الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن الله -جل في علاه- كريم في تعامله مع عباده، يقبل القليل ويثيب عليه الكثير، لا يؤاخذك بالتقصير طالما أنك ختمت عملك بالتمام، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات"، ونحن في نهاية شهر الخير والبركة، حري بالمسلم أن يختم شهر بخير، فرمضان كله خير وبركة، وتزداد خيريته في آخره، فبادروا -رحمكم الله- شهركم فقد آذنكم برحيل وشيك.. إن الواجب على المسلم أن لا يغتر بعمله الصالح مهما كثر، وأن يسأل الله القبول، قال الإمام ابن بطة: "اعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ...
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا عباد الله:
إن الله -جل في علاه- كريم في تعامله مع عباده، يقبل القليل ويثيب عليه الكثير، لا يؤاخذك بالتقصير طالما أنك ختمت عملك بالتمام، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
ونحن في نهاية شهر الخير والبركة، حري بالمسلم أن يختم شهر بخير، فرمضان كله خير وبركة، وتزداد خيريته في آخره، فبادروا -رحمكم الله- شهركم فقد آذنكم برحيل وشيك.
معاشر المسلمين: إن الواجب على المسلم أن لا يغتر بعمله الصالح مهما كثر، وأن يسأل الله القبول، قال الإمام ابن بطة: "اعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَصِفَاتِهِمْ وُجُودَ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، وَدَوَامَ الْإِشْفَاقِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَشِدَّةَ الْحَذَرِ عَلَى أَدْيَانِهِمْ، فَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ مِنْ خَوْفِ السَّلْبِ، قَدْ أَحَاطَ بِهِمُ الْوَجَلُ، لَا يَدْرُونَ مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِهِمْ فِي بَقِيَّةِ أَعْمَارِهِمْ، خَائِفِينَ مِنْ حُلُولِ مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ فِي سُوءِ الْخَاتِمَةِ، لَا يَدْرُونَ عَلَى مَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ، قَدْ أَوْرَثَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَجَلَ فِي كُلِّ قَدَمٍ حِينَ يَقُولُ: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان: 34]، فَهُمْ بِالْحَالِ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا -عَزَّ وَجَلَّ- حَيْثُ يَقُولُ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60]، فَهُمْ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَيَخَافُونَ سَلْبَهَا وَالرُّجُوعَ عَنْهَا، وَيُجَانِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُمْ وَجِلُونَ مِنْ مُوَاقِعَتِهَا.
لقد كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبُ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: "مَاذَا سَبَقَ لَنَا".
وَكَانَ سُفْيَانُ يَشْتَدُّ قَلَقُهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْخَوَاتِيمِ، فَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَكُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: "أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ".
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُومُ طُولَ لَيْلِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، وَيَقُولُ: "يَا رَبِّ، قَدْ عَلِمْتَ سَاكِنَ الْجَنَّةِ مِنْ سَاكِنِ النَّارِ، فَفِي أَيِّ الدَّارَيْنِ مَنْزِلُ مَالِكِ بن دينار؟".
معاشر المؤمنين: كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ".
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ: "أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ، فَيَقُولُ: لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا".
وَسُئِلَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: هَلْ أَدْرَكْتَ مَنْ أَدْرَكْتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَخْشَوْنَ النِّفَاقَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.
وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: "مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ".
وسَمِعَ حُذَيْفَةُ -رضي الله عنه- رَجُلًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقُونَ لَاسْتَوْحَشْتُمْ فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ".
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: "مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا".
تَاللَّهِ لَقَدْ قَطَّعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لِعِلْمِهِمْ بِدِقِّهِ وَجِلِّهِ وَتَفَاصِيلِهِ وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ بِنُفُوسِهِمْ حَتَّى خَشَوْا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ.
