البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الواحد

كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

بداية الإجازة

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. خطورة إهمال التربية .
  2. أهمية وضع خطة للاستفادة من الإجازة .
  3. مرحلة الشباب مرحلة غالية وخطيرة .
  4. شباب الصحابة واستغلال الأوقات .
  5. أهمية غرس ما فيه منفعة في قلوب الشباب .
  6. البرنامج المثالي في الإجازة .
اهداف الخطبة
  1. تنبيه الناس إلى ضرورة استغلال الإجازة
  2. التحذير من أن تكون الدنيا ملهية لنا عن أبنائنا

اقتباس

وَلَو تَفَكَّرَ متفكرٌ في القوادِ والعظماءِ، والساسةِ والزعماءِ، بل والمصلحينَ والدعاةِ والعلماءِ، الذين خَلَّدَ التأريخُ ذِكرَهم وكُتِبَت سِيَرُهُم بمدادٍ مِن ذهبٍ - لَوَجَدَ أنهم استَغَلُّوا مَرحَلَةَ الشبابِ استغلالا جيدًا، فلم يضيعوها في اللهوِ واللعبِ، ولم يشتغلوا بما اشتغل به غيرُهُم مِن مُتَعِ الدنيا الرخيصةِ أو مغرياتِها الزائفةِ الزائلةِ

أَمَّا بَعدُ:

فَيَقولُ -صلى اللهُ عليه وسلم- فيما رَوَاهُ البخاريُّ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما-: " نعمتانِ مَغبونٌ فِيهِما كثيرٌ مِنَ الناسِ: الصِّحةُ والفَرَاغُ ".

وَرَوَى البَزَّارُ والطَّبَرَانيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن معاذِ بنِ جبلٍ -رضي اللهُ عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: " لن تَزولَ قَدَمَا عَبدٍ يَومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أَربعِ خِصالٍ: عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفناهُ؟ وعن شبابِهِ فِيمَ أَبلاهُ؟ وعن مالِهِ مِن أَينَ اكتسبه وفِيمَ أَنفقه؟ وعَن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيه؟ ".

يَا لَهَا مِن كلماتٍ يَسيرةٍ وَجُمَلٍ قَصيرةٍ، تَحملُ مَعَانيَ عَظيمَةً وَتَوجيهَاتٍ كَريمةً، نَحنُ في حَاجَةٍ مَاسَّةٍ إلى تَأَمُّلِها في مِثلِ هذِهِ الأيامِ وفي كُلِّ الأيامِ، ولكنَّنَا في هَذِهِ الأيامِ إلى تمثُّلِها في واقِعِنا أحوجَ ما نَكونُ، خَاصةً بَعدَ أَنِ انتهتِ الاختباراتُ وَنَالَ الطلابُ الشهاداتِ، وَبَدَأَتِ الإجازةُ الصيفيةُ لأبنائِنا والبناتِ، وَدَخَلَ كلُّ أَبٍ وَأمٍّ غَيُورَينِ مُهتَمَّينِ، دَخَلا مَرحَلَةً صَعبةً وَفَترَةً حَرجةً، مِن مَرَاحِلِ التربيةِ وَفَتَرَاتِ الإِصلاحِ والتَّقوِيمِ، مَرحَلَةً تَدُومُ ثَلاثةَ أَشهُرٍ أو تَزيدُ، وَفَترةً يَبقى الأبناءُ فيها فَارِغِينَ، لا عَمَلَ يملأُ وَقتَهم ولا شُغلَ يَشغَلُهُم؛ مما قَد يَنتجُ عنه مشكلاتٌ اجتماعيةٌ في كثيرٍ مِنَ البيوتِ، وَمَصَائبُ متلاحقةٌ لدى عددٍ مِنَ الأُسَرِ.. يَطَالُ شَرُّها مَن هُم في غِنًى عنها، وَيَتَطَايَرُ شَرَرُها على مَن لا ذَنبَ لهم فيها؛ مِن جِيرانٍ وأصدقاءَ ورفقاءَ، وإخوةٍ وأقاربَ وأباعدَ، بل قد يَنتجُ عنها إيذاءٌ للأبوينِ وإضرارٌ بهما؛ ارتفاعًا في الضَّغطِ وَزيَادَةً في مستوى السُّكَّرِ، وَهَمًّا بالليلِ وقلقًا في النهارِ، وَقَد تَتَطَوَّرُ الأُمُورُ حتى يُذَلَّ الأَبُ ويُستَصغَرَ، ويُقادَ إلى المخافِرِ ويُدخَلَ مَرَاكزَ الشُّرطةِ، وَيَنثُرَ مَاءَ وَجهِهِ عِندَ فُلانٍ وعَلانٍ؛ طَلبًا لكَفَالةٍ أو بحثًا عَن وَجَاهَةٍ، هَذا عَدَا الخسائرِ الماليةِ التي يَتَحَمَّلُها؛ إما رضًا منه أو رغمًا عنه، لِمَلءِ جَيبِ ذلكَ الولدِ وتوفيرِ وَقُودِ سَيَّارتِهِ، أو إصلاحِها بَعدَ حادثِ انقلابٍ أو ضربةِ اصطدامٍ.

