَارَةُ وَهُمَا قَلِيلَتَانِ، أَمَّا الْيَوْمُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْبَيَانِ قَدْ تَحَوَّلَ مِنْ اللِّسَانِ إِلَى الْأَصَابِعِ، فَصَارَتْ أَصَابِعُ بَعْضِ النَّاسِ تَتَحَدَّثُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْبَشَرِ مِنْ عُلُومِ الْاِتِّصَالِ وَالتَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ المَجَّانِيِّ.

إِنَّهَا ثَوْرَةٌ فِي التَّوَاصُلِ قَدْ غَيَّرَتِ الْأَخْلَاقَ وَالسُّلُوكَ وَأَنْمَاطَ التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى قُلِبَتْ حَيَاتُهُمْ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ؛ فَالْبُيُوتُ الْحَيَّةُ بِحَدِيثِ أَهْلِهَا صَمَتَتْ كَأَنَّهَا خَالِيَةٌ مِنْهُمْ، وَمُنْتَدَيَاتُ النَّاسِ لِلْحَدِيثِ والمُؤَانَسَةِ اِتَّخَذَ النَّاسُ بَدَلًا عَنْهَا مَقَاهٍ مُظْلِمَةٍ كَأَنَّهَا مَقَابِرُ، وَحَينَما كَانَتِ الضَّوْضَاءُ تَخْرُجُ مِنْ بُيُوتِ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فِي آخِرِ الْأُسْبُوعِ حَيْثُ اِجْتِمَاعُ الْأَوْلاَدِ وَالْأَحْفَادِ ذَهَبَتْ الْحَيَوِيَّةُ وَالنَّشَاطُ وَالأُنْسُ؛ فَيَأْتِي كلُ وَاحْدٍ مِنْهُمْ يَتَأَبَّطُ جِهَازَهُ فَيُسَلِّمُونَ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ يَتَّخِذَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ وَذَكْرٍ وَأُنْثَى زاوِيَةً مِنَ الْغُرْفَةِ أَوْ المَنْزِلِ فَيَعِيشُ بِجَسَدِهِ مَعَ أهْلِهِ، وَأَمَّا رَوْحُهُ وَعَقْلُهُ فَمَعَ مَنْ يُحَادِثُ فِي جِهَازِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لِيُكَلَّمُ فَلَا يَسْمَعُ، وَيُسْأَلُ فَلَا يُجِيبُ، وَلَا يَتَحَرَّكُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَّا بِأَنْ يَتَبَرَّعَ أحَدُهُمْ فَيَهُزُّهُ أَوْ يَحُولُ بِيَدِهِ بَيْنَ بَصَرِهِ وَجِهَازِهِ، وَرُبَّما غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ دُعِيَ إِلَى عَشَاءٍ أَبَى غَضَبًا وَهُوَ جَائِعٌ.. وَكَمْ عَطِشَ مِنْ مُحَادِثٍ وَمَا شَعَرَ أَنَّهُ عَطْشَانُ، وَجَاعَ وَمَا أَحَسَّ أَنَّهُ جَوْعَانُ، وَنَالَ الْبَرْدُ مِنْ جَسَدِهِ مَا نَالَ وَلَمْ يَعْلَمْ، فَهُوَ سَادِرٌ فِي جِهَازِهِ لَا نَائِمٌ وَلَا يَقْضَانُ، وَلَا ذُو عَقْلٍ وَلَا سَكْرَانُ، يَسْمَعُ وَلَا يَسْمَعُ، وَيَشْعُرُ وَلَا يَشْعُرُ، فَحالُهُ بَيْنَ حالَيْنِ.

إِنَّهَا وَسَائِلُ أَدَّتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَحْيَانِ إِلَى الْعُقُوقِ؛ فَالْجَدَّةُ تَسْأَلُ وَلَا أَحَدَ يُجِيبُهَا، وَتَتَحَدَّثُ وَلَا أَحَدَ يُنْصِتُ لَهَا، أَخَذَتْهُمْ أَجْهِزَتُهُمْ عَنْهَا، حَتَّى إِذَا شَعَرَتْ أَنَّه لَا أَحَدَ يُنْصِتُ لِحَديثِهَا صَمَتَتْ مُنْكَسِرَةً مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيهَا.

