البحث

عبارات مقترحة:

المقتدر

كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...

المؤخر

كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

التعامل مع المكدرات

العربية

المؤلف خالد بن عبد الله المصلح
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. الدنيا دار ابتلاء وامتحان .
  2. الإنسان يتقلب في الدنيا من معاناة إلى معاناة .
  3. لا سعادة إلا بطاعة الله تعالى .
  4. كيف نواجه أسباب القلق والهم والكدر .

اقتباس

رغم ما نعيشه في هذا العصر من ألوان الانفتاح وأسباب الراحة، وأسباب الرغد في العيش وهنائه؛ إلا أن معدل الضجر والقلق وسائر ألوان النكد في ازدياد مطَّرد، وفي علو متتابع، وهذا يوجب على كل من رغب في الطمأنينة والسعادة أن يبحث عن أسبابها، وأن يطلب مواطنها الحقيقية، وأن لا يقف عند الصور والمناظر، بل يتعدى ذلك إلى الحقائق والجواهر، فرُبَّ إنسان تراه سعيداً يأتي وراء منظره البهي ألوان من الكدر والضيق.

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، فإن تقوى الله تعالى أعظم أسباب السعادة والفلاح والانشراح، فلا سبيل إلى تحصيل لذة الدنيا ونعيم الآخرة، إلا بسلوك سبيل المتقين الذين قال عنهم رب العالمين: (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس:62]، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، ومن حزبك المفلحين، ومن أوليائك الصالحين، يا ربَّ العالمين.

أيها الناس: إنَّ الله تعالى خلق هذه الدنيا وجعلها دار ابتلاء وامتحان، يبتلي الله تعالى فيها الخلق بألوان من البلاء، وأنواع من الاختبارات في السراء والضراء، في المنشط والمكره، في كلِّ ما يصيبهم وينزل بهم إنما هم في بلاء: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4].

إن الله -جل وعلا- جعل هذه الدنيا على هذا النحو؛ ليذكر الإنسان أنه ليس في دار مقام، ولا في دار نزول لا ارتحال بعده، إنما هي دار زائلة، سريعة الارتحال والانتقال، دار كثيرة آلامُها، عديدة همومها وغمومها، أسباب القلق والضجر فيها أكثر من أسباب الانشراح والسعادة والقرار.

إنَّ الإنسان في هذه الدنيا -مسلماً كان أم كافراً- في معاناة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، وهذا وصف لكل إنسان يعيش في هذه الدنيا.

جُبلت على كدر وأنت تريدها

صفواً من الأقذار والأكدار

ومكلـف الأيام ضـد طباعها

متطـلب في الماء جذوة نار

وإنما يتمايز الناس ويختلفون في تعاملهم مع هذه الحقيقة، في مقابلتهم لأسباب الضيق والقلق والكدر التي تحيط بهم من كل جانب، فمن الناس من يستسلم لهذه الأنكاد، وتلك الأكدار وتلك الغصص، فيكون ضحية لها تتحكم فيه وتتصرف، ومنهم من يحسن التعاطي معها بتخفيف آثارها وتجاوز آثامها وتخطي عقباتها؛ ليصل إلى حياة توصله إلى نوع من السعادة والطمأنينة.

رغم ما نعيشه في هذا العصر من ألوان الانفتاح وأسباب الراحة، وأسباب الرغد في العيش وهنائه؛ إلا أن معدل الضجر والقلق وسائر ألوان النكد في ازدياد مطَّرد، وفي علو متتابع، وهذا يوجب على كل من رغب في الطمأنينة والسعادة أن يبحث عن أسبابها، وأن يطلب مواطنها الحقيقية، وأن لا يقف عند الصور والمناظر، بل يتعدى ذلك إلى الحقائق والجواهر، فرُبَّ إنسان تراه سعيداً يأتي وراء منظره البهي ألوان من الكدر والضيق.

