الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | محمد راتب النابلسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن السداد والرشاد أن تتعلم وتعمل، وتجدَّ وتكد وتتقدم وترقى، وتكفي أسرتك ومن تعول، وأن تكون يدك هي العليا، كل ذلك في حدود ما أحل الله فارًّا من المحرمات فرارك من الموت، لقد جاء في مصابيح السنة أن الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يدي الله.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
وبعد:
يا أيها الإخوة المؤمنون: لو أن المسلمين في هذا العصر زهدوا في الدنيا وانقطعوا للعبادة ورضوا باليسير منها، ففاتهم ركب التقدم والحضارة من ترك، لو أنهم كذلك لقلنا لهم: ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه إلا أن يتزود منهما معاً فإن الأولى مطية للثانية.
ولكن المسلمين اليوم في حال يلفت النظر ويحيِّر اللب، لقد أقبلوا على الدنيا بكل قلوبهم، وتطلعوا إلى زينتها وزخرفها ملء عيونهم، واحتفلوا بعرضها بكل جارحة من جوارحهم، وتنافسوا على أبيضها وأصفرها، وجعلوا كسب المال أكبر همهم، والانغماس في متعها الحسية مبلغ علمهم، وتفاخروا بما حصَّلوا منها، ورقصوا طرباً لما فازوا فيها، وماتوا غماً وهماً لما فاتهم منها.
أيها الإخوة: لو وقف المسلمون وهم في غمرة اندفاعهم هذا لو وقفوا عند حدود ما أحل الله لهانت المصيبة ولكان علاجها يسيراً وعناؤها قليلاً، ولكن المسلم اليوم أو من يدَّعي أنه مسلم لا يبالي أكان كسبه حلالاً أو حراماً، فيأكل الربا أو يوكله ويقتني المحرمات أو يتاجر بها ولا يتحرج من سلوك يسلكه أمستقيماً كان أم منحرفاً.
ولا يعنيه إلا لذةٌ يقتنصها أو متعةٌ يغتنمها أو مسكن يزهو به أو أثاث يتيه فيه.
أيها الإخوة: لمثل هذا نقول: ما ينتظر الإنسان من الدنيا إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفنداً، أو موتاً مجهزاً.
لمثل هذا نقول: ما من بيت إلا وملَك الموت يقف فيه كل يوم خمس مرات، فإذا وجد أن العبد قد انقطع رزقه وانقضى أجله ألقى عليه غمّ الموت فغشيته سكراته، فمن أهل البيت الناشرة شعرها، والضاربة وجهها، والصارخة بويلها.
فيقول: فيمَ الجزع ومم الفزع؟! ما أذهبت لواحد منكم رزقاً، ولا قربت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودة، حتى لا أبقي منكم أحداً، وهنا يقول -عليه السلام-: "فوالذي نفس محمد بيده لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ولبكوا على أنفسهم".
فإذا حُمل الميت على النعش، رفرفت روحه فوقه قائلة: يا أهلي، يا ولدي: لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حل وحرم فأنفقته في حلِّه وفي غير حلِّه، فالهناء لكم والتبعة عليّ. أو كما قال:
ألا قـل لـماشٍ عـلى قـبرنا | غـفولٌ بـأشياء حلـت بـنا |
سيـندم يـوماً لتفريطـــه | كـما قـد نـدمنـا لـتفريطنا |
لمثل هذا نقول: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت ومن شئت فإنك مفارق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
لمثل هذا نقول: خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها همًّا.
لمثل هذا نقول: من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه، أخذ من حتفه وهو لا يشعر.
لمثل هذا نقول: لو أن الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء.
أيها الإخوة: لاحظوا دقة نصِّ الحديث، الاقتصاد في المعيشة ليس خيراً من كل تجارة، ولكن من بعضها، من بعضها القائم على الربا النامي على الاحتكار، الرائج على الرذيلة.
هذه التجارة يُضيع بها المسلم دينه ودنياه، وتجعله يلهث وراء المال ليكنزه، لا لينفقه، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى، وما سوى ذلك فهو لورثته الذين سينعمون به، وسيحاسب عليه، كيف جمعه، وفيمَ أنفقه.
أيها المسلم: لا تظن أن هذا معناه أن تقعد في بيتك وتترك عملك وتهمل واجبك، وتُضيع أسرتك، وتكون عالة على غيرك.
يا أخي: إن السداد والرشاد أن تتعلم وتعمل، وتجدَّ وتكد وتتقدم وترقى، وتكفي أسرتك ومن تعول، وأن تكون يدك هي العليا، كل ذلك في حدود ما أحل الله فارًّا من المحرمات فرارك من الموت، لقد جاء في مصابيح السنة أن الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يدي الله.
يا أخي: إن السداد والرشاد أن تتخذ من الدنيا مطيةً للآخرة، لا أن تكون الدنيا مطَّ رحالك، ومنتهى آمالك، فليكن علمك وعملك، جدُّك ولهوك، عناؤك واستجمامك، فراغك وشغلك، في سبيل مرضاة الله، وأن تضع اللقمة في فم زوجتك، فهي لك صدقة، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77].
