البحث

عبارات مقترحة:

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

تعظيم شرائع الدين بين السلف والخلف

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. نصوص الشريعة تربية للنفس على الانقياد .
  2. وجوب تعظيم النصوص الشرعية .
  3. علامات تعظيم النصوص الشرعية .
  4. القرآن هو أصل الأصول ويجب أن يعظم .
  5. مكانة الحديث النبوي وحجيته .
  6. وجوب اتباع السنة والتحذير من الإعراض عنها .
  7. مواقف من تعظيم السلف للسنة النبوية .
  8. واقع المسلمين اليوم تجاه النصوص الشرعية .

اقتباس

إن من الأسباب الخفية لما يتعرض له المسلمون في هذه الأيام من تسليط للعدو عليهم، ومن ضعف أمرهم، وذهاب ريحهم، وتخبطهم في أودية المشرق والمغرب، هو بعدهم عن تعظيم الوحيين واتباع نورهما، والرضا بهما شرعا وحكما ومنهجا في الحياة، فلا عجب أن يذهب الله بمهابتنا وسطوتنا في قلوب أعدائنا، فما بعد قوة الوحيين من قوة، وما بعدهما من دولة، ومهما تعاطى المسلمون من أسباب القوة والريادة، ولم يأخذوا بتعظيم الوحيين، فلن يقوم لهما قائمة، ولن يجدوا غير ذيل الركب، حيث المهانة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله مجير المستجيرين، وأمان الخائفين، وملاذ الحيارى والمساكين، الحمد لله الذي أشرقت لنور وجهه الظلمات، وسالت على الخدود من خشيته العبرات، الحمد لله الذي عم فضله وانتشر، وسبح  بحمده كل مدر وحجر، والصلاة والسلام على خير البشر، الذي فاق حسنه ضوء القمر، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه جذع الشجر، والصلاة والسلام على آله الدرر، وعلى وزيريه أبي بكر وعمر، وعلى سائر العشرة الناجين من السُعر، والمهاجرين والأنصار الطُهر، وتابعيهم بإحسان  إلى يوم المستقر، والوقوف بين يدي المليك المقتدر.

عباد الله: اتقوا الله، فبتقوى الله تكن النجاة يوم الهول، والأمن يوم الفزع، الفوز يوم التغابن، والفلاح يوم الندم، وما على المتقين يوم الدين من حزن، ففي رحمة الله هم فيها خالدون.

أيها الناس: من أكثر الأمور التي يجب على كل طالب جنة أن يربي نفسه على اتباعها والالتزام بها وتعظيمها، ولو تعارضت مع هواه ورغباته وشهواته هي نصوص الشريعة، لكثرة ما فيها من مكروهات النفوس التي تريد الكسل والبطالة والتلذذ بزينة و زخارف الدنيا.

ففي نصوص الشريعة وأحكامها ما يخالف شهوات بعض الناس وشبهاتهم، وكان تلقيهم لتلك النصوص والأحكام مصحوباً بنوع من التردد والتقاعس مع التثاقل والحرج في صدورهم، هذا إن لم يدفعوا تلك الأحكام الشرعية بالكلية أو يتعسفوا ويتحذلقوا بتأويل نصوص الشرع والتحايل عليها في سبيل تحقيق شبهاتهم وشهواتهم، ومن أكثر الأمور المعينة على الالتزام بنصوص الشريعة والعمل بها ولو على حساب هوى النفوس وحظوظها، هو تعظيم هذه النصوص وتوقيرها في النفوس والصدور.

وتُعظيم النصوص إنما يكون بناء على تعظيم ربِّنا -سبحانه وتعالى-، الذي علَّمنا هذه النصوص بإرسال رسوله -صلى الله عليه وسلم- وشرَفُ الأمر إنَّما يَشرُفُ بحسب شرف الآمر وتعظيم هذه النصوص متعلق بتعظيم الله -سبحانه وتعالى-, فإذا عظَّمتَ النصوص الشرعية -يا عبد الله- إنما تعظم ربك الذي شرع لك هذه النصوص بوحيه المتمثِّل في الوحيين, وكلّما كان العبد أكثر تعظيم للنصوص كلّما كان أكثر تعظيماً لله -سبحانه وتعالى-  (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج : 30].

