الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الصيام |
إن كثيراً من الناس لما دخل رمضان عرفوا قيمته وفضله، وأحسوا أن أوقاتاً منهم كانت تضيع في فضول المجالس، والكلام، والأعمال مما لا نفع فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة. فعزموا على استثمار تلك الأوقات الضائعة، ومنعوا أنفسهم من فضول المخالطة والمجالسةِ والكلام والأعمال
أما بعد:
أيها الناس: من حكمةِ الله سبحانه وتعالى، وابتلائه لعباده أن جعل الدنيا دار عملٍ للمكلفين، ونوع لهم فيها سبل طاعته، وطرق الوصول إليه، والإقبالِ عليه.
كما يوجد في الدنيا شهوات وشبهات تصد عن سبيل الله تعالى، وتلهي العبد عن طاعة ربه، وتجره إلى المعاصي والذنوب.
ومن سمة دروب النجاة، وسبل الفوز والفلاح أن فيها من المشقة على النفوس ما فيها، مما يحيج العبد إلى مجاهدة النفس، واصطبارها على طاعة الله تعالى، كما أن من خصائص دروب الهلاك والردى سهولة نيلها، ومحبة النفوس لها، وميل الغرائز البشرية إليها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حفَّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ".
والواحد من الناس يعيش في الدنيا ماكتب الله تعالى له من عمر، والساعاتُ والأيام تمضي على الناس سواء بسواء، فلا تتقدم لبعضهم ولا تتأخر عن آخرين، والعبرةُ بالأعمال التي قضيت فيها الساعات والأيام؛ فهي مكتوبةٌ على العباد، وسيجازون بها يوم القيامة، ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) [الانفطار]، ( وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ) [الكهف:49].
إنها أيام تمضي، وسنوات تذهب، وأعمال تدون، وكما أن شهر رمضان كان يُنتظر ها هو قد ولَّى، وكم من رمضانات انتظرها العباد وصاموها ثم ذهبت سريعاً، ومن عاش منهم فسينتظر رمضانات أخرى وسوف تمضي كما مضى غيرها، وهكذا عمر الإنسان.
والموفق من عباد الله من جعل حياته كلَّها رمضان، يصوم فيها عن المحرمات، ويجتهدُ في الطاعات، وينافس في الخيرات؛ حتى ينتهي أجله؛ كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: " من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره ". ومن نظّم وقته في رمضان، وقسمه بين أنواع العبادات فإنه يستطيع أن يفعل ذلك في غير رمضان.
لقد رأينا كثيراً من الناس يحافظون على صلاة القيام، ويخصصون وقتاً للقرآن، ويبكرون إلى المساجد، ولا يتركون النوافل والسنن الرواتب، ويلتزمون بأذكار الصلوات، وأذكار الصباح والمساء وغيرها، ولربما كان لهم عبادات كثيرة قد خصوها بوقت من الأوقات؛ فما الذي يمنعهم من الاستمرار على ذلك بعد رمضان؟!
وتنظيم الوقت، ومعرفةُ قيمة العمر من أعظم ما يعين العبد على ذلك، وكما كان الواحد منهم شحيحاً بوقته في رمضان، محاسباً لنفسه أن تضيع دقائق في غير عبادة؛ فلماذا لا يكون هذا دأبهم بعد رمضان؟! قال الحسن رحمه الله تعالى: " أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على دراهمه ودنانيره ".
إن كثيراً من الناس لما دخل رمضان عرفوا قيمته وفضله، وأحسوا أن أوقاتاً منهم كانت تضيع في فضول المجالس، والكلام، والأعمال مما لا نفع فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة. فعزموا على استثمار تلك الأوقات الضائعة، ومنعوا أنفسهم من فضول المخالطة والمجالسةِ والكلام والأعمال، وصرفوا أوقاتها في طاعة الله تعالى؛ فحصلوا خيراً كثيراً، ولو نظرنا في أعمالنا اليومية لوجدنا أن كثيراً منها لا يعدو أن يكون فضولاً لا نفع فيه بوجه من الوجوه؛ فلماذا لا تستثمر مثل هذه الأوقات الضائعة فيما يعود على العبد بالخير في الدنيا والآخرة؟!
قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى: " يا ابن أخي، إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله عزَّ وجلَّ أن تقرأه، وتأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، أو تنطلق بحاجتك في معيشتك التي لابد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين ".
وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى: " كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى برسالة لم يحفظها غيري عنه: أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عدَّ كلامه من عمله قلّ كلامُه إلا فيما ينفعه ".
لقد كانوا يعدون من فضول الكلام سؤال المرء عن أمور الدنيا من المراكب والملابس والمطاعم وما شابهها.
قال إبراهيم بن سليمان: " كنت جالساً مع سفيان فجاء رجل ينظر إلى ثوب كان على سفيان، ثم قال: يا أبا عبد الله، أي شيء كان هذا الثوب؟ فقال سفيان: كانوا يكرهون فضول الكلام ".
قارنوا هذا بحال كثير من الناس ممن لا يتركون شاردة ولا واردة من أمور الدنيا إلا ويسألون عنها، وتطول مجالسهم في الحديث عن المطاعم، والمشارب، والمراكب، والملابس، وأنواعِها، وموديلاتها، وميزاتها، وخصائص كل نوع منها، وما إلى ذلك من كثير كلام لا يفيد.
