الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | علي مشاعل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
نحن في زمان كثرت فيه الفتن، وحدثت فيه أشراط الساعة الصغرى كلها؛ فرأيت أن استعرض بعض تلك الأشراط.نستعرض بعضها، وهي كثيرة جدا؛ عدها بعض العلماء سبعين علامة؛ قبل ظهور المهدي -عليه السلام-، وعندما نستعرض بعض هذه العلامات لا يراد من استعراضها الاستسلام، وترك العمل، إنما المراد معرفة هذه العلامات؛ فمنها ما هو لا دخل للإنسان فيه، أحداث أخبر عنها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا دخل لها في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد كما أنت أهله، وصل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كما هو أهله، وافعل بنا ما أنت أهله، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأحذركم وبال معصيته، ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة:7-8].
أما بعد:
نحن في زمان كثرت فيه الفتن، وحدثت فيه أشراط الساعة الصغرى كلها؛ فرأيت أن استعرض بعض تلك الأشراط.
نستعرض بعضها، وهي كثيرة جدا؛ عدها بعض العلماء سبعين علامة؛ قبل ظهور المهدي -عليه السلام-، وعندما نستعرض بعض هذه العلامات لا يراد من استعراضها الاستسلام، وترك العمل، إنما المراد معرفة هذه العلامات؛ فمنها ما هو لا دخل للإنسان فيه، أحداث أخبر عنها الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لا دخل لها في الفرائض والمحرمات، ومنها أحداث وأمور وعلامات يكون للإنسان دخل فيها، بارتكاب ما حرم الله، وترك ما أمر الله، فما ليس للإنسان فيه دخل ندرك من خلالها آيات الله في هذا الكون، ونبوة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وصدق إخباراته الغيبية، وتلك المعجزات التي أشار إليها، ونوه بها.
وما للإنسان دخل في مخالفة أمر الله ورسوله، ينبغي أن لا تحدث من إنسان عاقل مسلم، يخاف الله، فنبتعد عن تلك التي لا نستطيع تركها، حتى لا نكون ممن ارتكب المخالفات التي تكون علامة للساعة وظهورها.
أولى العلامات -أيها الإخوة الكرام-: بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى، أي ليس ثمة مسافة بعيدة في عمر الزمن وفي عمر الكون كهاتين، الفاصل بينهما قريب، وقصير وقليل. [والحديث متفق عليه].
وفي رواية أخرى: "ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر".
وتوضح هذه الرواية رواية ثالثة: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس".
وكلها روايات في الصحيحين، أو أحدهما.
إذاً النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب مثلا لزمن الأمم بني إسرائيل أمة موسى، ثم أمة عيسى، ثم أمة محمد -عليه الصلاة والسلام-، أو ما قبل موسى -عليه السلام- منذ بدأ الخليقة، في حديث آخر: أنهم من الصباح إلى الظهر، ثم من الظهر إلى العصر، أمة عيسى، ثم من العصر إلى المغرب أمة محمد -عليه وعلى الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم-.
إذا من هنا نلمح قرب الساعة منذ بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن الأمر لا يستأهل الاستغراق، وطول الأمل، إنما على كل عاقل منذ أن بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدرك قصر الأمر، قصر أعمار الأفراد؛ فأكثر أعمار الأمم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، هي أقصر الأمم أعمار بين 60 و70 وقليل من يتجاوز ذلك، في الوقت التي كانت فيه الأمم السابقة تعيش مئات السنين، ولقد عمر نوح أكثر من ألف سنة، بقي في الدعوة ألف إلا خمسين عام، وقبل الدعوة أربعون، وبعد الطوفان ستون على اختلاف الروايات، فعاش أكثر من ألف سنة.
إذا بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- تعتبر أولى علامات الساعة الصغرى.
أما العلامة الثانية، فهي: انشقاق القمر، قال تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1].
فعطف انشقاق القمر على اقتراب الساعة، فكأن انشقاق القمر علامة من علامات الساعة، وقد حدث هذا الانشقاق معجزة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتكون آية يتحدى بها المشركين، وهم يصرون ويعاندون على كفرهم، أشار إلى القمر في ليلة البدر، فانقسم فلقتين: فلقة في اليمين، وفلقة في اليسار، ورآها المشركون جميعا، ورآها أهل البادية، فما كان من المعاندين والمصرين على ضلالهم وكفرهم إلا أن قالوا: "لقد سحر محمد القمر": (وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)[القمر: 2].
هذا حال المعاندين لا تزيدهم الآيات إلا عنادا؛ لذلك ما كان عليه الصلاة والسلام يريد إظهار الآيات التي تقيم الحجة عليهم الآية تلو الآية، كما كان الأنبياء يأتون من قبله، حتى لا يهلك قومه، إنما كان يعتمد على البيان والدعوة والحكمة، وما أنزل الله عليه من القرآن الكريم.