عباد الله: لما نزل الْمَوْت بِسُلَيْمَان التَّيْمِيّ قيل لَهُ: أبشر فقد كنت مُجْتَهدا فِي طَاعَة الله تَعَالَى فَقَالَ: لَا تَقولُوا هَكَذَا فَإِنِّي لَا أَدْرِي مَا يَبْدُو لي من الله -عز وَجل- فَإِنَّهُ يَقُول سُبْحَانَهُ: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47]، قَالَ بَعضهم: عمِلُوا أعمالا كَانُوا يظنون أَنَّهَا حَسَنَات فوجدوها سيئات.
وعن محمد بن المنكدر: أنه بينا هو ذات ليلة يصلي بكى، وكثر بكاؤه ففزع أهله فتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء، فإذا هو يبكي، فقال: يا أخي ما الذي أبكاك قد رعت أهلك؟ فقال: مرت بي آية من كتاب الله عز وجل. قال: وما هي؟ قال: قول الله عز وجل: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما. فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرّج عنه فزدته. قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما.
قال الفضيل بن عياض: في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) قال: أتوا بأعمال ظنوها حسنات، فإذا هي سيئات. فسمع هذا يحيي بن معين فبكى واشتد بكاؤه.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، أقول قولي هذا....
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا أخي المسلم: إياك ثم إياك أن تثق في عملك وتأمن مكر الله، بل اعمل وقلبك وجل وأكثر من الدعاء علك تنجو، فمن صفات أهل الجنة ما حكى الله في قولهم: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور: 26- 28].
وكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، أخرج الترمذي في سننه من حديث أَنَسِ بن مالك -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ".
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أُمَّ العَلاَءِ الأَنْصَارِية -رضي الله عنها- دخلت على عُثْمَان بْن مَظْعُونٍ -رضي الله عنه- حين توفي، فقالت: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟"، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: "أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ، مَا يُفْعَلُ بِي" قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا.
قَالَ سعيد بْن جُبَير: "إِن العَبْد ليعْمَل الْحَسَنَة فَيدْخل بهَا النَّار وَإِن العَبْد ليعْمَل السَّيئَة فَيدْخل بهَا الْجنَّة؛ وَذَلِكَ أَنه يعْمل الْحَسَنَة فَتكون نصب عينه ويعجب بهَا، وَيعْمل السَّيئَة فَتكون نصب عينة فيستغفر الله وَيَتُوب إِلَيْهِ مِنْهَا".
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَثِقُ بِهَا وَيَنْسَى الْمُحَقَّرَاتِ فَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَلَا يَزَالُ مِنْهَا مُشْفِقًا حَتَّى يلقى الله آمنًا".
قال ابن القيم: وأما إن كان (أي: العبد) مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عَزَّ وجَلَّ، فإن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أن يزيغه أزاغه.
قال حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: "لَا تَغْتَرَّ بِمَكَانٍ صَالِحٍ، فَلَا مَكَانَ أَصْلَحُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَقِيَ فِيهَا آدَمُ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ الْعِبَادَةِ لَقِيَ مَا لَقِيَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ بَلْعَامَ بْنَ بَاعُورَا لَقِيَ مَا لَقِيَ وَكَانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَا تَغْتَرَّ بِلِقَاءِ الصَّالِحِينَ وَرُؤْيَتِهِمْ، فَلَا شَخْصَ أَصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقَائِهِ أَعْدَاؤُهُ وَالْمُنَافِقُونَ".
قال الحسن البصري: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ، وَفِي بَصَرِهِ، وَفِي لِسَانِهِ، وَفِي جَوَارِحِهِ، مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: بكى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، فَلَمَّا اشْتَدَّ البكاءُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُرَاكَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَأَخَذَ عُوداً مِنْ تِبْنِ الْأَرْضِ فَقَالَ: "وَاَللَّهِ لَذُنُوبِي أَهْوَنُ عِنْدِي مِنْ هَذَا، إنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ".
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور....
اللهم أحسن خاتمتنا، وتوفنا مؤمنين..