ومقتضى تعظيم حرمات الله: الاهتمام بالنصوص الشرعية وتعظيمها وتقديسها والوقوف عند حدودها, فإن الاعتناء بهذه النصوص وتقديمها على هوى النفوس، علامة على محبة صاحبها لمُنزّلها، ومشرعها وهو الله -سبحانه وتعالى-,  وبقدر ما يَضعُف هذا التعظيم لهذه النصوص بقدر ما يَضعف تعظيمه لله -عز وجل- الذي أمره بتعظيم هذه النصوص، والمسلم لا يمكن أن يصل إلى الدرجات العلى وإلى محبة الله إلا بتعظيم هذه النصوص الشرعية، وأن يُقدمها على كل ما يعارضها.

معاشر المسلمين: ولتعظيم النصوص علامات يتضح من خلالها  وسأشير إلى شيءٍ منها:

العلامة الأولى: أنْ يَعلم المسلم المتجرِّد من هواه والمتجرّد من التعصُّب سواءٌ كان تعصُّباً قومياً أو تعصُّباً أرضياً أو تعصُّباً عِرقياً أو تعصُّباً طائفياً أو حتى لو كان تعصُّباً مذهبياً، أن يعلم أنه ليس له خِيارٌ في أن يترك أو يفعل إذا أمره الله -تبارك وتعالى- أو أمره رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأمر، وكذلك إذا نهاه الله -عز وجل- أو نهاه رسوله  -صلى الله عليه وسلم-؛ يقول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]. ويقول تبارك وتعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [النور:51], وقوله -سبحانه-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور : 63].

فإذا سمعتَ -يا عبد الله- قال الله أو قال رسوله فعليك أن ترفع بذلك رأسك, وأن تمتثل إذا سمعت: (يا أيها الذين آمنوا) أو (يا أيها الناس) أو (يا عبادي) أو (يا بني آدم) فعليك أن ترعيَها سمعك وأنْ تُصغي إليها لأن الأمر إمّا أن يكون أمراً تمتثله يعود أجره لك, وإمّا نهياً تجتنبه يعود أجر اجتنابه عليك أيضا.

العلامة الثانية: محبَّة ما يُحبُّه الله ورسوله؛ وهذه من أعظم العلامات قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31]، فمحبة ما يحبه الله ورسوله، تعني محبة الخير، محبة الطاعة، وكراهية المعصية، ولا يتحقق حُبُّ الله ورسوله إلا بذلك.

وهذه المحبة ليست بالدَّعاوى وليست بإقامة الحفلات والمسيرات، وليست بإقامة الأناشيد والتمثيليات ولا بالأهازيج والابتهالات والمُوَشَّحات والموالد التي يزعمون أنها لِحُبِّ الله ورسوله وإنما حب الله ورسوله يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه وزجر, وأن لا يُعبد الله إلا وَفق شرعه, هذا هو الدليل القاطع لتلك المحبة التي هي من أعظم دلائل تعظيم النصوص الشرعية.

والعلامة الثالثة: الرِّضا بحكم الله ورسوله ولو خالف ذلك هوى النفس، ولو خالف ذلك الأعراف والعادات, ولو خالف ذلك ما تميل إليه نفسك وما تجنح إليه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء : 65], فقد أقسم الله -عز وجل- بنفسه على هذه الأمور:

أوَّلها: أنه لا يتحقَّق لهم الإيمان ولا يحصل لهم الإيمان الصحيح الكامل حتى يُحكِّموا شرع الله في كافة نواحي الحياة، وفي كلِّ ما شجر بينهم وحتى يُحكِّموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع شؤونهم.

والأمر الثاني: أنهم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من حكم الله، بل يرضون به ويقولون: سمعنا وأطعنا ويُذعنون لذلك وينقادون له.

والأمر الثالث: أن يُسلِّموا بذلك ولا يُكابروه ولا يتردَّدوا أيّ تردُّدٍ في ذلك، فالانقياد لحكم الله والرضى به والاقتناع به وعدم التردد في التسليم له، هو من أعظم العلامات على تعظيم النصوص؛ لأن المسلم إذا سمع قال الله وقال رسوله ارتعدت فرائصه, وأذعن لله, وتقبل ذلك بصدرٍ رحِبٍ راضٍ.