إنه لا سعادة إلا بطاعة الله تعالى، فأعظم أسباب السعادة هو الإقبال على الله -جل وعلا-، قال ربنا -سبحانه وبحمده-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، فبالإيمان الراسخ الذي يتبعه العملُ الصالح، يهون على العبد ما يلقاه من الغُصَص والأكدار والأقدار المؤلمة: "إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، فالمؤمن الصابر على الضراء، الشاكر في السراء هو في خيرٍ، في كل ما يطرقه من المسرات، وفي كل ما ينزل به من المكروهات، فكلُّ شيء بقضاء وقدر، قال ربكم -جل وعلا-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:49]، فعلام الضجر، وعلام القلق؟! (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:21].

فالمؤمن الذي يبصر قضاء الله تعالى وقدره، ويرى صنيع ربه، وأنه لا يقدم له إلا الخير، وأن ألواناً من الضيق تثمر خيراً عظيماً، ولو لم يكن فيها إلا حطُّ السيئات ووضع الخطايا والأوزار، وما أثقل الكاهل من الذنوب والخطيئات؛ لكان ذلك كافياً في أن يلتمس الإنسان مسرّة في مضرّة، وأن يلمح رحمة في نقمة، وأن يرى منّة في نازلة ومصيبة.

أيها المؤمنون: إنَّ من أعظم ما يعين الإنسان على مواجهة أسباب القلق والهم والكدر في هذه الدنيا: أن يعلم أنه لابد له من مقابلة ما يكره، فمن وطن نفسه على مقابلة ما يكره في هذه الدنيا، وأنها لا تكون على ما يحب في كل حال ومقام، بل لابد من كدر، ولابد من ضيق، ولابد من مخالفة ما يشتهيه الإنسان ويحبه؛ كان ذلك من أعون ما يهيئ نفسه على مقابلة ما يكره في نفسه، في ماله، في ولده، في وظيفته، في دنياه كلها، يأمل خيراً ويرقب ما يكره فيكون مستعداً لما ينزل به من الأزمات والضوائق، فما منَّا إلا وله من الكدر ما ينغص حياته.

إذا أنت لم تشرب مِراراً على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

فما منَّا إلا ويشكو هماً، وما منَّا إلا وعنده من الضائقة ما يكدر خاطره، ما يحتاج به إلى استعانة بالله تعالى، ومقابلة لهذا الضيق بما يزيحه ويهونه.

كل من لاقيت يشكو دهره

ليت شعري هذه الدنيا لمن

أيها المؤمنون: إنَّ مما يزيل القلق والضجر: أن يتخلى الإنسان عن الأوهام والخيالات، فربع ما يجري بل كثير مما يجري في حياة الناس من الأكدار والقلق سببه أوهام وخيالات لا حقيقة لها، بل يعيش في أنواع من الخيالات والأوهام ويعاني منها كثيراً، ولا سيما فيما يتعلق بما يستقبل، فإن كثيراً من الناس يدهمهم خوف المستقبل وما يكون في مجهول القادم، ما يجعله معاقاً عن أي إصلاح في واقعه، وعن أي تخطيط لمستقبله، فهو كالخائف الذي لا يمكن أن يسير خطوة إلى الأمام، بل هو في مكانه هلِع يترقب الشر من كل مكان، ومن كل حدب وصوب، أضاع حاضره وخيب مستقبله ولم يأمل خيراً، وقد قال لنا الله -جل وعلا-: (فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) [محمد:20-21]، أي: في الزمن الحاضر أولى لنا أن نشتغل بما فيه صالح قلوبنا وصالح دنيانا: (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد:21].

فإياكم -أيها الإخوة-، إياكم -أيها المؤمنون- والاستسلام للأوهام والخيالات، بل ثقوا بالله تعالى واركنوا إليه -جل وعلا-، فأعظم أسباب نيل المطالب والسلامة من المخاوف والمراهب: أن يكون الإنسان عظيم الثقة بالله -جل وعلا-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23].

اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أعنا على طاعتك، اشرح صدورنا بالقرب منك، واملأها بمحبتك وتعظيمك، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده في السراء والضراء، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

عباد الله: إنَّ خير ما يُعطاه الإنسان لمواجهة ما ينزل به من ألوان ما يكره في هذه الدنيا: الصبر، ذاك الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما في الصحيح من حديث أبي سعيد: "وما أعطي أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر"، خير ما تُعطاه أن تُعطى نفساً صبورة، تصبر على المكارة فتقابلها بلون من الثبات والثقة في أن الشدة لا تدوم، وأنه من المحال بقاء الشقاء، وقد قال العوام: لا بقاء لشقاء، وهكذا ينبغي أن يقابل الإنسان كل ما يكره.

