المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
لما بَعُدَ الناس عن معنى "الله أكبر" وقعوا في آلام وأحزان وأمراض لا انتهاء لها، ومن جملة ما وقعوا فيه -وهذا شائع وذائع- الهَمُّ، عياذًا بالله، الهمُّ الناتج عن التعلق بالدنيا واتخاذها معشوقة وخليلة وهدفًا وغاية، ولو لبسوا لباس القناعة لما وصلوا إلى هذه الفظاعة. إنها القناعة، من أعظم آثار الاستخلاف تحت ظلال اسم الله الكبير...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا عُمًا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربًا وعجمًا، وأزكاهم محتدًا ومنمًا، وأشدهم بهم رأفة ورحمًا، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحُكمًا، فآمن به وصدّقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: إذا عَزَبَ لُبُّك، وتاه قلبك، وتعلقت بالدنيا نفسك، فهذه أضاليل وأباطيل، فهذه أضاليل قد حُفَّت بأباطيل، ومن لا معرفة لديه ولا حنكة عنده لا يفرّق بين العرف والنكر، ولا بين اليوم والغد، ولا بين الثابت والزائل، ولا بين الباقي والحاصل، ولا بين الصاعد والنازل، ولا بين الجاد والهازل.
ومن أحسّ ذلك فليسارع بالفرار إلى محل لا يعتريه منه ملل، ولا ينتابه فيه علل، حيث ينسى فيه الحزن حِسًّا ورسمًا، ويعانق فيه الفتح تخليصًا ووسمًا، إلى عالم روحي، السلطة فيه مصدرها "الله أكبر"، الله أكبر من همومك، الله أكبر من غمومك، الله أكبر من كل تخوفاتك وتوجساتك، الله أكبر من كيد القريب والبعيد، الله أكبر ممن أسر القول وجهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار.
فرّ إلى رياض الأنس حيث يحكمك المولى فتحكم، ويدعوك إلى حضرته فتنعم، حيث لا يلتهب لك في صدرك نفس، ولا يخمد بين يديك أنس، إنها ظلال "الله أكبر" التي تنعش وتزكّي وترقي، وتخصص وتخلص.
أيها الأحباب: لما بَعُدَ الناس عن معنى "الله أكبر" وقعوا في آلام وأحزان وأمراض لا انتهاء لها، ومن جملة ما وقعوا فيه -وهذا شائع وذائع- الهَمُّ، عياذًا بالله، الهمُّ الناتج عن التعلق بالدنيا واتخاذها معشوقة وخليلة وهدفًا وغاية، ولو لبسوا لباس القناعة لما وصلوا إلى هذه الفظاعة.
إنها القناعة -يا عباد الله- من أعظم آثار الاستخلاف تحت ظلال اسم الله الكبير، والقناعة لغةً كما يقول الراغب يقال: قنِع- بكسر النون- يقنع قناعة وقنعانًا إذا رضي، وقَنَعَ -بفتح النون- قُنوعًا إذا سأل، وقال بعض أهل اللغة: أصل هذه الكلمة من القناع وهو غطاء الرأس، فقنع أي لبس القناع ساترًا لفقره، لا يظهر فقره للناس.
وقنَع إذا رفع قناعه كاشفًا رأسه بالسؤال، وكلمة "القانع" من الأضداد، تحتمل المعنى ونقيضه، قال الأصمعي: "القانع: الراضي بما قسم الله، ومصدره القناعة".
والقانع كذلك السائل ومصدره القنوع، إذًا الاختلاف في المصدر، يقول الأصمعي: "رأيْتُ أعْرَابياً يَقُولُ في دُعَائِه: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ من القُنُوعِ والخُنُوعِ والخُضُوعِ".
قال عدي:
وما خُنْتُ ذا عَهْد وأبْتُ بعَهْدِه | ولَمْ أحْرِمِ المُضْطَرَّ إذ جاءَ قَانِعًا |
أي سائلاً.
أما تعريفه في الاصطلاح، قال ابن السني -رحمه الله-: "الرضا بالقسم". أي بما قسم الله.