ولهذا -أَيُّها المسلمونَ- وَنَحنُ قَد دَخَلنَا هَذِهِ الإجازةَ الطويلةَ، التي سَتَمُرُّ بأبنائِنا فِيها أَوقَاتُ فَرَاغٍ كثيرةٌ، فإنه يَنبغي أَن نُخَطِّطَ لكيفيةِ قضاءِ أبنائِنا لها، وَأَن نَعمَلَ على أَن نَخرُجَ في نهايتِها وَقَد استَفَادُوا وَاستَفَدنَا، وانتفعوا وانتفعنا، أو على الأقل نُنهِيهَا مَعَهُم بِسلامٍ وَطُمأنينةٍ، غَيرَ مَغبُونِينَ ولا خَاسِرِينَ ولا مُعتَدِينَ، أَمَّا أَن تمرَّ عَلينا أَيَّامُها وَنحنُ في سَهوٍ وغفلةٍ، وَنَترُكَ لأبنائِنَا فِيها الحبلَ عَلى الغَاربِ ونُهمِلَهُم، أَو نَكونَ عَونًا لهم على مَا لا يُرضِي اللهَ ولا يَنفَعُهُم، حتى إذا وَصَلنَا نهايةَ الأمرِ وَبَلَغنَا خَاتمةَ المَطَافِ، وَإِذَا نحنُ خَاسرونَ نَادمونَ، قَد تحمَّلنَا منهم همومًا وَتجرَّعنَا بِسَبَبِهِم آلامًا، وَحَمَّلنَا غَيرَنَا مِنَ النُّفُوسِ البريئةِ ما هِي عنه في غِنًى، فَإِنَّ هَذِهِ مُصيبةٌ عظيمةٌ ومشكلةٌ كبيرةٌ.

أَيُّهَا الأحبةُ: إنه يجبُ علينا أَن نَتَيَقَّنَ أَنَّ مَرحَلَةَ الشَّبَابِ التي يمرُّ بها أبناؤُنا مَرحلةٌ غاليةٌ غاليةٌ، وهي في الوقتِ نفسِهِ خطيرةٌ جِدُّ خطيرةٍ؛ فَمِنَ الخَسَارَةِ الفَادِحَةِ أن تَذهَبَ هَبَاءً وَتَضيعَ سُدًى، يجبُ علينا أن نَفهَمَ أَنَّ هَذِهِ الإِجازةَ وقتٌ ثمينٌ ثمينٌ، فَحَرَامٌ حَرَامٌ، أَن تَذهَبَ وَتُقضَى في مِثلِ مَا يَقضيها فيه شَبَابُ اليومِ؛ مِنَ السهرِ الطويلِ والفراغِ القاتلِ، أو اللهوِ الماجنِ واللعبِ الفارغِ، أوِ الذهابِ والإيابِ دونَ فائدةٍ أو منفعةٍ، والدورانِ الذي ليس له نهايةٌ، وإيذاءِ عبادِ اللهِ في الشوارعِ، والتضييقِ على إِماءِ اللهِ في الأسواقِ، أو مشاهدةِ ما لا يحلُّ وقضاءِ الوقتِ فيما لا يجوزُ.