فالشدة مهما طالت، والضيق مهما امتد زمانه فلابد لهما من زوال، فدوام الحال من المحال، وهذا الشعور يفتح أبواب الأمل، ويعين الإنسان على الصبر، والصبر به يتخطى المرء الأهوال والصعاب.

ومما يعين على حصول السعادة: أن يكون الإنسان على نفس صبورة، ومن يتصبر يصبره الله، فالصبر منه ما هو خُلُق جَبَل الله تعالى الإنسان عليه، ومنه ما هو كسب يعانيه الإنسان ليبلغ به منزلة الصابرين: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].

اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين يا رب العالمين.

إن مما يعين على مواجهة المصاعب والنوازل التي تنزل بالإنسان: أن يعطي كل مشكلة حجمها، فكثير من الناس تنزل به الصغيرة فيجعلها من أكبر الكبائر التي تمنعه من المضي في حياته والعيش في حياة مستقرة هانئة.

إن الإنسان إذا أعطى المشكلة حجمها فلم يبالغ فيها، ولم يهونها، بل أعطاها ما تستحق من العناية والاهتمام والتفكير؛ كان ذلك من أسباب سعادته وانشراحه، فمن الناس من يُهوِّن الصغير فيعمى، ومنهم من يهون العظيم فيسلى.

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

ولا شك أن تسلية المصاب بتهوين المصاب من أعظم أسباب تجاوز المشاكل واجتيازها.

أيها المؤمنون: إن الله أمرنا بذكره، وجعل ذِكْره من أعظم أسباب شرح الصدر ونيل المطلوب من الثبات على الخير والبر، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال:45]، ثم ذكر لنا سبباً من أسباب الثبات فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45].

إن أعظم ما يعين القلب على الثبات، ويقشع عنه ألوان الهموم والأكدار: أن يكون ملتذاً بذكر الله العزيز الغفار، ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، قال ربكم -جل وعلا-: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].

إن القلب يحتاج إلى سكون وإلى غذاء، إن غذاءه بذكر الله -جل وعلا-، وقد فرّطنا في ذكر الله، فمن منا يشكر الله كثيراً؟! إن أكثر الناس في ذكر قليل لربهم -جل وعلا-، في صلواتهم وعباداتهم، فكيف بأولئك الذين فرطوا في الصلوات ولم يقيموا حدود الله تعالى، إنهم حرموا أنفسهم نصيباً عظيماً من ذكر الله الذي تقوى به القلوب، وتحيا به الأبدان، وتسلم به النفوس من آفات تسلُّط الشياطين.

أيها المؤمنون: إن ذِكْر الله مفتاح عظيم أوصيكم به فلا تبخسوا أنفسكم منه، أكثروا من ذكر الله تعالى كما أمركم الله تعالى بذلك فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:42]، هكذا يكون المؤمن ذاكراً لله تعالى في الغدوِّ والعشي، في الآصال وفي البكور، في كل أوقاته وجميع أحواله، تسعد نفسه، ويطمئن قلبه، وينشرح فؤاده: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].

وأقل ذلك أن يحافظ الإنسان على الأذكار المشروعة في الصلوات وفي أدبارها، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والاستيقاظ منه، إن الإنسان إذا نام عقد الشيطانُ على قافيته ثلاث عقد، فإذا استيقظ -وانظر إلى أثر الذكر- فذكر الله وتوضأ وصلى انحلت عنه تلك العقد، وأصبح طيب النفس نشيطاً، وإذا كان على غير ذلك من الغفلة عن الله تعالى أصبح خبيث النفس كسلان.

اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أعذنا من وساوس الشياطين يا رب العالمين، اللهم اشرح صدورنا وأعنّا على ذكرك وشكرك والقيام بحقك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.