وقال المناوي: "القناعة عرفًا: الاقتصار على الكفاف، وقيل كذلك: هي سكون الجأش عند عدم المألوفات".
وهذا تعريف دقيق عظيم يعني أن القناعة الحقيقية هي سكون قلبك عند تغير حالك من الغنى إلى ضده، أو من السلطة والجاه إلى اللا سلطة واللا جاه، سكون قلبك عند التغيرات، وهذا أمر في غاية الأهمية، فكم قد سمعنا من انتحارات وانهيارات وأمراض، والسبب تغير الحال.
أيها الكرام: ألقى أحد كبار الدكاترة رسالة في الجمعية الأمريكية للأطباء والجراحين قال فيها: "درست حالات مائة وستة وسبعين رجلاً من رجال الأعمال أعمارهم متجانسة -متقاربة- في نحو الرابعة والأربعين، فاتضح لي أن أكثر من ثلث هؤلاء يعانون واحدًا من ثلاثة أمراض، تنشأ كلها عن توتر الأعصاب، وهي: اضطراب القلب، وقرحة المعدة، وضغط الدم".
يقول: "أهذا هو ثمن النجاح؟! هل يعد ناجحًا ذاك الذي يشتري نجاحه بقرحة في معدته، ولغط في قلبه؟! وماذا يفيده المرض إذا كسب العالمَ أجمع وخسر صحته؟!".
أيها الأحباب الكرام: لو أن أحدًا ملك الدنيا كلها ما استطاع أن ينام إلا على سرير واحد، وما وسعه أن يأكل أكثر من ثلاث أو أربع وجبات في اليوم في أحسن الأحوال، فما الفرق بينه وبين العامل الذي يحفر الأرض؟! لعل العامل أشد استغراقًا في النوم وأوسع استمتاعًا بطعامه من رجل الأعمال ذي السطوة والجاه.
على ضوء هذه الصيحات المحزونة نحب أن نذكر بعض أحاديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذم هذا التكالب والترهيب من عقباه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من جعل الهمَّ همًّا واحدًا كفاه اللهُ همَّ الدنيا، ومن تشعَّبَتْه الهمومُ لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أوديةِ الدنيا هلَك". رواه الحاكم وغيره، وحسنه الألباني. أي من جعل الآخرة همه وغايته ومناه تولى الله عنه أمر الدنيا فأغناه وكفاه وآواه، ومن تشعبت به الطرق والهموم، له في كل ميدان هم، في الأموال، في المشاريع، في أنواعها، في السلطة، في البحث عن الكراسي، في غفلة عن الآخرة، هذا يبقى في غفلته وغمه ونكده حتى يهلك في وادٍ أو طريق من طرق الدنيا التي عبدها وجعلها أكبر همه ومبلغ علمه.
هذا اللون من التوجيه النبوي يقصد به بث السكينة في الأفئدة، واستئصال جراثيم الطمع والتوجع التي تطيل لغوب الإنسان وراء الدنيا، وتحسُّره على ما يفوته منها.
وفي ذلك يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ، وجمعَ لَه شملَهُ، وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ". رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني.
حديث عظيم من نبي عظيم -صلى الله عليه وسلم-، من جعله نبراس حياته ذاق طعم الراحة، وتولت عنه الهموم والأحزان، ووضع رأسه على الوسادة خلي البال، وأحس بطعم الحياة، حياة الانعتاق التي لا استعباد فيها ولا ذل ولا حرص ولا طمع، إنما هي القناعة والرضا والاطمئنان، فما أذل أعناق الرجال إلا الحرص، وما سلك بهم أودية الشقاء إلا الحرص، أقصد الحرص على الدنيا والتهارش عليها.
يقول ابن الرومي -وما أجمل ما قال-:
قرّب الحـرص مركبًا لشقي | إنما الحرص مركب الأشقياء |
مـرحبًا بالكفاف يأتي هنيئًا | وعلى المتعبات ذيل العفاء |
ضلة لامرئ يشمر في الجمع | لعيـش مشمـر للفنـاء |
دائبًا يكنز القنـاطير للوارث | والعمـر دائب في انقضاء |
يحسب الحظ كـله في يديه | وهو منه على مدى الجوزاء |
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلحَ من أسلمَ، ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعَه اللهُ بما آتاهُ". رواه مسلم.
حديث عظيم جامع مانع ماتع: "قد أفلح"، "قد" للتحقيق، تحقق الوقوع، فالفلاح متحقق بلا ارتياب لمن أسلم ورزق الكفاف وأعطي القناعة، والفلاح هنا يشمل الدنيا والآخرة، أفلح هنا أي في الدنيا براحة البال وسلامة الجسد وعدم السعي في تكثير المال، خصوصًا إذا دخل في هذا السعي مال حرام من ربا وغش وغير ذلك.
وأفلح في الآخرة بخفة الحمل والسبق إلى الجنة، وهذا سيد ولد آدم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عَرَض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن.
تجسيد لمعنى من المعاني الراقية للعبودية: الافتقار إلى الله في كل الأحوال، في حال الوجد وفي حال الفقد، في حال الوجد شكرًا وثناءً، وفي حال الفقد افتقارًا ورجاءً، وهذه هي العبودية الحقة المتجردة.
ويحسم سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسألة تعريف الغنى حسمًا كاملاً لا مكان فيه لشك ولا ريبة، وذلك حين يُعرِّف حقيقة الغنى، ماهية الغنى الذي يطمح الكل إليه اليوم، الغنى الذي أودى بالناس في أودية الصراع والاقتتال، حتى هجر الأخ أخاه، والصديق صديقه، وقطعت بسببه الأرحام، وتأصلت العداوات، يقول -صلى الله عليه وسلم- مبينًا المعنى الراقي والحقيقي للغنى: "ليس الغنى عن كثرة العرض -يعني كثرة المتاع والأراضي والعمارات والأرصدة- ولكن الغنى غنى النفس". رواه البخاري ومسلم.
وزبدة الحديث أن الغنى المحمود غنى النفس وشبعها وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبًا للزيادة لم يستغن بما معه، دليل على أنه لا يحس بالغنى ويريد المزيد، فليس له غنى أبداً.
وما أجمل أبا العتاهية وهو يقول:
نعى نفسي إليَّ مـن الليـالي | تصرفهـن حالاً بعـد حال |
فما لي لست مشغولاً بنفسي | وما لي لا أخاف الموت ما لي |
لقد أيقنـت أني غيـر باقٍ | ولكـني أرانـي لا أبـالـي |
تعالى الله يا سلم بن عمـروٍ | أذل الحرص أعناق الرجـال |
هب الدنيا تساق إليك عفوًا | أَليسَ مصـيرُ ذاك إِلى زوالِ |
فما ترجو بشيءٍ ليـس يبقى | وشيكـاً مـا تغيرهُ الليالي |
جعلني الله وإياكم ممن ذُكّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًا وجهرًا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تكفل بعباده فقال: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)، وأحاط بكل شيئًا علمًا فقال: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)، أحمده على فضله وعطائه، وأشكره على إحسانه ونواله، وأصلي وأسلم على سيد العباد وإمام الزهاد، اللهم صلّ عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
معاشر الصالحين: في مواريث النبوة أحاديث كثيرة من هذا النوع الرضي الهادئ، وهي حكم بالغة إذا سيقت في مجالها ووضعت في مواضعها، هذه الأحاديث العظيمة يراد منها كفكفة الجهود المجنونة اليوم في معركتنا مع المال، وضبط عواطف البشر وراء مطالب الحياة، هذه الأحاديث يراد منها إخراجنا مما وقعنا فيه من أضغان، ونسيان للفضائل، وحرق للصداقات.