ومعجزة انشقاق القمر كانت من شعبان، وهي آية اتفق عليها العلماء، وصحت فيها الأحاديث، تدل على عظيم قدرة الله، نستفيد من هذه الآية: أن الله قادر على أن يشق أي كوكب، وأي نجم، وأي مخلوق، مهما كان عظيما، بكن فيكون، ويريه للناس حتى يعلموا مدى ،قدرته وصدق أنبيائه، لتكون الحجة قائمة عليهم، فلا يستمر في العناد والمكابرة، لعل البعض يرجع إلى العقل والفهم.
العلامة الثالثة من علامات الساعة: فتح بيت المقدس؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم تفتح الأمصار، إنما اكتمل المنهج، وتخرج طلاب المدرسة المحمدية الذين التفوا حول مائدة القرآن والسنة، وأصبحوا قادرين على تحمل أعباء هذه الأمانة، ونشر الدعوة الشريفة الكريمة، وكان انتقال النبي -عليه الصلاة والسلام- إيذانا بتحمل أصحابه، ومن بعدهم أمانة الدين، حيث يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
فقد كان فتح بيت المقدس أول مرة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان فتحه صلحا لا عنوة ولا حربا، ولما ذهب قائد القوات أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- ليصالح الصليبيين، أو الروم، في ذلك الوقت، قالوا: إننا لم نجد أوصاف من يتسلم منا مفاتيح الأقصى فيك يا أبا عبيدة، إن وصفه كيت وكيت... وإذا بالأوصاف تنطبق على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فبعث أبو عبيدة إلى الأمير يخبره بأن المسجد الأقصى وبيت المقدس لا يسلم إلا لك يا أمير المؤمنين.
وجاء عمر في تواضع الخليفة المسلم، واعتزاز المسلم بدينه وربه، وتسلم مفاتيح الأقصى، في السنة السابعة عشر للهجرة، وفتح بيت المقدس، قال العلماء: "كان هذا هو الفتح الذي أشير له بداية أنه من أشراط الساعة".
وكان بيت المقدس قد حصل له احتلال واغتصاب كثير متكرر، فمن أحداثه: احتله الصليبيون في سنة 492ه، ثم حرره البطل صلاح الدين في رجب سنة 583 هـ، ثم احتله الصليبيون مرة ثانية سنة 626 هـ، واستعاده الملك الناصر الأيوبي 637هـ، ثم احتله الصليبيون مرة ثالثة سنة 641هـ واستعاده أيضا الملك الصالح الأيوبي بعد ذلك، ثم احتله الصهاينة في عام 67م ولا يزال المسجد الأقصى أسيرا جريحا يعاني الأمرين، ويناشد الأمتين: الأمة الإسلامية والعربية؛ ليجد بطلا يخلصه، لعل أن يكون المهدي هو المحرر له، ولنا آمل قبل ذلك أن يكون في الأمة المسلمة من تأتيه القوة والإيمان وتوحيد هذه الأمة؛ ليحرر الأقصى من براثن صهيونية، وممن يدعمها من الكفرة والصليبية، حتى يعود الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، إلى أمة الإسلام عندما يعتزون بالإسلام، فيعزهم الله بهذا الدين.
إذاً فتح بيت المقدس من علامات الساعة.
العلامة الرابعة: اقتتال فئتين عظيمتين من المسلمين، ولا شك أن فتح بيت المقدس وردت فيه أحاديث اشتملت على علامات متعددة من علامات الساعة؛ من الحسن أن نذكر هذا الحديث، وهو حديث أخرجه البخاري في صحيحه: عن عوف بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي..." أي موت رسول الله -صلى الله على عليه وسلم-، بعثته كان علامة، وموته علامة ثانية أيضا: "ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان" أي موت كثير في بلاء عام- "موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنى عشر ألفا".
ولهذه العلامات نستعرضها بمشيئة الله في حينها.
أما العلامة الرابعة التي أشرت إليها: فاقتتال فئتين عظيمتين من المسلمين؛ ففي الحديث المتفق عليه: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة" أي هما على دين واحد، ودعوة واحدة، وهم المسلمون، وعلى دعوة الإسلام [متفق عليه].
