الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
تشعبت همومنا في هذه الحياة الدنيا، وتعلقت القلوب بملذاتها وشهواتها، وتسابق الناس نحو حطامها، وتنافس أكثر الخلق على أموالها ومناصبها، واغتر الكثير بالجاه والقوة والسلطان، وكثرة الأولاد والأتباع، وظن الجميع أن هذا الطريق يؤدي إلى السعادة والطمأنينة وراحة البال ورغد العيش وتوالي النعم واستمرارها، ولكن الحقيقة خلاف ذلك؛ فقد نتج عن حب الدنيا والتعلق بها أن جعلناها الهم الأول في حياتنا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم الجواد، خلق الإنسان من نطفة وجعل له السمع والبصر والفؤاد، أنزل الغيث مباركًا فأحيا به البلاد، وأخرج به نبات كل شيء رزقًا للعباد، نحمده -تبارك وتعالى- حمد الطائعين العُبَّاد، ونتوكل عليه توكل المخبتين الزُّهَّاد، ونعوذ بنور وجهه الكريم من الوعيد بسوء المهاد، ونسأله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله المضل الهاد، المنزه عن الأشباه والأنداد، الفعال لما يريد ولا يقع في ملكه إلا ما أراد.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين من حاضر وباد، خير من دعا وهدى وبالخير العظيم جاد، المبعوث رحمة فينا وبشفاعته يغاث العباد، والمبشر بالأخوة والمحبة ونبذ الغل والأحقاد، أشجع الناس قاطبة إذا دعا داع الجهاد، وأكرم الناس طرًّا إذا عزّ مال أو قل زاد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما نادى للصلاة مناد، وكلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون إلى يوم التناد.
أما بعد:
عباد الله: تشعبت همومنا في هذه الحياة الدنيا، وتعلقت القلوب بملذاتها وشهواتها، وتسابق الناس نحو حطامها، وتنافس أكثر الخلق على أموالها ومناصبها، واغتر الكثير بالجاه والقوة والسلطان، وكثرة الأولاد والأتباع، وظن الجميع أن هذا الطريق يؤدي إلى السعادة والطمأنينة وراحة البال ورغد العيش وتوالي النعم واستمرارها، ولكن الحقيقة خلاف ذلك؛ فقد نتج عن حب الدنيا والتعلق بها أن جعلناها الهم الأول في حياتنا، أن كثرت الهموم وضاقت الأحوال وزادت المشاكل وتنوعت الصراعات بين بني البشر، وظهر الجشع والطمع، وفسدت الكثير من الأخلاق، وقلّ المعروف بين الناس، ودب الخلاف والنزاع والشقاق، وهذا ما حذّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم- فقال: "فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ". متفقٌ عَلَيْهِ.
ونسينا في غمرة ذلك الكثير من الواجبات والتكاليف الشرعية، وتساهل الكثير بالعبادات، ونسينا أن هناك آخرة وحسابًا وعقابًا وجنة ونارًا ولم نعمل لها، ونسينا في كثير من الأحيان أن هناك إلهًا عظيمًا -سبحانه وتعالى- يجب أن نستسلم لدينه ونحتكم لشرعة، وأنه مطّلع علينا ويراقب أعمالنا وتصرفاتنا، فزادت تعاستنا وشقاؤنا بسبب تقصيرنا وتفريطنا؛ لأن الهم الذي نحمله هو الدنيا فقط؛ قال تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَّفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَّقِنَا عَذَابَ النَّارِ أول?ئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّما كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيْعُ الْحِسَابِ) [البقرة: 200-201]، فهل من طريقة للخروج من حالة الضيق والقلق التي نعيشها اليوم؟! وهل من وسيلة نجد معها الراحة وانشراح الصدر وراحة الضمير؟! وكيف نجمع شتات أمرنا وتفرق شملنا ونصل إلى مبتغانا؟! كيف نأمن تقلب الدهر وسطوة العدو وتنكر القريب وشدة البلاء؟! قال الإمامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمَهُ الله-: "إذا أصبَحَ العبدُ وأمسى وليسَ همُّهُ إلاّ اللهُ وحدَهُ تحمَّلَ اللهُ عنه سبحانَهُ حوائِجَهُ كُلَّها، وحمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّهُ، وفرَّغَ قلبَهُ لمحبَّتِهِ، ولسانَهُ لِذِكْرِه، وجوارِحَهُ لِطاعَتِهِ، وإنْ أصبحَ وأمسى والدُّنيا همُّهُ حمَّلَهُ اللهُ هُمومَها وغُمومَها وأنكادَها، ووكَلَهُ إلى نَفْسِهِ".