وإننا حِينَ ندعو إلى استغلالِ الإجازةِ، والحذرِ مِن تضييعِها -أيها الإخوةُ- لا نقولُ إنه يجبُ على الشبابِ أن يجعلوا وَقتَ العطلةِ كأيامِ الدراسةِ، أو يعزفوا عَنِ التمتعِ بالإجازةِ ولا يأخذوا حَقَّهُم مِنَ اللهوِ واللعبِ، أو لا يمتعوا أنفسَهُم بما أَحَلَّهُ اللهُ لهم مِنَ الطيباتِ والزينةِ، نحنُ لا نقولُ ذلك أبدًا ولا ندعو إليه قطعًا، وَمَن ظَنَّ أن الإسلامَ يمنعُ أتباعَهُ مِن تَنَاوُلِ الطيباتِ ولبسِ الزينةِ - فقدِ افترى على اللهِ الأقاويلَ وكَذَبَ عليه -سبحانَه-؛ يقولُ -سبحانَه-: ( قُل مَن حَرَّمَ زينةَ اللهِ التي أَخرَجَ لِعبادِهِ والطيباتِ مِنَ الرِّزقِ، قُل هِيَ للذين آمنوا في الحياةِ الدنيا خالصةً يومَ القيامةِ...) [الأعراف:32].

إننا يجبُ أن نَفهمَ حَقيقةَ الحياةِ الدنيا وَمُتعِها وشَهَواِتها، وَنَنظُرَ إليها نَظرةً صَحيحةً، بحيثُ لا تتجاوزُ حَقَّها وتتعدى حقيقَتَهَا، علينا أن نَستغلَّ مَرحَلَةَ الشبابِ التي يمرُّ بها أبناؤُنا استغلالا حسنًا، وأن نُبادرَ السنواتِ الذهبيةَ التي هُم فيها، ونحرصَ على مَلئِها بِكُلِّ ما هو نافعٌ ومفيدٌ، بحيثُ لا يَطغَى جانبُ اللهوِ واللعبِ على الجِدِّ والعملِ المثمرِ، وبحيثُ لا يكونُ اللعبُ والمتعةُ هو همَّنا وهمَّهُمُ الوحيدَ.

إنه يجبُ علينا أن نعلمَ أن ما يدورُ في أذهانِ كثيرٍ مِنَ الشبابِ اليومَ عن مرحلةِ الشبابِ واعتقادَهُم أنها مرحلةُ لهوٍ ولعبٍ، إنما هو -عِندَ التحقيقِ- ضَربٌ مِنَ الوَهمِ ومجاوزةِ الحقيقةِ؛ إِذ إِن ذلك ما هو إلا تضييعٌ للعمرِ، بل لأغلى مراحلِهِ وأكثرِها إنتاجًا وأغزرِها إِفادَةً.

وَلَو تَفَكَّرَ متفكرٌ في القوادِ والعظماءِ، والساسةِ والزعماءِ، بل والمصلحينَ والدعاةِ والعلماءِ، الذين خَلَّدَ التأريخُ ذِكرَهم وكُتِبَت سِيَرُهُم بمدادٍ مِن ذهبٍ - لَوَجَدَ أنهم استَغَلُّوا مَرحَلَةَ الشبابِ استغلالا جيدًا، فلم يضيعوها في اللهوِ واللعبِ، ولم يشتغلوا بما اشتغل به غيرُهُم مِن مُتَعِ الدنيا الرخيصةِ أو مغرياتِها الزائفةِ الزائلةِ.

ولنا في أصحابِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- الأسوةُ الحسنةُ والقدوةُ المثلى، فقد كان جُلُّهُم شَبَابًا، نعم، لقد كان جُلُّ الصحابةِ شبابًا آمنوا باللهِ ورسولِهِ، وتغلغل حُبُّ اللهِ ورسولِهِ ودينِ الإسلامِ في سويداءِ قلوبِهِم، فأصبحوا رجالا مِن نوعٍ آخرَ، رجالا لا يهابون الموتَ ولا يخافونه، ولا يخشون العَدُوَّ ولا يحذرونه، بل لقد طَلَبوا الموتَ مَظَانَّهُ وَمَوَاطِنَه، وَقَابَلوا أَعدَاءَهُم وهُم أَقلُّ مِنهُم عُدَّةً وَعَدَدًا، فَهَزَموهم بِإِذنِ اللهِ وتأييدِهِ، ثم بصمودِهِم وشجاعتِهِم التي لم يعرِفِ التأريخُ لها مثيلا ولا شبيها.

وقريبًا منهم كان كثيرٌ مِن شبابِ الإسلامِ الأشداءِ الأقوياءِ عِلما وَعَمَلا، والذين لم تتجاوزْ أعمارُهُم عشرين سنةً، بل بَعضُهُم لم يَصِلْ إلى تلك السِّنِّ، وَمَعَ ذَلكَ غَيَّرُوا مجرى التأريخِ وَدَخَلوا عَالمَ الخلودِ.

