البحث

عبارات مقترحة:

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

العليم

كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

احتساب الأجر في جميع حياة الإنسان وبيان عظمة الدين

العربية

المؤلف أحمد بن ناصر الطيار
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. الإسلام دين شامل وكامل .
  2. أعمال دنيوية تتحول لعبادات بالنية الصالحة .
  3. المفاضلة بين الفقر والغنى .

اقتباس

فدينُ الإسلام جعل حياتنا كلَّها عبادةً بمُجرَّد النية الصالحة، والمقصدِ الحسن، فالمؤمن الحق لا تُلْهيه دُنياه عن أُخراه، ولا يُزَهِّدُه دينُه عن طلب معاشه والسعيِ له، فهو يتمثَّل الحكمةَ الْمَشهورةَ عن سلفنا الصالح: اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً. نعم، كُن مُستعدًّا للآخرة اسْتعدادًا تامًّا، بأداء الواجبات، والكفِّ عن الحأرَّمات، بحيثُ لو أنَّ الموتَ فاجأك لم تندمْ على ما أسْلفت.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنَّ هذا الدين دينٌ شاملٌ وكامل، جاء بما يَخْدِمُ العِبَادَ ويَعْمُرُ البِلادَ، ويهدي إلى الحقِّ وسبيلِ الرشاد.

ومن عظمة هذا الدين أنه لم يقتصر على تشريع العبادات والتكاليف، وما جاء ليحثَّ عليها ويُزهِّدَ في غيرها، بل جاءَ بما ينفع الإنسان في دينه ودُنياه، ورتَّب له الأجرَ والثَّوابَ في أعماله الدنيويةِ، إنْ نوى بها نيةً صالحة.

وهذه أمثلةٌ -يا أمَّة الإسلام- على أعمالٍ دُنْيويةٍ نعملها جميعاً، ونقوم ببعضها أو بأكثرها، وجاءت الشريعةُ السماويةُ السمحة بالحثّ عليها والقيام بها، ووعْدِ مَن قام بها بالأجر العظيم عند الله تعالى، إنْ نوى بها نيةً صالحةً يرجو بها ثواب الله.

فيا أصحاب المزارع والاستراحات: اسمعوا إلى ما قاله نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- في حقِّكم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، إلا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنهُ لَهُ صَدَقَةً، وَلا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ -أي يَنْقُصُه أحد- إلا كَانَ لَهُ صَدَقَةً". رواه مسلم. وفي رواية لَهُ: "فَلا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْساً، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلا دَابَّةٌ وَلا طَيْرٌ، إلا كَانَ لَهُ صَدَقةٌ إِلَى يَومِ القِيَامةِ".

قال الحافظ -رحمه الله-: "وَمُقْتَضَاهُ: أَنَّ أَجْرَ ذَلِكَ يَسْتَمِرُّ مَا دَامَ الْغَرْسُ أَوِ الزَّرْعُ مَأْكُولًا مِنْهُ، وَلَوْ مَاتَ زَارِعُهُ أَوْ غَارِسُهُ، وَلَوِ انْتَقَلَ مِلْكُهُ إِلَى غَيْرِهِ". انتهى كلامه.

فاحْتسبوا طلب الأجر حين تزرعون، واسْتحضروا النية الصالحة حين تبذُرون.

واسمعوا -يا أصحاب المواشي والإبل وغيرِها- إلى ما قاله نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- في حقِّكم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْهِجْرَةِ، أي عن وجوب تركِ الوطن، وهل يَتْرُكُ أهلَه وإبلَه ويُهاجرُ إلى المدينة، تأييداً وتقويةً للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسلمين، وإعانةً لهم على قتال الكفار، فَقَالَ له: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟!". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟!". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ -أي: فأنت على خيرٍ، وإن كنت من وراء البحار ولا يَضُرُّكَ بُعْدُكَ عن المسلمين- فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا". أي: لَنْ يُنْقِصَكَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكَ شَيْئًا حَيْثُ كُنْتَ. متفق عليه.

قال الحافظ -رحمه الله-: "فيه فَضْل أَدَاء زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَمُعَادَلَة إِخْرَاج حَقِّ اللَّهِ مِنْهَا لِفَضْل الْهِجْرَة، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةً، إِلَى أَنَّ اِسْتِقْرَارَهُ بِوَطَنِهِ إِذَا أَدَّى زَكَاةَ إِبِلِهِ، يَقُومُ لَهُ مَقَام ثَوَاب هِجْرَته وَإِقَامَته بِالْمَدِينَةِ". انتهى كلامه.

وقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأ خُفَّهُ مَاءً فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه: وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟! أَيْ: هل نُؤجَرُ فِي سَقْي الْبَهَائِم والْإِحْسَانِ إِلَيها؟! فقَالَ: "فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". متفق عليه.

