الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أيها الإخوة: وتدور السنة دورتها يتقلب الناس فيها بين صيف وشتاء، وحر وبرد، وها هو الشتاء يحل بنا ببرده القارس، وليله الطويل، ونهاره القصير، ولوعة جوعه الذي يلحس الكبد، جوعٌ يبيت المعدمون منه يتلعلعون، فلا يسمعون إلا أَطِيْطَ أمعائهم، وقرقرة بطونهم، وفي ثنايا هذه الخلال خير عظيم لمن وفقه الله. نعم في الشتاء يسرح المؤمن في ميادين العبادات، ويرتع في بساتين الطاعات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، فهو...
الخطبة الأولى:
أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أَمَّا بَعْدُ:
أيها الإخوة: وتدور السنة دورتها يتقلب الناس فيها بين صيف وشتاء، وحر وبرد، وها هو الشتاء يحل بنا ببرده القارس، وليله الطويل، ونهاره القصير، ولوعة جوعه الذي يلحس الكبد، جوعٌ يبيت المعدمون منه يتلعلعون، فلا يسمعون إلا أَطِيْطَ أمعائهم، وقرقرة بطونهم، وفي ثنايا هذه الخلال خير عظيم لمن وفقه الله.
أيها الأحبة: روي الإمام أحمد البيهقي في سننه واللفظ له وحسنه الهيثمي عَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-: "الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ، قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَهُ، وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ".
نعم في الشتاء يسرح المؤمن في ميادين العبادات، ويرتع في بساتين الطاعات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، فهو يقدرُ في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع أو عطش، ذلك أن نهار الشتاء قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام، عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ" [رواه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني].
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ؟ قَالَ الراوي قُلْنَا: وَمَا ذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ"[رواه البيهقي في السنن الكبرى].
أي أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب كثير ولا مشقة؛ فمن صام حاز أجر الصيام عفواً صفواً بلا كلفة، وفيه ترغيب للناس في صوم الشتاء.
أحبتي: بالصيام أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد أصحابه لما سأله عن عمل يدخله الجنة؛ فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: مُرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ" ثُمَّ أَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِي: "عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ" [رواه أحمد وغيره].
وفي رواية: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْيلَ لَهُ"[صححه الألباني وغيره].
وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" أي سبعين سنة.
قال السيوطي: أي في طاعته يعني قاصدا به وجه الله -تعالى-، وقيل في سبيل الله الجهاد "سَبْعِينَ خَرِيفًا" أي مسيرة سبعين سنة.
أيها الإخوة: بعضنا لا يصوم إلا في رمضان، وهذا لا تثريب عليه، ولكنه فرط بخير كثير، وأجر عظيم؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامِ -من كل شهر- صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ"[متفق عليه] أي: صيام السنة كلها.
عَنْ أَبُي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ تَمَّ لَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ أَوْ فَلَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ"[رواه النسائي بالكبرى].
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَوْمِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ، فقَالَ: "ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" [رواه أحمد وإسناده حسن].
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ يَصُوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَيَقُولُ: "إنَّ هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ تُعْرَضُ فِيْهِمَا الأَعْمَالُ"[رواه ابن خزيمة قال الألباني حديث حسن صحيح].
الشتاء فرصة لصيام مثل هذه الأيام وكسب ثوابها.
أيها الإخوة: إن الشتاء فرصة كذلك لقيام الليل، حيث أن النفس تأخذ حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك لصلاة الليلِ لطوله، وقد روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "مرحبًا بالشتاء تنزل فيه البركة، يطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام".
وروي عن الحسن أنه قال: "نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه".
أحبتي: إن قيام ليل الشتاء شاق على بعض النفوس، وذلك أن النفس تتألم أشد الألم بالقيام من الفراش في شدة البرد، حتى أن بعض الناس ربما ترك صلاة الفجر في جماعة بسبب ضعفه عن مجاهدة نفسه، فالله المستعان.