إِنَّ علينا -إخوةَ العقيدةِ- أن نهتمَّ بتربيةِ أبنائِنا تَربيةً إيمانيةً عميقةً، وأن نُسَلِّحَهُم بِسلاحِ الإيمانِ، وأن نُحَصِّنَهُم بِدُرُوعِ التقوى، وَأَن نَأخُذَهُم بجدٍّ وقوةٍ إلى محاضنِ العلمِ النافعِ وأماكنِ العملِ الصالحِ. علينا أن نبنيَ في نفوسِهِم العقيدةَ وَنُرَسِّخَ في قُلُوبِهِم الإيمانَ، وَأَن نُرَبِيَهُم على صِدقِ التعلقِ باللهِ وَحدَه والاعتمادِ عليه دُونَ سِواهُ، وأن نُلزمَهُم بحفظِ حقوقِ اللهِ والوقوفِ عِندَ حُدُودِهِ، ثم احترامِ إخوانِهِم وحِفظِ حُقُوقِ الآخرينَ وَمُقَدَّرَاتِهِم.

إِنَّ عَلَينَا أَن نَغرِسَ فيهم أن القُوَّةَ الحقيقيةَ هي قوةُ العزيمةِ، وأن قَوِيَّ العزيمةِ مِنَ الشبابِ هو مَن تَكونُ إِرَادتُهُ تحتَ سلطانِ دينِهِ وعقلِهِ، ليس عبدًا لِشَهَوَاتِهِ ولا مملوكا لملذَّاتِهِ، ثم يجبُ عليهم أن يعلموا أنه وإن كان الشابُّ في إجازةٍ مِنَ الدراسةِ، فإنه لا يجوزُ له بحالٍ تركُ عملِ الآخرةِ وتحطيمُ القُيُودِ، أو اجتيازُ الحَوَاجِزِ وَتَعَدِّى الحُدُودِ، فإن هذا ليس مِن تقوى اللهِ وشُكرِ نِعَمِهِ في شيءٍ.

ألا فاتقوا اللهَ -أيها المسلمون- واحمدوه على نِعمَةِ الإسلامِ، واشكروه على مِنحةِ الإيمانِ، وَحَافظوا على دِينِكم وَعَضُّوا عليه بِالنَّوَاجِذِ في كُلِّ وَقتٍ وحِينٍ ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا رَبَّكُم وافعلوا الخيرَ لعلكم تُفلحون، وجاهدوا في سبيلِ اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هو اجتباكم وما جَعَلَ عَلَيكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ، مِلَّةَ أبيكم إَبراهيمَ، هو سَمَّاكُم المسلمين مِن قَبلُ وفي هَذَا لِيكونَ الرَّسولُ شهيدًا عليكم وتكونوا شُهدَاءَ عَلى النَّاسِ، فَأَقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ واعتصموا بِاللهِ هو مولاكم، فَنِعمَ المولى وَنِعمَ النصيرُ ) [الحج:77-82].

الخطبة الثانية:

أما بعدُ:

فاتقوا اللهَ -تعالى وأطيعوه، وراقبوا أَمرَهُ ونهيَهُ ولا تعصوه ( ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا ويرزقْه مِن حيثُ لا يحتسبُ ) [الطلاق:2]  ( ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مِن أَمرِهِ يُسرًا ) [الطلاق:4].

أيها الإخوةُ: وَبَعدَ هَذِهِ الكلماتِ المختصرةِ والإشاراتِ، التي قد تُغني عن كثيرٍ مِنَ الجُمَلِ والعِباراتِ، قد يَتَسَاءَل مُهتَمٌّ ويقولُ قائلٌ: ما هو البرنامجُ المثاليُّ الذي تَنصحُنا به؟ وفي أَيِّ شيءٍ تَرَى أن يَقضيَ أبناؤُنا أوقاتَهم؟