يا أخي: تأكد أن طيبات الدنيا سيكون لها طعم جديد في ظل الإيمان، فما أجمل أن يسكن المؤمن إلى امرأة صالحة، تسرُّه إن نظر إليها، وتطيعه إن أمرها، وتحفظه إن غاب عنها، وما أجمل أن يكسب المؤمن مالاً من عمل شريف، من وظيفة أدى واجبها، ومن تجارة اتقى الله فيها، ومن صنعة أتقن أداءها.
وما أجمل أن ينفق المؤمن مالاً ليحصن نفسه، وليكفي أسرته وليتقرب إلى ربه، قال أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه-: "حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي".
وما أجمل أن يكون للمرء -إلى جانب ذلك- صلة بخالقه وسعادة من قربه!!
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا | وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل |
أيها الإخوة: إن الذي يتلف أعصاب الناس تطلعهم إلى من هو أعلى منهم في دنياهم، وتعاميهم عما في أيديهم، فالموظف مثلاً يتمنى أن يكون تاجراً لأن صفقة واحدة برواتب عام بأكمله.
والتاجر في غمرة أتعابه يتمنى أن يكون موظفاً ويرى أن راحة البال بكل ثروته، والحقيقة -يا إخوتي- أن السعادة في الرضا والشقاء في السخط، والغنى أن تزهد بما في أيدي الناس، والفقر أن تنظر إلى ما عندهم، قال -عليه السلام-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس". أخرجه الترمذي.
وقال أيضاً: "أنت من خوف الفقر في فقر".
وقالوا: "توقع المصيبة مصيبة أكبر منها".
وفوق ذلك؛ ابذل كل ما في وسعك لتحسين مستوى معيشتك، وحيثما انتهى بك السعي فارض بالذي وصلت إليه، واعتقد أن الغنى ليس عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس. ولتكن هذه الآية نصب عينيك، قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).
ملك الملوك إذا وهب | لا تسألن عن السبب |
الله يعطي من يشـاء | فقف على حد الأدب |
إذاً: فانظر إلى من هو أدنى منك، فذلك أحرى ألا تزدري نعمة الله عليك.
هكذا ينصح لك رسول الله -صلوات الله عليه-، وفي رواية: "ولو نظرت في أمر الآخرة إلى من هو أعلى منك لشحذت همتك، واتقد قلبك وأشرقت نفسك".
إذاً فلا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له، قال عمر -رضي الله عنه-: بل صاحب من ينهضك إلى الله حاله، وبدلك على الله مقاله، ومن دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط. هكذا قال عمر -رضي الله عنه-.
يا إخوة الإيمان: إن الناس متساوون في جوهر الحياة، متفاوتون في أعراضها، فحاجات الحسد محدودة مهما توافر المال، فليس في وسعك أن تأكل أكثر من وجبة واحدة، ولا أن ترتدي أكثر من ثوب واحد، ولا أن تأوي إلى أكثر من فراش واحد؛ لذلك قال النبي الكريم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". أخرجه الترمذي وابن ماجه.
فقبل أن تنظر إلى ما عند غيرك، هل نظرت إلى ما عندك، أعضاؤك وحواسك وأجهزتك تعمل بانتظام، وهناك أناس كثيرون ابتلوا بفقد بعضها، ولا يعلم إلا الله كم يحسّون من ألم، فهل تعدها نعمة قليلة!!
إن الدنيا بحذافيرها أن تكون معافى في جسمك، آمناً في بيتك، عندك قوت يومك.
أخي المؤمن: هل تظن أن الحياة طويلةٌ جداً؟! هل قلت في نفسك يوماً: أغلب الظن أن ما بقي أقلُّ مما مضى؟! وهل تعلم أنك إذا علَّقت بالدنيا كل الآمال فقد غامرت بسعادتك وربما خسرتها؟!
سئلت السيدة رابعة العدوية -رضي الله عنها-: ما الإنسان؟! فقالت: "هو بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه".
فكم من شاب كالزهرة المتفتحة خطفته المنون، وأهله واجمون!
وكم من رجل قوي شديد أمسى في بطن الأرض، وأهله لا يصدقون!!
وكم من امرئ شيد قصراً ولم يسكنه!! وكم من طالب حاز شهادة ولم يقطف ثمارها!! وكم من إنسان عاش فقيراً ليموت غنياً!!
وقد يقول أحدكم: إن نفسي تواقة إلى كل شيء، متمردة على كل شيء، لا تلقي أذناً لهذا الترغيب والترهيب، ولا تريد أن تعيش إلا في يومها، ولا يعنيها إلا متعتها ولذتها.
لمثل هذا نقول: كفى بالموت واعظاً، أكثروا من ذكر هاذم اللذات، مفرق الأحباب مشتت الجماعات. إن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً، وأحزمكم أشدكم استعاداً له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور والتزود لسكنى القبور والتأهب ليوم النشور. [أول الحديث: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات". أخرجه الترمذي].
ومجمل القول: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ". أخرجه الترمذي.
أيها الإخوة: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه فقال: "إن الدنيا دار التواء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، وإن الله قد جعلها دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي". أو كما قال.
والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اللهم صن وجوهنا باليسار ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى، وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، واصرف عنا شر الأعمال لا يصرفها عنا إلا أنت.
والحمد لله رب العالمين.