ثم ما يحصل من التألم بسبب إسباغ الوضوء في شدة البرد مع أنه من أفضل الأعمال وعَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"[رواه مسلم].
قال ابن رجب: معالجة -المعالجة المحاولة للشيء والمشقة في تحصيله- الوضوء في جوف الليل للتهجد موجب لرضا الرب، ومباهاة الملائكة، ففي شدة البرد يتأكد ذلك؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ يُعَالِجُ نَفْسَهُ إِلَى الطَّهُورِ، وَعَلَيْكُمْ عُقَدٌ، فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِذَا وَضَّأَ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَيَقُولُ اللَّهُ -جل وعلا- لِلَّذِين وَرَاءَ الْحِجَابِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُعَالِجُ نَفْسَهُ لَيَسْأَلَنِي، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ"[رواه ابن حبان وحسنه الألباني].
فطوبى لمن استشعر قيمة الوقت، واستثمره بالصالحات أولئك الذين قال الله فيهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16 -17].
قال السعدي -رحمه الله-: "أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة اللّه -تعالى-".
وقال: "كما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم، كما قال تعالى على لسان رسوله: "أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
وقال: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17- 18].
أيها الأخ المبارك: حاول الليلة وتغلب على نومك، وخذ ورداً من الليل لتسعد مع السعداء.
أيها الإخوة: لقد شرع الله لنا دفع أذى البرد يما امتن علينا من اللباس ووسائل التدفئة المختلفة؛ قال الله -تعالى-: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) [النحل: 5].
وقال: (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) [النحل: 80].
قال سليم بن عامر: "كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذا حضر الشتاء تعاهد رعيته، وكتب للولاة: "إنَّ الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا، فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه".
وهذا منه رضي الله عنه لتمام نصيحته، وحسن نظره، وشفقته وحياطته لرعيته.
أيها الإخوة: لا ننس إخوة لنا في بلدنا هذا يعيشون معنا ربما آلمهم البرد وأقعدتم الحاجة، كما لا تنسوا إخواننا في سوريا وغزة قد اجتمع عليهم ألم البرد والجوع والخوف والظلم مع ألم الغربة أو الحصار، كم يعانون وهم بحاجة ماسة للغذاء واللباس والغطاء في وقت ينعم بفضل الله وعطائه كثير منا بكل خير، أفيضوا على إخوانكم فهم بأمس الحاجة؛ سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"[رواه البخاري ومسلم].
ألا نتقي النار ولو بشق تمرة؟!
واعلموا أن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام.
جعلني الله وإياكم منهم إنه جواد كريم بر رحيم، وصلى الله على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة: من فضائل الشتاء: أنه يذكر بزمهرير جنهم، ويوجب الاستعاذة منها، فاستعيذوا بالله من حرها وبردها، قال تعالى: (لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاء وِفَاقًا) [النبأ: 24- 26].
قال ابن عباس: "الغساق الزمهرير البارد الذي يحرق من برده".
وقال مجاهد: "هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده" -أجارنا الله من جنهم بفضله وكرمه-.
فيا من تتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفُسَها كلَّ عامٍ حتى يحسَّ بها ويتألم، وهو مصرٌ على ما يقتضى دخولَها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جِيء بها تقادُ بسبعين ألفَ زمامٍ من يندم.
ألك صبرٌ على سعيرها وزمهريرها؟ قل وتكلم، إنا لنرجو صلاحك وأنت لا تعلم.
كم يكونُ الشتاءُ ثم الصيفُ | وربيعٌ يمضي ويأتي الخريفُ |
وارتحالٌ من الحرورِ إلى البردِ | وسيفُ الرَّدى عليك مُنيفُ |
يا قليلَ المقامِ في هذه الدنيـــــا | إلى كمْ يَغُرُّكَ التسويفُ |
يا طالبَ الزائلِ حتى متى | قلبُك بالزائلِ مشغوفُ |
عجبًا لامرئٍ يذلُ لذى الدنيــــا | ويكفيه كلَّ يومٍ رغيفُ |
وصلوا وسلموا على سيد الأولين...