فَأقولُ: أيها الأحبةُ إِنَّ الأحوالَ تختلفُ والأوضاعَ تتباينُ، والظروفَ تحكمُ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، وليس هُناكَ برنامجٌ مُوَحَّدٌ يَصلُحُ للجميعِ، أو خِطَّةٌ نَستطيعُ أن نَقولَ إنها الخطةُ السِّحريةُ لِقضاءِ الإِجازةِ الصيفيةِ، وَلَكنَّ الأَمرَ الذي أُحبُّ أن أُنَبِّهَ إليه: هو أننا -أَولياءَ أُمُورٍ ومربينَ- يَجبُ أن نَكونَ قريبينَ مِن أَبنائِنَا، وَأَن نَصحبَهم في كُلِّ وَقتٍ -وَلَو بِالمُراقَبَةِ-، وَأَن نَعيَ مَا يَدورُ حَولَنَا وَفي بُيُوتِنَا، لا أَن نَكونَ غَافِلِينَ أو مُغَفَّلِينَ، نمضي في طلبِ الدنيا ونتطاحنُ على جمعِ الحُطامِ، وَتَظَلُّ فِئرانُ الشَّرِّ التي هَجَمَت علينا مَن أَمَاكِنَ مُتعددةٍ، وَأَصَرَّت على حربِنا في صُوَرٍ شَتَّى، تَظَلُّ تهدمُ في سَدِّ الدِّينِ والعِرضِ شَيئًا فَشَيئًا، ولا تجدُ مَن يُقاوِمُها أو يقضي على شرِّها.

يجبُ أن نَعرِفَ أَينَ يَذهبُ أَبناؤُنا وَمَن يُصاحبونَ، وَفِيمَ يَشتغلونَ وَإِلامَ يَهدِفُونَ، وَأَنْ نُوجِدَ بَينَنَا وَبَينَهُم عِلاقةً قويةً حميمةً، تَتَّسِمُ بِالصَّرَاحَةِ فِيمَا بَينَنَا، لا أَن تَكونَ مُعاملتُنا لأبنائِنا هي السَّبَبَ في ابتعادِهِم عَنَّا، وَمِن ثَمَّ ارتباطِهِم بِغيرِنا مِن لُصُوصِ الأَعرَاضِ وَسُرَّاقِ الفَضيلةِ، الذين لا هَمَّ لهم إلا اقتناصُ الفُرَصِ وَتَلَمُّسِ الثَّغَرَاتِ، وَاقتِحَامُ القُلُوبِ البريئةِ الطاهرةِ؛ لِيَجعلوا منها مُستنقعاتٍ عفنةً آسنةً، لا يخرجُ منها إلا كُلُّ ساقطٍ مِنَ القولِ وفاسدٍ مِنَ العملِ.

يجبُ علينا -وقد تَوَفَّرَت لنا مُقَوِّمَاتُ العِيشةِ الهنيةِ والحياةِ الرَّضِيَّةِ- أن نعبدَ اللهَ حَقَّ العِبادةِ، وأن نَشكُرَهُ وَافِرَ الشُّكرِ وَأَجزَله، وَأَن نحافظَ على هَذِهِ النِّعَمِ وَنُقَيِّدَهَا؛ لِئَلا تَزولَ عَنَّا وتَتَحَوَّلَ إلى غَيرِنا؛ فَإِنَّ الأيامَ دُوَلٌ، والحياةَ مليئةٌ بالمتغيراتِ والتقلباتِ، وكم ممن أمسى في نعمةٍ فأصبح ولم يجدْها، وكم ممن أصبح يَتَقَلَّبُ في مِنحةٍ فأمسى في مِحنةٍ.

علينا أن نَشتَغِلَ بِأنفسِنَا وَمَا يُقرِّبُنا إلى اللهِ -تعالى- أو ينفعُنا في دُنيانا، وَأَنَّ نَكُفَّ عَنِ الناسِ شُرُورَنَا وَأَذَانَا، حتى نَكونَ مسلمينَ كَمَا أَرَادَ اللهُ حِينَ اختارَنا وَاجتَبَانَا يَقولُ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: " المؤمنُ مَن أَمِنَهُ الناسُ، والمسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ، والمهاجرُ مَن هَاجَرَ السُّوءَ، وَالذي نَفسي بِيَدِهِ، لا يَدخُلُ الجنةَ عَبدٌ لا يَأمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ ".

وَإِنَّ مِن مُبَشِّرَاتِ الخيرِ التي نَزُفُّها لِكُلِّ مسلمٍ يُريدُ أَن يحفظَ وَقتَه في هذِهِ الإجازةِ ويَستَغِلَّهُ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى رَبِّهِ - أنه سيُنَظَّمُ في هَذِهِ المدينةِ برنامجٌ لحفظِ ما تَيَسَّرَ مِن كتابِ اللهِ، وَسَيَبدَأُ هذا البرنامجُ يَومَ السَّبتِ القادمِ، الموافقِ للأولِ مِن شهرِ جُمَادَى الأُولى -إِن شَاءَ اللهُ- وهو ليس خاصًّا بالطلابِ والصغارِ فَقَطْ، بل سيَشملُ الموظفينَ والكبارَ -أيضًا- وَسَيُعلَنُ لاحقًا عَن تعليماتِ التسجيلِ فيه وشُرُوطِهِ، وعن َمَكَانِهِ وَوَقتِهِ وَجَوَائِزِهِ.