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ". صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/67). وفي رواية: "من جعل الهموم هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك". ابن ماجه 257.
أيها المؤمنون عباد الله: هذا سعد بن خيثمة بن الحارث -رضي الله تعالى عنه- لما أراد أن يخرج إلى غزوة بدر جاءه والده خيثمة بن الحارث، قال: يا سعد: ألست بوالدك؟! قال: نعم، قال: اجلس مع أخواتك في البيت وأخرج أنا، قال: يا أبي: لو كان غير الجنة آثرتك، إن الأنصار يعلمون أنه ما من أهل بيت في المدينة أبر فيها ولد في والده مني. فاستهما، فوقعت القرعة على سعد ليخرج الولد، فيقول الوالد: يا سعد: آثرني، قال: يا أبي: لو كان غير الجنة لآثرتك، وخرج سعد بن خزيمة بن الحارث إلى غزوة أحد وقتل بها شهيدًا -رضي الله تعالى عنه-، وبعد عام ينطلق في أجواء المدينة صوت منادي رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- يدعو المؤمنين للنفرة إلى أحد، فيسارع خيثمة يلبي النداء، فيتلقاه الرسول القائد ببسمة مشفقة، ولكأن خيثمة يدرك ما في نفس رسوله القائد من إشفاق على شيخوخته وضعفه فيقول: يا رسول الله: والله لقد كنت حريصاً أن أنفر معك إلى بدر، لكنّ ولدي سعداً فاز فيها من دوني، فرزقه الله الشهادة والجنة، ولقد رأيته البارحة في نومي وهو على أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويلحّ علي يقول: يا أبتاه: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. وإني -يا رسول الله- قد أصبحت مشتاقاً إلى مرافقة سعد في الجنة، وقد كبرت سني ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فخلّ بيني وبين أحد، وادع الله لي أن يرزقني الشهادة فأدخل الجنة وألحق بولدي سعد، ويرق قلب الرسول القائد لخيثمة فيدعو له بما أراد.
وحين احتدمت المعركة كان خيثمة بن الحارث يصول ويجول كأنما هو في شرخ الشباب، وما زال يثخن بالكافرين الجراح ويثخنون به الجراح حتى تغلبه الجراح فيخر شهيداً في سبيل الله، ويلحق -بإذن الله- بولده سعد في الجنة يسرح في ثمارها وأنهارها. رضي الله عنهم أجمعين.
بل هذا عثمان -رضي الله عنه- في عام الرمادة وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع؛ جاءت تجارته من الشام، ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب، فجاءه تجار المدينة وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟! فقال عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا. فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟! فقال لهم عثمان -رضي الله عنه-: لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة!! فقالوا له: فمن الذي زادك وليس في المدينة تجار غيرنا؟! فقال لهم عثمان -رضي الله عنه-: لقد بعتها لله ولرسوله، فهي لفقراء المسلمين.
الله أكبر!! ماذا لو لم يكن يحمل هم الآخرة؟! لكانت فرصة ليربح أموالاً طائلة كما يفعل بعض التجار اليوم، الذين لا يرعون في فقير أو محتاج أو مسلم إلاًّ ولا ذمة، قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء 77].