العلامة الرابعة من العلامات الدالّة على تعظيم شرع الله: الغضب إذا انتُهكت حرمات الله -جل وعلا-، تقول عن أم المؤمنين عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "..وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ, حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ". (البخاري(3296)), وجاء في الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "أوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله, والموالاة في الله والمعاداة في الله " (أحمد(18524))، فلا يتحقَّق تعظيم النصوص الشرعية إلا بأن يحب في الله وأن يبغض في الله, ويغضب لله -سبحانه وتعالى-.

العلامة الخامسة: أن يكون تَقبلك للأوامر والنواهي تعبُّداً لله، لا مجرَّد عاداتٍ وتقاليد، تعبُّداً ورِقّا وخضوعاً لله -تبارك وتعالى- وإذعاناً لأمره، وانقياداً لشرعه, واستِكانة لله وامتثالاً لأمره ذلك لأنه يعلم أن الله -عز وجل- خلقه لعبادته، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : 56] فأنت تعبد الله تعبُّداً وذلاً له وتقرُّباً إليه خوفاً وطمعا قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)[الإسراء : 57]، ووجود هذا التعظيم يورثك اتقانا في العبادة وحسن أداء لها بل وخشية أن لا يُتقبَّل منك. قال الله -عز وجل- (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57، 61].

العلامة السادسة: عدم السّؤال عن حكمة الأوامر ولا النواهي, فالعبد إذا سمع قال الله وقال رسوله يتوقف، ولا يسأل عن الحكمة ولا يقول كيف؟ ولماذا؟ لأن هذا من التنطُّع، ومن التكلُّف والتعمُّق الذي نهينا عنه، إذا علمت أن الله خلقك لعبادته فإن الواجب عليك أن تُسلِّم لأمر الله وأن لا تتردَّد سواءٌ عرَفت الحكمة أم لم تعرفها، وإذا آمنت بأن الله حكيم وعليم وخبير فيجب عليك التسليم دون تردد. وليكن حالك: سمعنا وأطعنا.

والصحابة -رضوان الله عليهم- لمّا نزل قوله سبحانه: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) [البقرة : 284]، جثوا وبركوا على الرُّكب خوفاً من الله، وتوهُّماً من البعض أن الله سيُكلِّفهم بما لا يُطيقون، لكن سرعان ما انجلى هذا الغم بنزول الآية الكريمة بعدها: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...)، وهذا عمر -رضي الله عنه- عندما جاء يُقبِّل الحجر الأسود وهو يعلم أن هذا الحجر لا يقدِّم ولا يُؤخِّر ولا يضر ولا ينفع، لكنه فعل ذلك تأسِّياً واقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أمرنا الله بذلك (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب : 21] فقال مقالته المشهورة: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ, وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ" (البخاري (1494)) فهذه علامة الصدق في الإيمان.

ولمّا أُسري بالنبي -عليه الصلاة والسلام- إلى بيت المقدس ثم عُرج به إلى السماء وأَخبر الناس، تسارع المشركون إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وظنوا أنه سيرتد وسوف يرجع، إذا سمع هذا الخبر الذي يرونه مستحيلاً في عقولهم القاصرة، فلما أخبروا أبا بكرٍ: أنظر إلى ما يقول صاحبك، يقول إنه أسري به!! وعُرج به إلى السماء!! ونحن نضرب أكباد الإبل الأشهر حتى نصل إلى بيت المقدس.

فانظر إلى حكمة أبي بكر قال: إن كان قاله فقد صدق. المهم هو يريد أن يتأكد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قاله لأنه صدَّقه في علم الغيب الذي أخبر به من عند الله -تبارك وتعالى-.

العلامة السابعة: الوقوف عند النصوص في الاستدلال وعدم التسرُّع في الفتوى, لأن التسرُّع في الفتوى قول على الله بغير علم, وهذا من عدم تعظيم النصوص، والله -سبحانه وتعالى- يقول (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : 36], وقارن القول على الله بغير علم بالشرك (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأنعام : 151], وكثير من الذين يتصدَّون للفتاوى، من القائلين على الله بغير علم، مِمَّن يردون النصوص الشرعية ولا يعظّمونها بل يُهينونها ويقدِّمون عليها أقوال الرجال وهذا في غاية الخطورة.

