المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصلاة |
إن الخشوعَ في الصلاةِ ليسَ مسألةً تجميليةً، بل ليس لك من صلاتِك إلا ما كنتَ فيه خاشعاً؛ كما قالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا".
وهذا هو السببُ الحقيقي لعدمِ تأثيرِ الصلاةِ في كثيرٍ من المسلمينَ الذينَ يُصلون ولا تمنعُهم صلاتُهم عن المعاصي، مع أن ...
الخطبة الأولى:
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد:
فحينما يبدأُ المسلمُ بقراءةِ سورةِ المؤمنونَ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1-2].
فإنه يقفُ لا شُعورياً مُتفكراً بأَولِ آيتينِ، وكيفَ أن أولَ صِفةٍ لأهلِ الإيمانِ الذينَ هم أهلُ الفلاحِ؛ هي أنهم إذا صَلّوا خشعتْ قلوبُهم، وسكنتْ جوارحُهم، وأقبلوا على صلاتِهم، وتركوا الدنيا وما فيها خلفَ ظُهُورِهم، ثم يرجعُ القارئُ ليقيسَ إيمانَه بمقدارِ خشوعِه في الصلاةِ، فإن كانَ لنفسِه ناصِحاً، فسيرى الخللَ واضحاً.
إن الخشوعَ في الصلاةِ ليسَ مسألةً تجميليةً، بل ليس لك من صلاتِك إلا ما كنتَ فيه خاشعاً؛ كما قالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا عُشْرُ صَلَاتِهِ، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا".
وهذا هو السببُ الحقيقي لعدمِ تأثيرِ الصلاةِ في كثيرٍ من المسلمينَ الذينَ يُصلون ولا تمنعُهم صلاتُهم عن المعاصي، مع أن اللهَ -تعالى- قد قالَ وقولُه الحقُ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45].
وذلك؛ لأن الصلاةَ التي تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ هي الكاملةَ الخاشعةَ، وبقدرِ النقصِ الذي يَعتريها، ينقصُ أثرُها في الكَفِّ عن المعاصي.
هذا أثرُها في الدنيا، وأما في الآخرةِ؛ فقد جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ".
بَلْ يترتبُ على صلاحِها صلاحُ جميعِ الأعمالِ: "فإنْ صَلحَتْ صَلحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وإِنْ فسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ".
إذا علمنا هذا، علمنا خطورةَ ما نتكلمُ عنه من الخشوعِ فيها، ومجاهدةِ النفسِ والشيطانِ في استحضارِ القلبِ، ودَفعِ الصَوارفِ عنه في كلِ صلاةٍ.
يا أهلَ الإيمانِ: هناك وسائلُ يستطيعُ المسلمُ أن يستحضرَ بها الخشوعَ في صلاتِه؛ منها: إحسانُ الوضوءِ قبلَ الصلاةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ".
وحَريٌّ بمثلِ هذا الذي تساقطتْ ذنوبُه أن يُقبلَ على صلاتِه؛ كما هو إقبالُ الظّمآنِ على الماءِ الباردِ.
ومما يُستعدُّ به للصلاةِ هو التبكيرُ إلى المسجدِ، ولذلك تجدُ الأحاديثَ الكثيرةَ في فضلِ التبكيرِ إلى الصلاةِ؛ كما في قولِه عليه الصلاة والسلام: "وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يَنْهَزُهُ -أي لا يُخرجُه من بيتِه- إِلاَّ الصَّلاَةُ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلاَةِ مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ هِي تَحْبِسُهُ، وَالْمَلاَئِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِى صَلَّى فِيهِ، يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ".
فمعَ هذا الدعاءِ المباركِ من الملائكةِ الذي تنزلُ معه الرحمةُ، وتلك الركعتينِ التي تسكنُ بها النفوسُ، وقراءةِ شيءٍ من القرآنِ تطمئنُ به القلوبُ، لا تأتي الصلاةُ إلا والعبدُ في أتمِ الاستعدادِ وفي غايةِ الشوقِ لها.
ومما يُساعدُ على الخشوعِ في الصلاةِ: استشعارُ ذلك الحديثِ الجَذَّابِ، والحِوارِ الخَلاَّبِ، الذي يدورُ في كلِ صلاةٍ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ -تعالى-: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ -تعالى-: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)[[الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ -تعالى-: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة: 4] قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[الفاتحة: 6-7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".