قال العلماء: هذان الفئتان هما: فئة علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، حيث اقتتلا على دم عثمان، وكان معاوية -رضي الله عنه- أميرا على الشام، ورفض البيعة إلا أن تسلم له قتلة عثمان، وكان علي -رضي الله عنه- قد بويع خليفة، وطلب أن يبايع، فالبيعة أولا، ثم البحث عن قتلة عثمان ثانيا، حتى لا يبقى المسلمون بغير بيعة، أو خليفة، وحصل الخلاف في وجهات النظر، وحصلت الفتنة، وحصلت علامة من علامات الساعة كبيرة جليلة خطيرة، وهي من العلامات الصغرى لكنها كبيرة في آثارها وواقعها ونتائجها على الأمة المسلمة، حيث مات الكثير، وسفكت الدماء الغزيرة في مجال الفتنة والاجتهاد، ولا داعي؛ لئن يتحدث عما شجر بين الصحابة؛ لأنهم عدول وثقات، ما كانوا يريدون شرا، أو فتنة، إنما اجتهدوا؛ فمنهم من أصاب، ومنهم من أخطأ، وخير كلمة قيلت في هذه المشاجرات والحروب كلمة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الأموي، الذي ما كان يتعصب لقومه، ولا لبني أمية، إنما كان راشدا يتبع سيرة الخلفاء الراشدين، لما سئل عن تلك الدماء والمعارك، قال: "إنها دماء طهر الله منها سيوفنا، فلماذا نلوث بها ألسنتنا" ثم قص رؤيا، قال: "رأيت القيامة قد قامت، ورأيت قبة قد نصبت، وسمعت مناديا ينادي: يا علي يا معاوية هلم إلى الحكم، فدخلا ثم خرج علي وهو يقول: "حكم لي ورب الكعبة" وتلاهم معاوية وهو يقول: "غفر لي ورب الكعبة".
فمخطئ من يقود الحرب بين الصحابة، ومنحرف من يبغض بعض الصحابة، أو يسب بعضهم، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر والخروج من الملة، في الوقت الذي لا ينفعه كلام، ولا يفيده الحكم، ولم ينصب قاضيا على الصحابة، إنما مرجع الجميع إلى الله -عز وجل-.
ولقد تحققت معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان الحسن بن علي صغيرا، فقال عليه الصلاة: "إن ابني هذا سيدا، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين" فكان سببا للصلح.
لقد بقيت الخلافات زمن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، ثم قتل شهيدا، وهو ذاهب إلى صلاة الفجر، قتله الخارجي المجوسي عبد الرحمن بن ملجم، ثم تولى الحسن ابنه الخلافة، فبقيت الخلافات مستمرة بين الشام والحجاز، فتنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية في عام 41ه.
سمي هذا العام عام الجماعة، حيث اجتمع المسلمون جميعا على بيعة معاوية أميرا للمؤمنين، بعد تنازل الحسن بن علي عن الخلافة، بعد توليه ستة أشهر منها، فكان هو السيد الذي أصلح الله به بين طائفتين عظيمتين.
العلامة الخامسة: الموت الكثير بالوباء والطواعين، وهو "موتان كقعاص الغنم"؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وقع كثيرا، وأول ما وقع في طعون عمواس من بلاد الشام أيام كان أبو عبيدة هناك، وقد مات أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وغيرهم من الصحابة كثير في طاعون عمواس، في بلاد الشام، في الأردن حاليا.
وكان ذلك زمن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، وكان بعد فتح بيت المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: " ثم داء يظهر فيكم، يستشهد الله به ذراريكم وأنفسكم...".
ومن ثم كان موت المسلمين في مثل هذه الأوبئة يعد شهادة لهم في سبيل الله يعطون يوم القيامة أجر الشهداء، عندما ينزل البلاء، ويعم الموت، ويموت المسلمون، في مثل هذه الأوبئة يكون شهادة للمسلم، وأجر الشهداء يوم القيامة.
العلامة السادسة: نار في بلاد الحجاز، قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى الشام".
قال الإمام القرطبي وغيره: "قد خرجت نار بالحجاز قِبل المدينة، وكان بدأها زلزلة عظيمة في يوم الأربعاء سنة 654هـ، واستمرت النار ثلاثة أشهر، وقد رأى الأعراب أعناق الإبل ببصرى الشام من تلك النار بالحجاز".
هذه آيات وعلامات للساعة ست عرفنا من خلالها قرب الساعة والقيامة، وعرفنا أيضا قدرة الله -عز وجل-: أن يفعل ما يشاء في هذا الكون، وأدركنا ضرورة قصر الأمل، وضرورة العمل، والتزود للقاء الله -سبحانه-، ولعل الله -عز وجل- يوفق لاستعراض ما بقي من علامات الساعة في لقاءات قادمة بمشيئة الله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فتوبوا إليه واستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه إلى يوم الدين، ورضي الله -تعالى- عمن حمل هذا الدين، وجاهد في سبيله ونشره، وأدى الأمانة فيه، ورضي الله -تعالى- عن كل من سار خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حكم الكتاب والسنة، وجمع الأمة على كلمة الحق.
اللهم اغفر لنا وارحمنا...