واسمعوا قول عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما-: "توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر!!", هل ابن عباس -رضي الله عنهما- يتنقَّص أبا بكر وعمر؟ أبداً، حاشاه ذلك, ولكنه يُهيب بالأمة أن تقدِّم قول الله وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- على كلِّ أمر وعلى قول كلِ أحدٍ كائناً مَن كان.

وهذا أبو بكر رضي الله عنه يُسأل عن مسائل: منها السُّدُس فلم يَبُتَّ فيه حتى شهد مَن شهد بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بهم. ويُسأل عن معنى قول الله: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فيقول: "أيُّ أرضٍ تُقلُّني وأيُّ سماءٍ تُظلِّني إن أنا قلت في كتاب الله -عز وجل- ما لا أعلم".

فالمقصود -عباد الله- أن من أفتى بغير علم، أو قدّم العقل على الدليل الصحيح الصريح فقد تجرأ على الله، ولم يعظّم شرعه ولا نصوص شرعه.

عباد الله: إن نصوص الشرع الحنيف لهي على مراتب، والقرآن الكريم في مقدمة النصوص الشرعية، إذ هو المصدر الأول للتشريع، وهو حبل الله المتين، ورأس معجزات النبي الكريم، وصفه منزله بقوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت 41 - 42].

إن آيات القرآن الكريم في غاية الدقة والإحكام، والوضوح والبيان، أحكمها حكيم، وفصَّلها خبير،(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود :1]. هذا القرآن الكريم أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم :1].

والقرآن هو أصل الأصول وأساسها، منه تنطلق وإليه تعود، وهو أصل حياة الأمة، وسبيل رشدها وعزتها وتحقيق شهادتها على الناس، ولهذا فقد وصفه الله -تعالى- بأوصاف عدة تبين طبيعته ووظيفته، وتثبت أهميته ومكانته العظيمة، فوصف بأنه روح, قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52]، والروح هي سر الحياة، ولا حياة للمسلمين في أي زمان ومكان بدون هذه الروح, ووصف بأنـه شفاء ورحمة للمؤمنين به العاملين بهداه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82]. وأنه هدى للمتقين, قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 1 ـ 2]، به تتحقق الهـداية للتـي هي أقوم في كل أمر من أمور المسلمين. قال -تعالى -: (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].

كما وصف بأنه بصائر تبصِّر المتحقق المتخلق بها، فيكون بذلك من المبصرين للحق العاملين به. قال -تعالى-: (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام: 104]. وأنـه نور وضياء؛ به تستضيء العقول وتستنير القلوب, قال سبحانه: (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52].

واعلموا -عباد الله- أن  من مصادر التشريع الإسلامي السنة المطهرة, والحديث النبوي  الشريف, فهي تتبوّأ مكانة عظيمة, ومنزلة رفيعة، فهي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم، والتطبيق العملي لما جاء فيه، وهي الكاشفة لغوامضه، المجلية لمعانيه، الشارحة لألفاظه ومبانيه، وإذا كان القرآن قد وضع القواعد والأسس العامة للتشريع والأحكام، فإن السنة قد عنيت بتفصيل هذه القواعد، وبيان تلك الأسس، وتفريع الجزئيات على الكليات، ولذا فإنه لا يمكن للدين أن يكتمل ولا للشريعة أن تتم إلا بأخذ السنة جنباً إلى جنب مع القرآن.

وقد جاءت الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة آمرة بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-, والاحتجاج بسنته والعمل بها، إضافة إلى ما ورد من إجماع الأمة وأقوال الأئمة في إثبات حجيتها ووجوب الأخذ بها.

فالسنة المطهرة حجة باتفاق العلماء سواء منها ما كان على سبيل البيان للقرآن أو على سبيل الاستقلال، وقد دلت الأدلة المستفيضة من القرآن والسنة على وجوب اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- والتحذير من مخالفة أمره ونهيه عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء : 59].