إن المدنية الزائفة التي نعيشها اليوم حوّلت الإنسان الرقيق المخلوق الوديع إلى آلة لا تتوقف، أو إلى حيوان مفترس يلتهم كل ما يجده في طريقه، لا يبالي بحلال ولا بحرام من أجل الدنيا، من أجل القصور، من أجل المناصب والكراسي والسلطة، حتى تحولت مناكب الأرض إلى مسبعة متهارشة.
إن من حق الدنيا علينا أن نعمل فيها وأن ننال من ضروراتها ومرفهاتها ما يحفظ حياتنا ويسعدها، وقد يكلفنا هذا العمل جهدًا شاقًّا يتصبب معه العرق ويطول فيه العناء، ولكنّ هذا الحق المقرر وهذا الجهد لبلوغه لا يجوز أن يميلا بنا عن الجادة أو يزيغا بنا عن الرشاد، فالمال إذا طلبناه فلكي ننفقه لا لكي نختزنه، وإذا أحببناه وحصّلناه فلنبذله فيما يحقق مصالحنا ويصون حياتنا، ويرفع الضيم عن إخواننا من الفقراء والمحاويج.
ومن الحماقة أن يتحول المال إلى هدف مقصود لذاته تذوب في جمعه المهج، وترتخص العافية، وتتكاثر الهموم وتجتذب الأمراض.
إن لعشق المال ضراوة تفتك بالضمائر والأبدان، وتورث الذلة والهوان، وانظر ما يسبب فيه العشق الزائل للمال وخوف فواته؛ يقول أحد المفكرين العالميين: "من الحقائق المعروفة أنه عندما تهبط قيمة الأسهم في البورصة ترتفع نسبة السكر في البول والدم بين المضاربين".
هذه صورة بشعة تظهر الحضيض الأسفَّ الذي وصلت إليه البشرية اليوم من الجشع والطمع وعدم الرضا والقناعة، أي علاج لهذه الحال أكرم من قول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع". متفق عليه.
هذا الحديث يقول لنا: إن أفضل الناس من يأخذون المال بسماحة وشرف، فإذا تحوّل عنهم، إذا فتقروا، إذا تحوّل هذا المال عنهم وتركهم لم يشيعوه بحسرة، ولم يرسلوا وراءه العبرات والدموع؛ لأن بناءهم النفسي يقوم وحده بعيدًا عن معايير المكاثرة ورذائل النهم والتوسع، إنهم يسيرون تحت أنوار هديه وقوله تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ).
إن التهارش والتصارع على المال ومحاولة تحصيله بأي وجه، وعدم القناعة والرضا، ومحاولة العيش فوق القدرة والمستطاع؛ كل ذلك مرده إلى أمرين: عدم الثقة بالله، وعدم تذكر الآخرة، فمن قرأ قول الله: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)، ومن قرأ قول الله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات:22، 23]، ومن قرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن روح القدس -أي جبريل- نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته".
من تعامل مع هذه النصوص بقلبه وفكره ويقينه وإيمانه خرج حتمًا من حالة الاضطراب المتولدة عن النهم والحرص على الدنيا، وأيقن يقينًا جازمًا لا ريبة فيه أن رزقه محدد سلفًا، وأنه لن يغادر هذه الدنيا أبداً حتى يستكمله ويستوفيه، فيرتاح عندها قلبه، وتستكين جوارحه، وهذه ثمار الثقة بالله.
الأمر الثاني الذي تسبب في وصول الناس إلى ما هم عليه اليوم من صراع على الدنيا وتهارش وتكالب عليها -إلا من رحم الله- هو: نسيان الدار الآخرة، وعدم تذكر مشاهدها بدءًا بالاحتضار وسكرات الموت والموت والقبر، ومرورًا بالبعث والحشر والميزان والصراط.
وتأمل معي قول الله تعالى وهو يصف حال المطففين الذين يغشون في المكيال والميزان طمعًا وبشعًا وغشًا، وكيف رد القرآن عليهم: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 1- 6].
ربطهم مباشرة بالآخرة، وكأنه -جل شأنه- يقول لهم: أنتم تغشون اليوم في الميزان، وأمامكم ميزان لا غش فيه؛ يحصي أعمالكم صغيرها وكبيرها، دقها وجلها.