ويدلك على تمكن هذه الكماليات من قلوب الناس: شدة التنافس عليها، والاختلاف من أجلها، والمباهاةُ بها. فما يلبس في العام الماضي من الثياب والعمائم لا يلبس في هذا العام، وما يناسب هذا العيد لا يكون مناسباً في العيد القادم؛ لأن تجار الكماليات يحدثون تغييرات مستمرة في كل عام بقصد جني الأرباح، والاستحواذ على أموالِ الناس، وضعف الناس أمام هذه الموجة العاتية من الاستهلاك جعلهم يستسلمون لها.
ومن العجيب أن نرى أناساً يتنافسون على رقم هاتفٍ مميز أو لوحة سيارة أو غيرها، ويبذلون في سبيل ذلك باهظ الأثمان، وهذا كله من الفضول، بل ومن فضول الفضول الذي لا يسلم صاحبه من الوقوع في السرف المحرم.
والسلامة من هذه الأمراض التي تأسر العبد، وتفتك بإرادته تكون بقهر النفس على التنافس في الأمور النافعة، والبعدِ عمَّا لا ينفع ولو وقع فيه الناس، وتفاخروا به.
والشفاء من هذا الداء يكون بتعويد النفس على الجد في الأمور، وتحصيل المنافع، ومجالسة أصحاب الهمم العالية، والاهتمامات الكبيرة.
حكى الفقيه الأندلسي أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى عن نفسه فقال: " كانت فيَّ عيوب، فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياءُ صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس، أعاني مداومته حتى أعان الله عزَّ وجلَّ على أكثر ذلك بتوفيقه ومنِّه ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) [الشُّورى:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،،،
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله ربكم، واعمروا زمانكم بطاعة مولاكم.
أيها الناس: من عوَّد نفسه على قراءة ورد يومي من القرآن في رمضان فهو قادر على أن يحافظ على بعض ورده بعد رمضان، ولا يهجر القرآن بالكلية إلى أن يأتي رمضان القابل، ومن حافظ على ورد يومي من القرآن نال خيراً عظيماً.
قيل لنافع: ما كان ابن عمر يصنع في منزله؟ قال " الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما ".
وقيل لأخت الإمام مالك رحمه الله تعالى: " ما كان شغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف والتلاوة ".
وكان وكيع رحمه الله تعالى لا ينام حتى يقرأ جزءَه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم في آخر الليل فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر.
ومن عوَّد نفسه على ذكر الله تعالى في رمضان، وحافظ على الأذكار الموقوتة فإنه يستطيع الاستمرار على ذلك بعد رمضان، وذكر الله تعالى فيه لذة القلوب، وقوة النفوس والأجساد على الطاعات الأخرى، قال مالك بن دينار: " ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عزَّ وجلَّ ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " الذكرُ للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي ".
ومن حافظ على صلاة التراويح والقيام في رمضان يستطيع أن يحافظ على قدرٍ من صلاة الليل في أوله أو آخره حسب ما يتيسر له ولا يقطع ذلك بالكلية، ويحافظ على الوتر فلا يتركه أبداً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقومُ فيطيل القيام حتى تتفطر قدماه الشريفتان
.
وقال نافع: " كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة في جماعة صلى إلى الصلاة الأخرى، فإذا فاتته العصر يسبح إلى المغرب، ولقد فاتته صلاة العشاء الآخرة في جماعة فصلى حتى طلع الفجر ".
وقال ابن وهب رحمه الله تعالى: " رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي بصلاة العشاء ".
وكان سفيان رحمه الله تعالى إذا أصبح مدّ رجله إلى الحائط، ورأسه إلى الأرض؛ كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل.
إن من روض نفسه على الطاعة ارتاضت عليها، ومن ركن إلى الكسل صارت الفرائض ثقيلة عليه، وكما أن من الناس من لهم قوة عجيبة في أعمال الدنيا جمعاً وتحصيلاً وإدارة فكذلك أعمال الآخرة إذا روضت النفوس عليها اعتادتها.
قيل لعامر بن عبد الله رحمه الله تعالى: " كيف صبرك على سهر الليل، وظمأ الهواجر؟ فقال: هل هو إلا أني صرفت طعام النهار إلى الليل، ونوم الليل إلى النهار؟ وليس في ذلك خطير أمر " وكان إذا جاء الليل قال: "أذهب حرُّ النار النوم، فما ينام حتى يصبح ".
وجماع ذلك كله: محبة الله تعالى، ورجاءُ رحمته، والخوف من عذابه، عن فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى قالت: " ما رأيت أحداً أكثر صلاة ولا صياماً منه، ولا أحداً أشدّ فَرَقاً من ربه منه، كان يصلي العشاء، ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء، ويجلس يبكي فأطرح عليه اللحاف ".
فمن أحب الله تعالى أحب ما يحبه الله تعالى من أنواع العبادات، ومن رجا رحمة ربه وجنته اجتهد فيما يوصله إليها، ومن خاف عذاب الله وغضبه اجتنب أسبابه من إضاعة الفرائض، وإتيان المعاصي، وكلما قوي إيمان العبد بالله تعالى والدار الآخرة قويت نفسه على العبادة، وضعفت عن المعاصي.
أسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يخلف علينا رمضان بخير، وأن يتقبل منَّا الصيام والقيام، اللهم سلِّمنا إلى رمضان، وسلمه لنا، وتسلمه منا متقبلاً، إنك سميع مجيب.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله،،،