قال ميمون بن مهران: "الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته"، وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...) [آل عمران : 31]، وقال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...) [النساء : 80]، أي: فقد جعل طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من طاعته -سبحانه-، وحذر من مخالفته فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النــور 63]، فلولا أن أمره حجة ولازم لما توعد على مخالفته بالنار , وقال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : 21]، وقال سبحانه: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : 64]. قَالَ الزُّهْرِي -رحمه الله تعالى-: "مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْبَلاَغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ".

وقد فهم الصحابة -رضي الله عنهم- من هذه الآيات وجوب الرجوع إلى السنة والاحتجاج بها، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُستَوشِمَاتِ, وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ, الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ, فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ, فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ: وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-, وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ. قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قَالَتْ: بَلَى, قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ. قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا. فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتُهَا" (البخاري(4507) ومسلم(3966)).

وحينما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً -رضي الله عنه- إلى اليمن كما جاء في حديث الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ له: " كَيْفَ تَقْضِي؟" فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ, قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟" قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي. قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ". (الترمذي(1249)).

وأما الأحاديث الدالة على وجوب اتباع السنة, والتحذير من الاعراض عنها فكثيرة، منها عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ, أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ, يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ, وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ " (أبو داود (3988))، قال الخطابي: "وقوله: يوشك رجل شبعان، يحذر بهذا القول من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له من القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض، فإنهم تمثلوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، وأراد بقوله: متكئ على أريكته أنه من أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه ".

وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وقال: " فعليكم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" (الترمذي(2600)).  وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- - خطب في حجة الوداع فقال: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم, ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحترقون من أمركم، فاحذروا إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنة نبيه" (أخرجه الحاكم (318)).

وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَن كذب علي متعمداً، فليتبوأ بيتاً في النار، ومَن ردَّ حديثاً عني، فليتبوأ بيتاً في النار، ومَن ردَّ حديثاً بلغه عني فأنا مخاصمه يوم القيامة، وإذا بلغكم عني حديث، ولَم تعرفوه، فقولوا الله أعلم" (الطبراني في الكبير(6163)), وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَن بلغه عني حديث، فكذب به، فقد كذب ثلاثة: الله، ورسوله، والذي حدث به" (الطبراني في الأوسط (7596)), وقوله -عليه الصلاة والسلام-: " عسى أن يكذبني رجل وهو متكئ على أريكته، يبلغه الحديث عني، فيقول: ما قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- دع هذا وهات ما في القرآن" (أبو يعلى في المسند 1813).

ووصِفت السنة بأنها تفصيل وبيان للقرآن: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44]، قال الخطابي: "بعد أن ذكر الله -سبحانه وتعالى- أنه أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء, فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئاً من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب، إلا أن البيان على ضربين: بيان جلي تناوله الذكر نصاً, وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-..، فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفي وجهي البيان".

وقد صنف الإمام أحمد كتاباً في طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- رد فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك الاحتجاج بها وقال في خطبته: "إن الله -جل ثناؤه وتقدست أسماؤه- أنزل على محمد كتابه فيه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وما قصد له الكتاب، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه..". وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "لا أعرفن أحداً منكم أتاه عني حديث وهو متكئ في أريكته فيقول: اتلوا علي به قرآنا، وما جاءكم عني من خير قلت به أو لَم أقله، فأنا أقوله، وما آتاكم عني من شر، فأنا لا أقول الشر" (الترمذي (8787)).

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وزاد  مسيرنا ورفيق دربنا، اللهم ارفعنا به الدرجات، وأسكنا به الجنات، وكفر عنا به السيئات، وامح به عنا الزلات، أنك سميع قريب  مجيب الدعوات.

قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فإن سلف الأمة رضي الله -عنهم- قد ضربوا أروع الأمثلة في تعظيم سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحازوا في ذلك المضمار القدح المعلى وقصب السبق، لقد كانت النصوص الشرعية وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- تؤثر في قلوب الناس ولها وقع فيها.