إن الدنيا ليست بدار مقام، والناس يرحلون كل يوم إلى الآخرة، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل". رواه البخاري.
لقد كثرت همومنا اليوم فضاقت أحوالنا، ولم تشبع نفوسنا ولم نصل إلى مبتغانا وتشعبت همومنا، المال والمنصب والمركز الاجتماعي والأولاد والتجارة والوظيفة والزوجة والعدو والمشاكل والفتن والصراعات والحروب، وهم الحاضر والمستقبل، وهم الربح والخسارة وهم النجاح والفشل، هموم لا تعد ولا تحصى، وكان يمكن أن يكفيك الله هذه الهموم كلها بأن تحمل هم الآخرة ولقاء الله والشوق إلى جنته والخوف من غضبه وناره، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من جعل الهموم همّاً واحداً هم المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك". ابن ماجه 4106.
وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19]، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأصحابه يوماً: "تمنوا، فقال رجل منهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله -عز وجل-، فقال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله -عز وجل- وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين. قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله". صفوة الصفوة (1/367).
انظروا إلى الهم الذي يحملونه حتى في أمنياتهم، أنه هم الآخرة، قال تعالى: (إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57- 61].
دخل عمر الفاروق -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم على حصير قد أثّر على جنبه الشريف، فبكى عمر وقال: يا رسول الله: كسرى وقيصر -وهم على كفر- ينامون على الحرير والديباج وأحلى الفرش، وأنت رسول الله وحبيب الله وأول من تفتح لك الجنة وتنام على الحصير!! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟!"، قال: لا يا رسول الله، قال: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!". إسناده صحيح.
لقد عدّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحاب هَم الدنيا ممن يبغضهم الله تعالى، ووصفهم بأوصاف ينبغي لكل مسلم أن ينأى بنفسه عنها، روى البيهقي وصححه الألباني عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة"، عالم بالسياسة والاقتصاد والإعلام والرياضة والفن والقبائل وأنسابها، بل والجيوش وأسلحتها، وربما يعلم بعدد سكان الأرض وأين يتوزعون، إلى جانب أنه يحلل الأمور ويدرس التوقعات، عالم بدنياه جاهل بآخرته. والجعظري: هو الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع البخيل الشحيح.
عباد الله: أين صاحب هم الدنيا من ذلك الصحابي الذي تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله!! يوم أن دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الصدقة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لك بها سبعون ناقة مخطومة في الجنة". فأخذ يهلل ويكبر، كأنه يرى نوقه في الجنة. أو من صهيب الرومي لما لحقت به قريش، قالوا: جئت صعلوكاً فقيراً فآويناك وأغنيناك، أو بعد ما قويت واغتنيت تهاجر بمالك؟! والله لا ندعك، فقال: وإن تركت لكم المال؟! قالوا: نخلي عنك، فوصف مكان ماله لهم وفرّ مهاجراً إلى الله. وما يغني قليل وحفنة ومتاع من الدنيا أمام الهجرة إلى الله ورسوله، فلما وقف أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ربح البيع أبا يحيى"، وأنزل الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [البقرة:207]، أو حنظلة بن عامر لما سمع في ليلة عرسه: حيَّ على الجهاد، حيَّ على الجهاد، فينتفض من الفراش ويقوم فيجاهد في سبيل الله، فيُقتل في ليلة العرس، فيراه الصحابة وسط الصحراء القاحلة وجسمه يقطر من الماء، وليس هناك ماء، ولم ينزل مطر، ما باله؟! من أين أتى الماء؟! قال -عليه الصلاة والسلام-: "والذي نفسي بيده! لقد رأيته بين السماء والأرض تغسِّله الملائكة بصحاف من ذهب وفضة، بماء المزن". لقد خرج وهو جُنُب لما سمع داعي الجهاد، لم يتعلل بأنه عروس، بل خرج يريد الله والدار الآخرة، فطالما تمنّت نفسه أن ينتصر لدينه وعقيدته فكان ما تمنى.
