السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | رشيد بن إبراهيم بو عافية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
الأمرُ يتعلَّقُ بالخلوات، وما تُخفيه السُّتُورُ والجُدرانُ والليالي، حين يختلي الإنسانُ، وينفردُ عن النَّاس، حينَ تغفَلُ عنهُ العيون، ولا يراهُ إلاَّ الذي يعلمُ خائنةَ الأعين وما تُخفي الصُّدُور، حينَ تقولُ النفسُ الآثمةُ لصاحبها: افعل ما شئتَ! وهيتَ لك! لا يرانا إلاَّ الكواكب!. حينَ ينفردُ العبدُ عن الرُّقباءِ والحُرَّاسِ ولا رقيبَ هنالكَ إلاَّ اللهُ وحده لا شريكَ له!. هنالك تظهرُ حقيقةُ الإيمان، وينجلي بُرهانُ التوحيد! هذا هو الميزانُ الدَّقيقُ الصادِق؛ إنَّهُ...
الخطبة الأولى:
الاستفتاح بخطبة الحاجة.,,
ثم أما بعد:
معشر المؤمنين: في صحيح الجامع(4245) عن ثوبانَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأعلمن أقواما من أمتي يأتُونَ يَومَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أمثالِ جِبِالِ تِهَامَةَ بَيْضَاء، فيجعلها الله هَبَاءً مَنْثُورَا!" قال ثوبان: يا رسول الله؛ صفهم لنا جَلّهِم لنَا، أنْ لاَ نَكُونَ منهم ونحنُ لا نعلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم إخوانكم ومن جِلدتِكُم، ويأخُذُونَ من اللَّيْل كَمَا تَأْخُذُون، ولكنهم قَوْمٌ إذا خَلَوا بمحارِمِ الله انْتَهَكُوهَا".
أيها الإخوة في الله: هذا الحديثُ العظيمُ يتحدَّثُ عن شخصيَّةٍ عجيبٌ أمرُها، غريبٌ وصفُها، ليسَ لها صدقٌ ولا وُضوحٌ، تمشي في الظَّاهرِ مَشيَ الرّفاق، ولكنَّها خلفَ السُّتُور والجُدران والليالي تَفْتَحُ الأنفاقَ لتستحلَّ الأخلاق.
هذه الشخصيَّةُ الخاسرةُ البائسة لا يخلُوا منها زمانٌ ولا مكان، تجدُها في الصفوفِ الأولى في الحياة، بل أخبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّكَ تجدُها في قيامِ الليل مع القائمين، وهو مكانٌ وزمانٌ عزيزٌ يغلبُ على الظنِّ أنَّ صاحبَهُ من المُقرَّبين!.
يُعلَّمنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديثِ أن لا نتسرَّعَ في إصدار النتائجِ على أنفسنا، ولا على غيرنا بالقَبول والوُصول؛ لأنَّ الحقيقةَ لا يعلمُها إلاَّ اللهُ -جل وعلا-.
وإذا أردنا تقريرَ الميزانِ الدَّقيقِ من باب تربيةِ نفوسنا وموعظةِ غيرِنا نقول:
هيهاتَ أن نجزمَ للنفسِ بالصَّلاحِ والقَبُول والوُصول اعتمادًا على ظاهر الحال فحسب؛ لأنَّ الأمرَ يتعلَّقُ بأمر آخر لا تراه أعيُنُنا، ولا تسمعهُ آذانُنا، ولا تدركُهُ حواسُّنا.
الأمرُ يتعلَّقُ بالخلوات، وما تُخفيه السُّتُورُ والجُدرانُ والليالي، حين يختلي الإنسانُ، وينفردُ عن النَّاس، حينَ تغفَلُ عنهُ العيون، ولا يراهُ إلاَّ الذي يعلمُ خائنةَ الأعين وما تُخفي الصُّدُور، حينَ تقولُ النفسُ الآثمةُ لصاحبها: افعل ما شئتَ! وهيتَ لك! لا يرانا إلاَّ الكواكب!.
حينَ ينفردُ العبدُ عن الرُّقباءِ والحُرَّاسِ ولا رقيبَ هنالكَ إلاَّ اللهُ وحده لا شريكَ له!.
هنالك تظهرُ حقيقةُ الإيمان، وينجلي بُرهانُ التوحيد! هذا هو الميزانُ الدَّقيقُ الصادِق؛ إنَّهُ السرُّ والخَفَاءُ والغيب؛ رفعَ أقوامًا حينما جمَّلوهُ بحسناتهم وأعمالهم الصالحة التي أخفوهَا عن العباد، وقضى على أقوام آخرين حينَ هتكوا محارمَ الله في الأستار والأسحار والخلوات!.
معشر المؤمنين: تأمَّلوا حديثَ الباب حتى لا نكونَ ممَّن فضحَ حالهم، وبيَّنَ مآلَهم: أقوامٌ مسلمون من أمَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يأتُون بحسنات عظيمة أمثالَ الجبال عظَمةً في العين، حتَّى إنَّهم ليأخذون من عبادة قيام الليل الشَّاقَّة المتعبة، ولكنَّهم مع ذلك يُخبرُ صلى الله عليه وسلم أنَّهم حينما تَحَقُّ الحقائق بين يدي الله -تعالى- أمام الميزان تطيشُ حسناتُهم كالهباء المنثور، تمَّحي وتزولُ أمام فضيحة كبرى، أفسدت كلَّ خُلُقٍ جميل، وقضت على الإحسان الذي عُرفَ به الإنسانُ بين الأنام؛ إنَّها فضيحةُ انتهاكِ محارمِ الله في السرْ، مصيبةُ موتِ الرَّقابة في الصدر، مصيبَةُ سقوطِ القناعِ وظهورِ الوجهِ الحقيقيّ البائسِ التعيس، من كان هذا حالُهُ من المغرورين جعلَ اللهُ إحسانَهُ هباءً منثورَا.