واليوم يندر أن تجد لها أثراً, وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة, والسبب هو قلب الذي يقرأ ونسبة التعظيم فيه، وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان مالك -رحمه الله- من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعمن اكتسب هذا؟! فقد سئل عن أيوب السختياني فقال: "ما حدثتكم عن أحد إلا و أيوب أفضل منه"، قال: "وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى أخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي -صلى الله عليه وسلم- كتبت عنه".

وقال مصعب بن عبد الله: "كان مالك إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه"، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: "لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً - المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله".

ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع, ولقد رأيت الزهري، وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه ما عرفك ولا عرفته, ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه".

إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة, وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: "حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)[النساء:166]". هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته. ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم.

قال الذهبي رحمه الله: "عن أبي شريح ذكر:  أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: َمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ" (البخاري(109)), يقول الراوي: "فقلت لـابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: أتأخذ به؟ نعم. آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً -صلى الله عليه وسلم- من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك".

وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: "إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الولد للفراش" ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه".

انظر الى انتصار السلف للسنة، أراد البلخي أن يقاتل هذا الذي ردّ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكم بين أظهرنا ممن ينتسب الى الاسلام ويقول بأعظم من هذا عن حديث رسول الله؟!. لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين.

وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: "احتج آدم وموسى" فقال أحد الحاضرين: "كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال: فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض بكيف؟ ! فما زال يقول, حتى سكت عنه".

يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني -رحمه الله- معلقاً على هذه القصة: "هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد -رحمه الله- مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بـ " كيف" على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- " (عقيدة أصحاب الحديث (ص129)).

أيها المسلمون: إن الناظر إلى واقع المسلمين الآن، يرى ما يدمي القلب، ويورث الحزن، وذلك بسبب ما قد يقع فيه الكثير من المسلمين تجاه النصوص الشرعية، من جفاء للنص، وهجران للسنة، بل ومعارضة النص الشرعي المعصوم بمعقول أو ذوق أو قياس أو سياسة، ألا فليتق الله أولئك القوم، فإنه والله يخشى على هؤلاء أن يكون لهم نصيب من هذا الوعيد الشديد في الآية الكريمة: (فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور- 63].

قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان -أي الثوري- والله تعالى يقول: ( فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".

وإن من الأسباب الخفية لما يتعرض له المسلمون في هذه الأيام من تسليط للعدو عليهم، ومن ضعف أمرهم، وذهاب ريحهم، وتخبطهم في أودية المشرق والمغرب، هو بعدهم عن تعظيم الوحيين واتباع نورهما، والرضا بهما شرعا وحكما ومنهجا في الحياة، فلا عجب أن يذهب الله بمهابتنا وسطوتنا في قلوب أعدائنا، فما بعد قوة الوحيين من قوة، وما بعدهما من دولة، ومهما تعاطى المسلمون من أسباب القوة والريادة، ولم يأخذوا بتعظيم الوحيين، فلن يقوم لهما قائمة، ولن يجدوا غير ذيل الركب، حيث المهانة، وذلك لأن الذي أهانهم هو الله عز وجل: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج:18].

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتطبق فيه شرائع الدين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهُ ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهُ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ.

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ محمد، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ بِكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ محمد.

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّة، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْراً.

اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغْنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمْنَا.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرِّ، وَالفَوْزَ بِالجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.

اللَّهُمَّ لا تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلا هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلا دَيْنًا إِلاَّ قَضَيْتَهُ، وَلا مَرِيضاً إِلاَّ شَفَيْتَهُ، وَلا مُبْتَلَى إِلاَّ عَافَيْتَهُ، وَلا ضَالاً إِلاَّ هَدَيْتَهُ، وَلا غَائِباً إِلاَّ رَدَدْتَهُ، وَلا مَظْلُوماً إِلاَّ نَصَرْتَهُ، وَلا أَسِيراً إِلاَّ فَكَكْتَهُ، وَلا مَيِّتاً إِلاَّ رَحِمْتَهُ، وَلا حَاجَةً لَنَا فِيهَا صَلاحٌ وَلَكَ فِيهَا رِضاً إِلاَّ قَضَيْتَهَا وَيَسَّرْتَهَا بِفَضْلِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.

رَبِّ أَعِنِّي وَلا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ.