اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ونحن في زمن –عباد الله– كثرت فيه الشهوات والفتن، وتسللت إلى كثير من القلوب، حتى أُشْرِبتها؛ فصار أصحاب هذه القلوب لا يرون إلا الدنيا وشهواتها، ونَسَوْا الله والدار الآخرة، وقل النصح والموجِّه والمرشِّد لهم، وابتُلُوا بشياطين من الإنس يُغوونهم ويحسِّنون لهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد حق التقوى، واعتصموا بكتاب ربكم ونبيكم؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واستعدوا ليوم تُرْجَعُونَ فيه إلى الله، ثم تُوَفَّى كل نفس ما كسبت ولا تُظلَم شيئًا، قال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].
عباد الله: عندما تغيب المبادئ الإسلامية والأخلاق الكريمة من واقع المسلمين؛ فإن الحال تَسوء، والواقع يشين، ويجد الشيطان له مرتعًا خصيبًا في قلوب المسلمين، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق"، وإنَّ من أخلاق الإسلام الكريمة التي كان لها أثر عظيم في المجتمع ذاك الخُلُق الذي رسخ عند السلف الكرام، لا يترددون في تطبيقه ونشره بينهم، فسادت بينهم المودة والمحبة والصفاء، واختفى الغل والحقد والعداء، فكانوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وساروا في تطبيق هذا الخُلُق على المنهج الصحيح، على هدي النبي الكريم؛ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مما كان لتطبيق هذا الخُلُق والعمل به، الأثر البالغ الحسن والنتيجة السليمة.
أتدرون -عباد الله- ما هذا الخُلق؟ إنه خُلُق النصح للمسلمين؛ الذي بايع جرير بن عبدالله البجلي -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عليه؛ كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه عن جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- أنه قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
وفي لفظ آخر قال -رضي الله عنه-: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فاشترط عليَّ النصح لكل مسلم".
وهذا الخُلُق -عباد الله- لا يكون بين المسلمين حقيقة وواقعًا إلا إذا عمرت قلوبهم بخُلُق آخر، وهو أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ولا يكون هذا الخُلق أيضًا إلا إذا عمرت القلوب بالإيمان بالله -عز وجل- علام الغيوب، وبالإيمان باليوم الآخر الذي يُحْشَر الناس إليه، ففريق في الجنة؛ دار الأبرار، وفريق في السعير؛ دار الفجار.
إنَّ هذا الخُلُق -عباد الله- من أعظم الأسباب لاستقرار المجتمعات، وثبات الأمور، ومن أعظم الأسباب لصفاء القلوب وطهارتها، وسلامة الصدور ونقائها، بل إنه من أكبر الأدلة على محبة المسلم لأخيه المسلم إذا رُوعِيَ الهدي النبوي في هذا الخُلُق الكريم، فإنَّ الإنسان لا يخلو من العيوب، ولا يسلم من العيوب والقبائح، ولو تُرِكَ بلا نُصْح وتوجيه وتذكير لاستمر على معايبه وقبائحه، إن لم يزد في المعايب والقبائح؛ لأن الشيطان والهوى يُحَسِّنان للإنسان كل قبيح من قول أو فعل، وكل منكر من قول أو فعل، فإذا لم يُوَفِّق الله له أخًا ناصحًا وموجِّهًا فإنه يستمر في القبيح والمنكر.
ونحن في زمن –عباد الله– كثرت فيه الشهوات والفتن، وتسللت إلى كثير من القلوب، حتى أُشْرِبتها؛ فصار أصحاب هذه القلوب لا يرون إلا الدنيا وشهواتها، ونَسَوْا الله والدار الآخرة، وقل النصح والموجِّه والمرشِّد لهم، وابتُلُوا بشياطين من الإنس يُغوونهم ويحسِّنون لهم ما هم عليه من المنكرات والقبائح، فصار هذا الخُلُق –وأعني به خُلُق النصح– ضروريًّا للمسلمين في هذا الزمان؛ لأن المُتَخَلِّقين به في هذا الزمان قليل.
ولو لم يأتِ في هذا الخُلُق ما يدل على أهميته في حياة المسلمين إلا أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترطه على هذا الصحابي الجليل جرير بن عبدالله -رضي الله عنه- لكان كافيًا، فكيف وقد تضافرت النصوص من كتاب الله الكريم وسُنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- على الحثّ عليه، والأمر به، فلا غرو أن يحتاج المسلمون في هذا الزمان بالذات إلى هذا الخُلُق، يعملون به ويتأدبون بالآداب الشرعية في تطبيقه.
فمن تلك الآداب: أن يتأكد المسلم الذي يريد النصح أن أخاه قد وقع فيما يُوجِب نُصْحه وإرشاده وتنبهه، فلا يبادر بنصيحته قبل ذلك، حتى لا ينقلب النصح تُهمة وتجريحًا.