فما أجملَه من ثناءٍ! وما أعظمَه من دعاءٍ! وما أروَعَه من لقاءٍ! يلتقي به أهلُ الأرضِ بأهلِ السماءِ!.
وكذلك في سائرِ صلاتِه، متى كانَ مُقبلاً عليها، خاشعاً فيها، كانَ اللهُ -تعالى- معه؛ كما جاءَ في الحديثِ: "لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ".
فليتدَّبرْ أذكارَ الصلاةِ من تكبيرٍ ودعاءٍ وتسبيحٍ، وليستمتعْ بأعظمِ أحوالِه وهو يُحني ظهرَه ورأسَه لربِّه وخالقِه، وهو يقولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ" ثم يصلُ إلى أقربِ منزلةٍ من ربِّه حينَ يضعُ أشرفَ أعضاءِه على أسفلِ مكانٍ في الأرضِ، ويقولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى" فكلما ازددتْ للهِ -تعالى- عبوديةً وخضوعاً وذُلاًّ، كلما ازددتَ واللهِ شرفاً وعِزَّةً ورِّفعةً في الدنيا والآخرةِ.
عبادَ اللهِ: مَنْ مِنا إذا صلى ظنَّ أن هذه الصلاةَ قد تكونُ صلاتَه الأخيرةَ؛ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ؟ قَالَ: "إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ".
وذلك لأن ذكرَ الموتِ في الصلاةِ له أثرٌ عظيمٌ في الخشوعِ؛ كما قالَ عليه الصلاة والسلام: "اذْكُر المَوْتَ في صَلاَتِكَ؛ فإِنَّ الرَّجُلَ إذا ذَكَرَ المَوْتَ في صَلاَتِهِ لَحَرِيٌّ أنْ يُحْسِنَ صلاتَهُ، وَصَلّ صلاةَ رَجُلٍ لا يَظُنُّ أنَّهُ يُصَلّي صلاةً غَيْرَها".
فكيفَ بكم في رجلٍ يعلمُ أن هذه الصلاةَ هي آخرُ أعمالِه، وأن الأعمالَ بالخواتيمِ؟.
سُئِلَ حاتمُ الأصمُ -رحمه الله- عن صلاتِه، فقالَ: "إذا حانتِ الصلاةُ، أسبغتُ الوضوءَ، وأتيتُ الموضعَ الذي أريدُ الصلاةَ فيه، فأقعدُ فيه حتى تجتمعَ جوارحي، ثم أقومُ إلى صلاتي، وأجعلُ الكعبةَ بين حاجبيَّ، والصراطَ تحتَ قدميَّ، والجنةَ عن يميني، والنارَ عن شمالي، ومَلَكَ الموتِ ورائي، وأظنُها آخرَ صلاتي، ثم أقومُ بين يديِّ الرجاءِ والخوفِ، وأُكبرُ تكبيراً بتحقيقٍ، وأقرأُ بترتيلٍ، وأركعُ ركوعاً بتواضعٍ، وأسجدُ سجوداً بتخشُّعِ، وأُتبعُها الإخلاصَ، ثم لا أدري أقُبِلَت مني أم لا؟".
عندما نستحضرُ الخشوعَ في صلاتِنا، ستكونُ الصلاةُ يسيرةً على الأبدانِ، محبوبةً إلى القلوبِ؛ كما قالَ تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45].
وسنعرفُ معنى قولِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَجعلت قُرَّةُ عَيْني فِي الصَّلَاةِ".
فَالصَّلَاةُ قُرَّةُ عُيُونِ المُحبينَ فِي هَذِه الدُّنْيَا، لما فِيهَا من مُنَاجَاةِ من لَا تَقَرُّ الْعُيُونُ، وَلَا تَطمئِنُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَسكنُ النُّفُوسُ إِلاَّ إِلَيْهِ، والتنعمِ بِذكرِهِ، والتذللِ والخضوعِ لَهُ، والقُربِ مِنْهُ، وَمن هَذَا قَولِ النَّبِيِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بِلَالُ أَرحْنَا بِالصَّلَاةِ".
فَأخبرَ أَن رَاحَتَه فِي الصَّلَاةِ كَمَا أخبرَ أَن قُرَّةَ عَينِه فِيهَا، فَأَيْنَ هَذَا من قَولِ الْقَائِلِ نصلي ونستريحُ من الصَّلَاةِ؟.