وَيَكُونُ الْوَلَدُ مَعَ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ لَا يُشَارِكُهُ فِي مَجْلِسِهِ أَحَدٌّ غَيْرُهُ، حَتَّى إِذَا مَضَى وَقْتٌ قَلِيلٌ عَلَى جُلُوسِهِ أَخْرَجَ جِهَازَهُ لِيُشَارِكَهُ مَعَه فِي أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ، فَيَنْطِقُ مَعَهُ أَوْ مَعَهَا تَارَةً، وَيَنْظُرُ فِي جِهَازِهِ تَارَةً أُخْرَى، وَيُحَاوِلَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَمَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، حَتَّى إِذَا أَعْيَاهُ التَّرْكِيزُ اِخْتَارَ الْبَرَّ فَأَقْفَلَ جِهَازَهُ، أَوْ اِخْتَارَ الْعُقُوقَ فَتَرَكَ حَدِيثَ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ، أَوْ تَخْلَّصَ مِنْ مَأْزِقِهِ بِالْاِسْتِئْذَانِ فِي الْخُرُوجِ، وَمَا لَهُ مِنْ حاجَةٍ إِلَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحَادِثَ بِجِهَازِهِ. وَلَوْ أَنَّهُ أَشْرَكَ أُمَّهُ وَأَبَاهُ فِيمَا يَرَى وَيَقْرَأُ لَسَرَّهُمَا بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلَ رُبَّما لِأَنَّ مَا يُشَاهَدُهُ وَمَا يَقْرَؤُهُ لَا يَسُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بَلْ يَضُرُّ وَيُحْزِنُ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْوَلَدِ إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ أَحَدِ أَبَوَيهِ أَنْ يُقْفِلَ جِهَازَهُ، وَيُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيهِ، وَيُصْغِيَ إِلَيهِ، وَلَا يَنْشَغِلَ عَنْه، إِلَّا إِذَا كَانَ سَيُشْرِكُهُ فِيمَا يَقْرَأُ وَيُشَاهِدُ، وَيَعْلَمُ مَحَبَّتَهُ لِذَلِكَ.

وَمِنْ سُوءِ أَدَبِ المَجَالِسِ أَنْ يُشْغَلَ الْجَلِيسُ عَنْ جَلِيسِهِ بِمُحَادَثَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، فَيَتْرُكَ آدَمِيًا أَمَامَهُ وَيُقْبِلُ عَلَى حَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ، إِلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ لِأَمْرٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ.

إِنَّهَا وَسَائِلُ قَرَّبَتِ الرِّجَّالَ مِنْ النِّساءِ، وَالشَّبَابَ مِنْ الْفَتَيَّاتِ، فَأَوْقَعَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُيُوتِ الرِّيَبَ وَالشُّكُوكَ، وَأَوْصْلَتْ كَثِيرًا مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ عَتَبَةَ الطَّلاَقِ بَعْدَ الْخِصَامِ وَالشِّقَاقِ، وَفِي عَدَدٍ مِنَ الْإِحْصَاءَاتِ أَنَّ نِسَبَ الطَّلاَقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ ارْتَفَعَتْ اِرْتِفَاعًا مُخِيفًا بَعْدَ ثَوْرَةِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ.

وَكَمْ مِنْ فَتَاةٍ غُرِّرَ بِهَا عَنْ طَرِيقِهَا وَهِي لَا تَعْرِفُ لِلْشَرِّ طَرِيقًا، وَلَا لِلْإِثْمِ سَبِيلًا، وَلَيْسَ فِي قَلْبِهَا أَيُّ رِيبَةٍ وَلَكِنْ صَدَقَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ-: "لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِاِمْرَأَةٍ إلّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ". وَقَدْ هَيَأَتْ بَرامِجُ التَّوَاصُلِ خَلْوَةً بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لِلْحَدِيثِ وَالتَبَاسُطِ وَالمُؤَانَسَةِ وَرَفْعِ الْكُلْفَةِ وَالمُضِيِّ سَاعَاتٍ طِوَالٍ فِي أَحْلَامٍ، وَسَهَرَ لَيَالٍ عَلَى أَوْهَامٍ؛ حَتَّى تَأْلَفَهُ وَيَأْلَفَهَا، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الحَالَاتِ يَضْحَكُ عَلَيهَا بِجَمِيلِ الْكَلاَمِ، وَإِظْهَارِ الْحَفَاوَةِ وَالْاِهْتِمَامِ، فَتُرِيهِ صُوَرَهَا لِيَنْحَرَهَا بِهَا بَعْدَ أَنْ يَبْتَزَّهَا وَيُعَذِّبَهَا وَيُهْلِكَهَا وَيُتْلِفَ أَعْصَابَهَا، وَفِي الْبُيُوتِ مَآسٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، خَفَّفَ اللهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِهَا، وَأَسْبَغَ عَلَينَا وَعَلَى المُسْلِمِينَ سِتْرَهُ.