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقد تشعبت همومنا عندما نسينا همَّ الآخرة، وضاقت أحوالنا في هذه الدنيا وقصرنا في أعمالنا وواجباتنا، ورأينا جرأة عجيبة على الدماء والقتل والظلم والتعدي على الحقوق والتسبب في أذى المسلمين بكل الوسائل، وأصبح الكثير يبتكر الوسائل والطرق التي تحقق رغباته وطموحه ولو على حساب الدين والقيم والأخلاق وأنين المرضى وآهات الثكلى، وهو بذلك يحمل همًّا شيطانيًّا وسلوكًا عدوانيًّا وهوى متبعًا في نفسه، ولن يحقق هدفه لأنه يصادم سنة الله، ولن يجمع الله شمله وسيجعل فقره بين عينيه ولو كان يملك كنوز الذهب والفضة، ولن تشبع نفسه، لقد تشعبت بنا الهموم حتى غدا أحدنا يستهلك من جهده وماله ووقته الشيء الكثير، لا ليخدم دينه ويرضي ربه ولكن ليفرق بين المسلمين ويثير العصبيات الجاهلية ويوقد نار الفتنة ليصل إلى مآربه وأهدافه، لقد تشعبت بنا الهموم فضاقت علينا الدنيا وضاقت أنفسنا وقست قلوبنا، وحمل المسلم الحقد على أخيه المسلم، واستطال في عرضه وماله دون وجه حق، لقد تشعبت بنا الهموم حتى أصبح الحاكم في بلاد المسلمين يتفنن في أذية شعبه وتوجيه السلاح إلى صدور رعيته ليضمن بقاءه على سدة الحكم دون رقابة على أعماله وتصرفاته، فسفكت الدماء، وهُجِّر مئات الآلاف من مدنهم وقراهم، ودُمِّرت المدن والقرى، وأهلك الحرث والنسل في كثير من بلاد المسلمين، لقد تشعبت بنا الهموم حتى أصبح الكثير منا يبحث عن رضا المخلوق وينسى رضا الخالق، وتشعبت بنا الهموم حتى فقدنا لذة العبادة وحلاوة الطاعة، وحلّت التقنية الحديثة من تلفاز وقنوات فضائية وإنترنت وغيرها محل القرآن والذكر وتربية النفس وبناء الربانية في القلوب.
لقد تشعبت بنا الهموم حتى أصبحت لقمة العيش والخوف من فوات الرزق هماً كبيراً يؤرّق الكثير، حتى لجأ الناس إلى الغش والخيانة والسرقة وشهادة الزور، وأصبح البعض يحصد من وظيفته أو عمله مئات الآلاف، وربما بنى له بيتاً واشترى سيارة وعنده رصيد في البنك، فهل وجد الراحة؟! وهل اطمأنت نفسه؟! كلا، ففقره بين عينيه، ولن يغنيه الحرام عن الحلال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ: تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ". رواه الترمذي (2466) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1359).
عباد الله: ألا فلنحرص على أن يكون هم الآخرة هو الهم الأكبر في حياتنا، فنعمق صلتنا بالله، ونتمسك بأحكام الدين، ونضبط سلوكياتنا وأخلاقنا بالشرع، ونقتدي برسول الله في سائر حياتنا، وعلينا أن نحسن العمل مع حسن الظن بالله والثقة به والتوكل عليه، ولنجعل همومنا وتطلعاتنا لمن فيه رضا ربنا وخدمة ديننا وتقديم النفع لمجتمعاتنا وأوطاننا، ولنسعَ جميعاً إلى تآلف القلوب ووحدة الصف والأخوة والتعاون والحب في الله.
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين.
هذا؛ وصلوا على نبي الرحمة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.