فَنُهيبُ بمن يَستطيعُ مِنَ الإخوانِ أن يلتحقوا بهذا البرنامجِ المباركِ، وَأَن يحرصوا على تسجيلِ أبنائِهِم فيه؛ فإن حِفظَ آيةٍ مِن كتابِ اللهِ -أيها الإخوةُ- ليس بالأمرِ السهلِ فيُستهانَ به، بل إنَّ فيه مِنَ الأجورِ ما لا يَعلمُهُ إلا اللهُ؛ فكيف بِسورةٍ كاملةٍ، بل كيف بجزءٍ أو جزأينِ أو أكثرَ؟؟

وَكَفَى تَضييعًا للوقتِ فيما لا يَنفعُ ولا يُفيدُ، وَكَفَى بِالقُلُوبِ والصُّدُورِ خُلُوًّا مِن كِتابِ اللهِ، والبِدَارَ البِدَارَ قَبلَ فَوَاتِ الأَوَانِ؛ فإن المغبونَ مَن فاتته مَوَاسمُ الخيرِ وبَرَامجُهُ ولم يستفدْ منها شيئًا.

في صحيحِ مسلمٍ عن عقبةَ بنِ عَامرٍ -رضي اللهُ عنه- قال: خَرَجَ رَسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- ونحنُ في الصُّفَّةِ فَقَالَ: " أَيُّكُم يُحِبُّ أن يَغدُوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطحَانَ أَو إلى العَقِيقِ، فَيَأتيَ منه بِنَاقَتَينِ كَومَاوَينِ في غَيرِ إِثمٍ ولا قَطعِ رَحِمٍ؟ " فقلنا: يَا رَسولَ اللهِ، نُحبُّ ذَلكَ. قَالَ:  أَفَلا يَغدو أَحَدُكُم إلى المسجدِ، فَيَعلَمَ أَو يَقرَأَ آيتينِ مِن كِتابِ اللهِ -عز وجل- خَيرٌ له مِن نَاقتينِ، وثلاثٌ خَيرٌ له مِن ثلاثٍ، وأربعٌ خيٌر له مِن أَربَعٍ، وَمِن أَعدَادِهِنَّ مِنَ الإبلِ ".

وفي صحيحِ البخاريِّ عن عثمانَ -رضي اللهُ عنه- عنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قَالَ: " خَيرُكُم مَن تَعَلَّمَ القرآنَ وَعَلَّمَه ".

وَفيه عَن عَائشةَ -رضي اللهُ عنها- عَنِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: " مَثَلُ الذي يَقرأُ القُرآنَ وَهو حَافِظٌ له، مَعَ السَّفَرَةِ الكرامِ البَرَرَةِ، وَمَثَلُ الذي يَقرأُ وهو يَتَعَاهَدُهُ وهو عليه شَديدٌ، فله أَجرانِ ".

وفيه أيضًا عَن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أن رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: " لا حَسَدَ إلا في اثنتينِ: رجلٍ عَلَّمَهُ اللهُ القُرآنَ، فَهو يَتلوهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ له فَقَالَ: لَيتَني أُوتيتُ مِثلَ مَا أُوتيَ فُلانٌ فَعَمِلتُ مِثلَ مَا يَعملُ، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مالا فهو يُهلِكُهُ في الحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيتَني أُوتيتُ مِثلَ مَا أُوتي فُلانٌ، فَعَمِلتُ مِثلَ مَا يَعملُ ".

وفي المستدركِ عنِ ابنِ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما- عن رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: " إن الذي ليس في جوفِهِ مِنَ القرآنِ شَيءٌ كالبيتِ الخَرِبِ ".

فَاحرِصوا على أن يكونَ لكم ولأبنائِكم حَظٌّ مِن هَذَا البرنامجِ -ولو كان قليلا-، واغتنموا الفُرصَةَ حَيثُ العُطلةُ والفراغُ، وحيثُ الاجتماعُ والتعاونُ فإنه " ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بُيُوتِ اللهِ -تعالى- يَتلونَ كتابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونه بَينَهم، إلا نَزَلَت عَلَيهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتهُمُ الرَّحمَةُ، وَحَفَّتهُمُ الملائكةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَن عِندَهُ ".