وَيَخْلُدُ الْوَاحِدُ إِلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ مُتْعَبٌ يُغَالِبُهُ النَّوْمُ، وَلَرُبَّما تَكَاسَلَ عَنِ الْوُضُوءِ وَالوِتْرِ مِنْ شِدَّةِ تَعَبِهِ وَغَلَبَةِ نَومِهِ، فَيُطِّلُ طَلَّةً أَخِيرَةً عَلَى جِهَازِهِ قَبْلَ النَّوْمِ فَيَرَى مُحَادَثَةً فَيَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَيَظَلُّ يُحَادِثُهُ حَتَّى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ أَوْ بُزُوغِ الْفَجْرِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِتَعَبِهِ وَنَوْمِهِ، وَقَدْ بَخِلَ عَلَى رَبِّهِ بِرَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ.

وَيَصْحُو النَّائِمُ حِينَ يَصْحُو وَأَوَّلُ حَرَكَةٍ يَقُومُ بِهَا أَنْ يَلْتَقِطَ جِهَازَهُ لِيَنْظُرَ مَنْ حَادَثَهُ أَثْنَاءَ نَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى، وَقَبْلَ أَنْ يَقُولُ أَذْكَارَ الْاِسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ وَقَدْ يَنْسَاهَا.

بَلْ إِنَّ وَسَائِلَ التَّوَاصُلِ الْحَديثَةِ قَدْ فَتَنَتِ النَّاسَ فِي عِبَادَاتِهِمْ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ المُعْتَكَفِينَ تَمْضِي أَكْثَرُ أَوْقَاتِهِمْ فِي المُحَادَثَاتِ؛ لِتَرُدَّهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالصَّلاَةِ، وَكَمْ أَمَضَى حُجَّاجٌ أَيَّامَ الْحَجِّ بِالمُحَادَثَاتِ فَشَغَلَتْهُمْ عَنْ الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنِهِ الْفَاضِلَةِ، وَالتَّعَبُّدِ فِي المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يُسَلِّمُ مِنَ الصَّلاَةِ فَلَا يَقُولُ الأَذْكَارَ إِلَّا وَهُوَ يَلْتَقِطُ جِهَازَهُ لِيَنْظُرَ مَنْ حَادَثَهُ أَثْنَاءَ صَلَاتِهِ، وَكَمْ مِنْ قَارِئٍ لِلْقُرْآنِ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَاَشْتَغَلَ بِالمُحَادَثَةِ وَمُصْحَفُهُ فِي حِجْرِه!!

وَقَدْ يُؤَذِّنُ المُؤَذِّنُ وَهُوَ فِي مُحَادَثَةٍ، وَتُقَامُ الصَّلاَةُ وَهُوَ لَا زَالَ فِي مُحَادَثَتِهِ فَتَفُوتُهُ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ، يَعْلَمُهُ النَّاسُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ مِمَّنْ هُمْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ الْوَسَائِلُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شِيئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيهِ أَنْ يَهْجُرَ هَذِهِ الْوَسَائِلَ؛ لِئَلَا يَذْهَبَ عَلَيهِ دِينُهُ بِسَبَبِهَا.