والجزاءُ من جنس العمل: ذلك أنَّ العملَ في حقيقته خفيفٌ كالهباء، ولا أحدَ يدخلُ الجنَّةَ بعمله، إنَّما هو الصّدقُ والإقبالُ والانكسارُ من يبُثُّ الرُّوحَ في الأعمال، أمَّا تكديسُ الأعمال فارغةً من الحقيقةِ، خاليةً من الرُّوحِ أمرٌ يطيشُ ولا يصمُدُ يومَ الميزانِ مع الأعمالِ السيّئةِ التي فضحت حقيقةَ العبد!.
أيها الإخوةُ في الله: أعيذُكم بالله أن تكونُوا ممَّن طابت علانيتُهُ، وخابت حقيقتُه: إحسانٌ في الظاهر، والتزامٌ للطقوس والمظاهر، وخلفَ الجُدرانِ والسُّتورِ هتكٌ للمحارِمِ بالسمع والبصر والفرج والجوارِح.
من كان هذا حالُهُ استحقَّ البُكاء، وكان هوَ أحقَّ النَّاسِ بالبُكاء على نفسه التي ماتت، والبَحثِ عن وَجْههِ الذي ضاع، ومُستقبلِهِ الذي انهَد!.
واليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، وعندَ اللهِ تنكشفُ الحقائقُ والخبايا! قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تجدُون شرَّ النَّاسِ ذَا الوَجهينِ، الذي يأتي هؤلاءِ بوجه، وهؤُلاءِ بوجه" [متفق عليه].
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوةُ في الله: انظُروا على سبيل المثال وبالمِثالِ يتَّضحُ المقال:
كم من مسلمٍ محافظٍ على الصلاة، يحضُرُ المسجد في الساعة الأولى، لا تميّزُهُ في الظاهرِ عن المؤمنين، يمشي كمشيِ الصَّالحين من الرَفاق، ولكنَّهُ خلفَ الأسوارِ وتحتَ الأنفاق، ينزِعُ القناعَ لتتنفَّسُ نفسُهُ الحقيقيَّة، فإذا بهِ قد اعتادَ في السِّرِّ تقليبَ البصرِ في القنوات المُحرَّمة، وآخرُ اعتادَ الوُقوعَ في الفاحشة، رُبَّما مع جارةٍ أو قريبة، ولا أحدَ يعلمُ حالَهُم ولا حقيقتَهم، ثمَّ العجيبُ أنَّهُ إذا سمعَ النّداءَ اغتسلَ ولم يُفرّط في الصفّ الأوَّل في الصلاة!.
يَخْرُجُ إلى النَّاس يُزيِّنُ لهم حالهُ، ويُظهرُ لهم حُسنَ فِعالِه! هذا هتكَ محارمَ الله في السر فهتكَ اللهُ حسناته يوم تُكشفُ السَّرائر، نسأل الله السلامةَ والعافية!.
وكم من مسلمَةٍ لا تترُكُ الصلاة ولا تُفرّطُ في المساجد، ولكنَّها في الخفاءِ وتحتَ الأنفاق تنزِعُ القِناعَ لتتنفَّسَ نفسُها الحقيقيَّة، وإذا بها اعتادَت الوُقوعَ في الحرام، تفعلُ ذلكَ ولا أحدَ يعلمُ حالَها ولا شخصيَّتَها الحقيقية، ثمَّ العجيبُ أنَّها لا تفرّطُ في الخير، تخْرُجُ إلى النَّاس تُزيِّنُ لهم حالها وتُظهرُ لهم حُسنَ فِعالِها! هذه هتكَت محارمَ الله في السر، فهتكَ اللهُ حسناتها يوم تُكشفُ السَّرائر، نسأل الله السلامةَ والعافية!.
معشر المؤمنين: يعلمُ اللهُ -تعالى- أنَّنا لا نريدُ جرحَ مشاعرِ النَّاس، ولا قراءةَ النَّوايا ولا توزيعَ الاتّهامات، إنَّما هو الخوفُ على من ذاقَ طعمَ الصلاحِ وعرفَ طريقهُ أن يتلاعبَ بهِ الشيطان، وتتقاذفُهُ الأهواءُ إلى حيثُ لا ينفعُهُ النَّدم.
واللهِ يكفي الواحدَ منَّا أن يستحضرَ ساعةَ احتضارِهِ، ولحظةِ خُروجِ روحه، يستحضرُ ذلك بين عينيه، تلكَ اللحظةُ العظيمةُ التي يكشفُ فيها اللهُ الحقائقَ على الوُجوه، يومَ تبيضُّ وُجوهٌ وتبتسم، وتسودُّ وُجوهُ وتكفهر، فالحذرَ الحذرَ أن نكونَ ممَّن تسوَدُّ وُجوهُهُم عند خروج الرُّوح، والنَّاسُ في دهشة من ذلك، قال الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "غالب حوادث سوء الخاتمة يكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت"[جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص67)].
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.