ومنها: أن يكون النصح سرًّا بين الناصح والمنصوح ولا يكون علانية؛ لا سيما إذا كان المنصوح على قدر من الأهمية، مثل كونه كبيرًا في قومه أو مسئولاً أو عالمًا؛ لأن النصح سرًّا يدل دلالة واضحة على أن الناصح يريد الخير والهدى للمنصوح، ولا يريد الشر والضلال له، ويريد ستره ولا يريد فضيحته.
وقد ورد عن أحد السلف أنه قال: "من نصحك علانية فقد فضحك"، وقال أحدهم: "النصح إن كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وإن كان في السر فهو شفقة ونصيحة".
ومن تلك الآداب: أن يكون النصح باللين والرفق لا بالعنف والقوة، فإنَّ الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزِعَ من شيء إلا شانه؛ كما ثبت ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم-، ولأن القوة لا تُستعمل في كل موطن.
ومن تلك الآداب: أن يُمَهِّد لنصحه بما يليِّن قلب المنصوح، ويجعله يتهيأ لما ستنصحه به، فلا تفاجئه بالشيء الذي ستنصحه فيه.
ومنها: أن يختار الوقت المناسب والحال المناسبة للنصح، خصوصًا إذا كان المنصوح ذا شأن وقيمة في المجتمع، فإذا ما رُوعِيَتْ هذه الآداب وغيرها في هذا الخُلُق فإنه يُؤْتِي ثماره الطيبة ونتائجه الحميدة، بإذن الله -عز وجل-.
ونحن -عباد الله- نرى أن المسلمين في هذا الزمان نحو هذا الخُلق إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهم الأكثرون تركوا هذا الخُلُق، واستبدلوه بخُلُق سيئ يسمى عندنا بخلق المجاملة؛ فهذه المجاملة أصحبت سائدة في مجتمعنا عند كثير منا، ولا سيما مع الكبراء والعظماء، وتقضي هذه المجاملة السكوت عن المنكرات والقبائح التي تلبَّس بها مَن تلبَّس رغبةً في الحصول على مالٍ أو منصبٍ أو جاهٍ، أو غير ذلك من أغراض الحياة الدنيا، مما جعل المنكرات تتفشى في الناس وتكثر في المجتمعات.
والقسم الثاني: وهم الأقلون من تخلقوا بخُلُق النصح، وساروا فيه على هدي السلف الصالح، فهم قائمون بالنصح، ولكنهم يخذلون ممن يشار إليهم بالعلم والفضل الذين تركوا هذا الخُلُق، ووقعوا في خُلُق المجاملة، واستحسان ما عليه الناس، وخصوصًا الكبراء وأهل الجاه من القبائح والمنكرات.
والقسم الثالث: مَن تخلقوا بهذا الخلق، ولكن أساءوا في تطبيقه ولم يسيروا فيه على النهج النبويّ، فأفسدوا أكثر مما أصلحوا، ومما زاد الطين بِلَّة، والأمر تعقيدًا، ما تبثه وسائل الإعلام من القنوات الفضائية المفسدة، ما فيه إشادة بالأخلاق الفاسدة ورفع لها، وتهوين للأخلاق الفاضلة وخفض لها، حتى صارت تلك القنوات مدارس لكثير من الناس فيما يهدم العقيدة الصحيحة، والخُلُق الفاضل، وحتى صارت وسائل تربية على الفساد وعلى الأخلاق الفاسدة الدنيئة، وعلى كثير من الأمور التي تُدَنِّس الشرف وتدوس على الكرامة.
فكان لا بد من هذا الخُلق الكريم خُلق النصح لكل مسلم، وكان على العلماء والدعاة ووسائل الإعلام المتنوعة، بيان هذا الخلق والحثّ عليه والدعوة إليه ونشره بين الناس، وأن يكون العلماء والدعاة إلى الله قدوة للناس في هذا الخُلُق، وأسوةً لهم في تطبيقه على المنهج الصحيح، والله -عز وجل- متى أخلص العبد له في هذا الخُلُق، وقصَد منه الخير للناس، واتبع فيه الهدي النبوي، فإن الله -عز وجل- سيلين له القلوب، ويجعلها تقبل نصحه، وتترك ما هي عليه من المنكرات والقبائح، فلا بد -عباد الله- من التخلُّق بهذا الخلق ومجاهدة النفس عليه، وقد قال -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الله: خُلُق النصح من الأخلاق الفاضلة والمهمة في حياة المسلمين؛ فالواجب على المسلمين القيام بهذا الخُلُق على الهدي النبوي، حتى تصلح لهم الحال ويصلح لهم المآل، وليحذروا من التفريط في هذا الخُلُق، والإعراض عنه فإنَّ ذلك وَصْمَة عار في جبين أمة الإسلام، ونذير شؤم يوشك أن يحل بديارهم.
وصلوا وسلموا...