أَلَا فِي الصَّلَاةِ الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ أَجْمَعُ | لِأَنَّ بِهَا الْآرَابَ لِلَّهِ تَخْضَعُ |
وَأَوَّلُ فَرْضٍ مِنْ شَرِيعَةِ دِينِنَا | وَآخِرُ مَا يَبْقَى إِذَا الدِّينُ يُرْفَعُ |
فَمَنْ قَامَ لِلتَّكْبِيرِ لَاقَتْهُ رَحْمَةٌ | وَكَانَ كَعَبْدٍ بَابَ مَوْلَاهُ يَقْرَعُ |
وَصَارَ لِرَبِّ الْعَرْشِ حِينَ صَلَاتِه | نَجِيًّا فَيَا طُوبَاهُ لَوْ كَانَ يَخْشَعُ |
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي فرضَ الصلاةَ على العبادِ رحمةً بهم وإحساناً، وجعلها صلةً بينهم وبينه ليزدادوا بذلك إيماناً، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له خالقُنا ومولانا، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أخشى الناسِ لربِه سِراً وإعلاناً، الذي جعلَ اللهُ قُرةَ عينِه في الصلاةِ فنِعمَ العملُ لمن أرادَ من ربِه فضلاً ورضواناً، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاعلمْ -رحمَك اللهُ تعالى-: أن القلبَ هو الذي عليه مدارُ الخشوعِ، وكانَ من دعاءِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ".
رأى عمرُ بنُ الخطابِ -رضي الله عنه- رجلاً طأطأ رقبتَه في الصلاةِ، فقالَ: "يا صاحبَ الرقبةِ، ارفع رقبتَك ليسَ الخشوعِ في الرقابِ إنما الخشوعُ في القلوبِ".
ولذلك كانَ الشيطانُ حريصاً أن يحولَ بين المرءِ وقلبِه في الصلاةِ؛ كما جاءَ في الحديثِ: "إِذَا قُضِىَ التَّثْوِيبُ -أي الإقامةُ- أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ".
واستحضارُ القلبِ في الصلاةِ، هو كما قالَ ابنُ القيِّمِ -رحمه الله تعالى-: "أَنْ يَشْهَدَ قَلْبُكَ الرَّبَّ - تبارك وتعالى- مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُتَكَلِّمًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، بَصِيرًا بِحَرَكَاتِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، سَمِيعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، رَقِيبًا عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَأَمْرُ الْمَمَالِكِ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، نَازِلٌ مِنْ عِنْدِهِ وَصَاعِدٌ إِلَيْهِ، وَأَمْلَاكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ فِي أَقْطَارِ الْمَمَالِكِ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالْمِثَالِ، هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، بَصِيرٌ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا، وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ أَنْ تُقَاسَ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ شَبَهًا وَمِثْلًا، وَتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ تُشْبِهَ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ أَصْلًا، وَوَسِعَتِ الْخَلِيقَةَ أَفْعَالُهُ عَدْلًا وَحِكْمَةً وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَفَضْلًا، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ، أَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَآخِرٌ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، ظَاهِرٌ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، بَاطِنٌ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ مَدْحٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُهُ كُلُّهَا نُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَمُرْشِدٌ لِمَنْ رَآهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ إِلَيْهِ، لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا، وَلَا تَرَكَ الْإِنْسَانَ سُدًى عَاطِلًا، بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِقِيَامِ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِشُكْرِهَا إِلَى زِيَادَةِ كَرَامَتِهِ، تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَصَرَّفَ لَهُمُ الْآيَاتِ، وَنَوَّعَ لَهُمُ الدِّلَالَاتِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ، وَمَدَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَهْدِهِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَضَمَّنَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ: أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ".
إذا استشعرَ القلبُ بعضَ هذا، فإنه لن ينصرفَ عن صلاتِه طرفةَ عَيْنٍ، ولن يُشغلَه عن ربِّه شاغلٌ.
اللهم إنا نسألُك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً.
اللهم إنا نعوذُ بك من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن عينٍ لا تدمعُ، ومن دعوةٍ لا تُسمعُ.
اللهم إنا نسألُك البرَ والتقوى، ومن العملِ ما ترضى.
اللهم أعنّا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك.
اللهم اختم بالصالحاتِ أعمالَنا، واجعل إلى جنتِك مصيرَنا ومآلَنا.
اللهم أعز الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَ الشركَ والمشركينَ، وانصر عبادَك المجاهدينَ في سبيلِك، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أقم علمَ الجهادِ، واقمع أهلَ الشركِ والشرِ والفسادِ، وانشر رحمتَك على العبادِ، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180- 182].