فالْأَجْرَ ثَابِتٌ فِي إِرْوَاء كُلّ كَبِدٍ حَيَّةٍ، فاحْتَسبوا ذلك عند سقي أنْعامِكم ومواشيكم.

قال العلماءُ -رحمهمُ الله-: "الشغلُ بالبادية واتخاذُ الغنم مِنْ فعل السلف الصالح، الذي ينبغي لنا الاقتداء بهم، وإن كان في ذلك تركٌ للجماعات، ففيه عزلةٌ عن الناس، وبُعدٌ عن فتنِ الدنيا وزخرفِها". اهـ.

واسمعوا يا مَن رُزقتم أولاداً وذرِّيَّةً، وأنتم تستمتعون بهم، وتتنعمون بوجودهم بين أظهركم، وتُنفقون عليهم بفرحٍ ورغبة، اسمعوا ما قاله نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- في حقِّكم: "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ". رواه مسلم.

قَالَ أَبُو قِلَابَةَ -وهو أحد رُواةِ هذا الحديث-: "بَدَأَ بِالْعِيَالِ، وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا، مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ، يُعِفُّهُمْ وَيُغْنِيهِمْ".

وعن سعد بن أَبي وقاص -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إلا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ في في امرأتِك". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". متفق عليه.

فهذه الأحاديث -معاشر الآباء- دليلٌ على ثبوت الأجر على نفقة عيالكم، ولو كان ذلك واجباً في حقِّكم، لكن تأملوا قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا"، وفي الحديث الذي قبله: "تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ". حيث أكَّد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أهميَّةِ النية، وأنه لا يُؤْجر إلا إذا نوى بها وجه الله تعالى.

واسمعوا -معاشر المتزوجين- إلى ما قاله نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- في حقِّكم: "وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: "وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ، يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى جِمَاعِهِ لِأَهْلِهِ، بِنِيَّةِ طَلَبِ الْوَلَدِ، الَّذِي يَتَرَتَّبُ الْأَجْرُ عَلَى تَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَيَحْتَسِبُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ". انتهى كلامه.

ومِن عظمة هذا الدين وسُمُوِّه: أنَّه وعد مَن كفَّ أذاه عن الناس بالأجرِ والثواب؛ فقد شكا رجلٌ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يستطيعُ القيام بكثيرٍ من أعمال الخير، لضعفِه وقلَّةِ ماله، فهل تُغلق أبواب الصدقات والخير في وجهه؟! فأخبره النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببابٍ من أبواب الصدقة لم يخطر على قلب أحدٍ، فقال: "تَدَعُ النَّاسَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ". متفق عليه.

الله أكبر!! ما أعظمَ هذا الدينَ الذي مَنَّ الله به علينا!! فالجار حينما يكفُّ شرَّه عن جاره له صدقة، والذي يُمْسك لسانه عن غيبة الناس له صدقة، لكن قال العلماء: هذا الثَّوَابُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، لَا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ.

فدينُ الإسلام -يا أمة الإسلام- جعل حياتنا كلَّها عبادةً بمُجرَّد النية الصالحة، والمقصدِ الحسن، فالمؤمن الحق لا تُلْهيه دُنياه عن أُخراه، ولا يُزَهِّدُه دينُه عن طلب معاشه والسعيِ له، فهو يتمثَّل الحكمةَ الْمَشهورةَ عن سلفنا الصالح: اعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً.

نعم، كُن مُستعدًّا للآخرة اسْتعدادًا تامًّا، بأداء الواجبات، والكفِّ عن المحرَّمات، بحيثُ لو أنَّ الموتَ فاجأك لم تندمْ على ما أسْلفت.

واعمل في هذه الحياة ما تنتفع به أنت وغيرُك، من صناعةٍ وتجارةٍ ونفعٍ للآخرين، واسْتصْحِبِ النيَّةَ الصالحةَ في ذلك كلِّه، حتَّى تُؤْجَر في كلِّ عملٍ تعمله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: وقد يقول قائل: ما الأفضل: الزهد فيما أباحه الله من هذه النعم، أمِ التزودُ بها واستعمالُها؟! يُجيب على ذلك ابن القيم -رحمه الله- فيقول: "إنْ شغلته هذه النعمُ عن الله، فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله، وكان شاكرًا لله فيها: فحاله أفضل، والزهد فيها: تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينةِ إليها".

فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك: لم يضرّك ولو كَثُر، ومتى كان في قلبك: ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء.

قيل لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهداً؟! قال: "نعم، إنْ كان إذا زيد في ماله شكر، وإنْ نَقص شكر وصبر". اهـ.

نسأل الله تعالى أنْ يرزُقنا الإخلاصَ في القول والعمل، وأنْ يُوسِّعْ في أرزاقنا، ويُبارك في أعمارنا، إنه سميعٌ قريبٌ مٌجيب.