وَبِسَبَبِ الْإِدْمَانِ عَلَى هَذِهِ الْأَجْهِزَةِ، وَمَا فِيهَا مِنْ سَيلٍ مُتَدَفِّقٍ مِنَ المُعْلُومَاتِ وَالأَخْبَارِ وَالصُّورِ وَالمَقَاطِعِ أُعِيدَ تَشْكِيلُ عَقْلِيَّاتِ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ بَعِيدًا عَنْ والِدِيهِمْ وَأُسَرِهِمْ وَمُعَلِمِيهِمْ، فَغَلَبَ عَلَى هَذِهِ الْعَقْلِيَّاتِ التَّمَرُّدُ وَالتَّفَرُّدُ، وَالْاِنْعِزَالِيَّةُ وَالْاِنْطِوَاءُ، وَتَثَاقُلُ الْجُلُوسِ مَعَ الْأُسْرَةِ، وَالسَّخَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى غَدَا إِرْضَاءُ الْوَالِدِينَ لِأَوْلاَدِهِمْ مِنْ أَعْسَرِ المُهِمَّاتِ رَغْمَ مَا يَغْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ المَالِ وَالْهَدَايَا وَالْهِبَاتِ.

وَسَادَتْ بِوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ أَخْلَاقٌ لَيْسَتْ سَوِيَّةً، وَمُمَارَسَاتٌ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ، يُفْرِغُونَهَا فِي نُكَتٍ تُشْعِلُ الْحُرُوبَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالَمَرْأَةِ، أَوْ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالمُعَلِّمِ أَوْ بَيْنَ مُشَجِّعِي فَرِيقَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يَقَعُ حَدَثٌ إِلَّا وَازْدَحَمَتْ مَوَاقِعُ التَّوَاصُلِ وَوَسَائِلُهُ بِمَقَاطِعَ سَاخِرَةٍ، أَوْ تَعْلِيقَاتٍ لاَذِعَةٍ، وَقْعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السِّياطِ الحَارَّةِ.

وَهِيَ مِنْ أَمْضَى الْأَسْلِحَةِ فِي نَشْرِ الْأَكَاذِيبِ، وَبَثِّ الْأَرَاجِيفِ، وَاِتِّهَامِ الأَبْرِيَاءِ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ. يَكْذِبُ فِي خَبَرٍ فَيُغَرِّدُ بِهِ، أَوْ يَصْنَعُ صُورَةً فَيَنْشُرُهَا وَهِي مُزَوَّرَةٌ فَتَبْلَغُ كَذْبَتُهُ أَوْ صُورَتُهُ الْآفَاقَ فِي ثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ، فَيَتَضَرَّرُ بِهَا أَنَاسٌ أَبْرِيَاءُ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَديثِ الرُّؤْيَا أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلَامُ- "مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيه بِكَلُّوبٍ مِنْ حَديدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّي وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاَهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاَهُ، وَعَيْنَه إِلَى قَفَاَهُ... قَالَ: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمرَّةَ الْأوْلَى...". وَقَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ "الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفاقَ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ يَكُونُ الدَّافِعُ لِذَلِكَ إِضْحاكُ النَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ فَيَهِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ-: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَالنَّاقِلُ لِلْكَذِبِ هُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَينِ، وَالرَّاضِي بِالسُّخْرِيَّةِ كَالسَّاخِرِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنِ اِكْتِسَابِ أَوْزَارٍ، وإِذْهَابِ حَسَنَاتٍ بِسَبَبِ هَذِهِ الْوَسَائِلِ، وَيَجِبُ عَدَمُ الْاِسْتِهانَةِ بِهَا؛ فَإِنَّهَا مَوْرِدُ بَحْرٍ مِنَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ إِنِ اِسْتُخْدِمَتَ فِي الشَّرِّ كَمَا أَنَّهَا مَجَالٌ رَحْبٌ لِكَسْبِ الْحَسَنَاتِ إِنِ اِسْتُخْدِمَتْ فِي الْخَيْرِ، وَلَمْ تُضَيَّعْ بِسَبَبِهَا الْوَاجِبَاتُ: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الْمُجَادَلَةَ: 6].

بَارُّكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لله حَمْدًا طِيبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيه كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهُ إِلَّا اللهُ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اِهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدَ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَانْظُرُوا مَاذَا تَكْتُبُونَ وَمَاذَا تُرْسِلُونَ؛ فَإِنَّه يُحْصَى عَلَيكُمْ بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزُّخْرُفَ: 80].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: هَذِهِ الثَّوْرَةُ الْعَظِيمَةُ فِي التَّوَاصُلِ بَيْنَ النَّاسِ هِي مِمَّا عَلَّمَ اللهُ تَعَالَى الْإِنْسانَ، وَمَا كَانَ يَظُنُّ الإِنْسَانُ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيه: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النَّحْلَ: 8]، وَهِي مِنْ تَقَارُبِ الزَّمَنِ المَذْكُورِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؛ فَإِنَّهَا قَرَّبْتِ الْبَعِيدَ، وَكَسَرَتْ جَمِيعَ الْحَوَاجِزِ، وَأَلْغَتِ الْحُدُودَ؛ فَيُحَادِثَ الْوَاحِدُ مَنْ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، وَبِأَيِّ أُسْلُوبٍ شَاءَ، لَا يَرُدُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُمَا حائِلٌ.

إِنَّهَا فِتْنَةٌ مِنْ فِتَنِ الْعَصْرِ جَعَلَتْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعِيشُ بِشَخْصِيَّتَيْنِ مُتَنَافِرَتَيْنِ؛ فَهُوَ الْوَقُورُ الْحَيِيُّ أَمَامَ النَّاسِ الَّذِي لَا يَقُولَ بَلسَانِهِ فُحْشًا، وَلَا يَنْطِقُ هُجْرًا، وَيَخْجَلُ وَيَتَصَبَّبَ عَرَقًا إِنْ سَمِعَ مَا لَا يَلِيقُ، لَكِنَّ هَذِهِ الشَّخْصِيَّةَ الْحَيِيَّةَ تَخْلَعُ الْحَيَاءَ إِنَّ كَانَ الْحَدِيثُ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَتِ الْعَيْنُ تَتَلَقَاهُ. فَمَا اسْتَحَيى مِنْهُ اللِّسَانُ وَالْأُذُنُ كَسَرَ حَيَاءَهُ اليَدُ وَالبَصَرُ. وَمَا رَاقَبَ اللهَ تَعَالَى مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ.

إِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتِ المُجْتَمَعَاتَ، وَاقْتَحِمْتِ الْبُيُوتَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ غَلْوَائِهَا إِلَّا الأُسَرُ الْفَقِيرَةُ، فَكَانَ فَقْرُهَا نِعْمَةً عَلَى شَبَابِهَا وَفَتَيَاتِهَا، وَمِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ يَعْجَزَ المَرْءُ عَنْ تَحْصِيلِ مَا يَكُونُ بِهِ إِثْمُهُ وَتَلَفُهُ.

إِنَّه لَا غِنَاءَ لِمُوَاجَهَةِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ الَّتِي عَمَّتِ الْبُيُوتَ كُلَّهَا عَنْ زَرْعِ مُرَاقَبَةِ الله تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَرَجاءِ مَا عِنْدَهُ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ وَالزَّوْجَاتِ وَالإِخْوَانِ والْأَخَوَاتِ، وَتَعَاهُدِهِمْ بِالمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ، وَبِأَسَالِيبَ مُتَنَوِّعَةٍ مُشَوِّقَةٍ، حَتَّى يُرَاقِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسَهُ، وَيَخَافَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُقَارِفَ إِثْمًا، وَتَوْجِيهِهِمْ إِلَى اِسْتِخْدَامِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ فِيمَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، مَعَ مِلْءِ أَوْقَاتِهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَيَحُدَّ مِنْ عُكُوفِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْوَسَائِلِ الَّتِي فُتِنَ النَّاسُ بِهَا فَافْتُتِنُوا.

قَالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "عَلَيكَ بِالمُرَاقَبَةِ مِمَّنْ لَا تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيَةٌ، وَعَلَيكَ بِالرَّجاءِ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْوَفَاءَ". وَقَالَ رَجُلٌ لِلْجُنَيدِ: "بِمَ أَسْتَعِينُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ؟! فَقَالَ: بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ النَّاظِرِ إِلَيكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى المَنْظُورِ إِلَيهِ".

وَصَلُوا وَسَلَّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...