فنسيان الآخرة -أيها الأحباب- يفتح الباب على مصراعيه للطمع والجشع والتهارش، وإني لأعجب أشد العجب كيف يستلذ بالمال من كسبه من الربا؟! كيف يستمتع بالمال مِنْ كسبه من بيع الخمور والمخدرات والدخان والمسكرات والمحرمات؟! كيف يستمتع بالمال من غصبه من الناس آكلاً لحقوقهم ناصبًا لهم المصايب والأفخاخ؛ لأن من الناس من يتقنون هذا الأمر، وهو وضع الأفخاخ لإيقاع الناس من أجل أن يتمتع هو وأولاده، كيف يتمتع بالمال من ولاّه الله سلطة وهو يستغلها لابتزاز الناس وأكل أموالهم؟!
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟! ألا يوقن أولئك أنهم موقوفون بين يدي ربهم؟! ألم يعلموا من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به"؟! ألم يبلغهم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه".
يا له من موقف عظيم تهتز له الأفئدة، حين يسألك جبار السماوات والأرض عن مالك: من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟! فهل أعددت الجواب يا من تحارب الله بالربا؟! ويا من تتجرأ عليه ببيع الحرام؟! ويا من تنسى رقابته بأكل أموال الناس واستغلالهم والضحك عليهم؟! قبّح الله المال والدنيا إذا حُصِّل بهذه الطرق، ولله در القائل:
هـون عليـك فـإن ا?مر مقدور | وكل شيء من ا?شياء مسطور |
والرزق والخلق وا?جال قد قسمت | وأحكمتها وزمَّتهـا المقـادير |
فليس يقـدر مرءٌ صـرف واحدةٍ | منهـا ولو كثـرت منه التدابير |
بعض الناس يريدون تحصيل المال والقصور والمركب الهني بأية وسيلة، فينطلقون دون وعي ودون رعي ودون سعي مشروع، إنما هو احتيال وكذب وتزوير، وكل هذا من أجل ماذا؟! من أجل دنيا زائفة زائلة فانية، من أجل دنيا الأحزان، دنيا الأمراض والأوجاع والأسقام وفراق الأحباب.
فالرزق لا يأتي بالحرص، نعم السعي مطلوب، والعبد مأجور في سعيه وفي بحثه عن الرزق، وهو من الجهاد بلا شك، ولكن العجلة مذمومة، واليقين في الله رازقًا ومدبرًا هو عين الإيمان، والقناعة لباس الصادقين وشعار العارفين، ولا تظنن -رحمك الله- أن العز يكون بالمال والجاه، فإن العز في تقوى الله، فهذا صفوة الخلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقول زوجه عائشة -رضي الله عنها-: "لقد مات رسول الله -صلى عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين".
لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين، ونحن نأكل أصناف الطعام وأنواعها مرات ومرات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان لي مثلُ أحُدٍ ذهبًا، ما يسرُّني أن لا يمرَّ عليه ثلاثٌ وعندي منه شيءٌ، إلَّا شيءٌ أرصُدهُ لدَينٍ". رواه البخاري ومسلم.
يستفاد من هذا الحديث بعد زهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الفريد أنه يستدين -صلى الله عليه وسلم- كسائر الناس، وأنه -صلى الله عليه وسلم- حريص على أداء الدَّين، وهو في ذلك يرسل رسائل لأمته في باب الدَّين إلى أولئك الذين يأكلون أموال الناس تحت غطاء السلف والدين، وما هي إلا حيلة من الحيل للإيقاع بالناس.
والدَّين -أيها الأحباب- يبقى دينًا، إن لم تؤدِّه هنا أديته هناك يوم القيامة، لا مفر، لن تنفعك حيلتك ولن تنجيك وسيلتك، فإما أداء هنا يرد الاعتبار، وإما تماطلاً وسرقة يؤديان إلى النار، عياذًا بالعزيز الغفار.
أيها الأحباب الكرام: من عرف الله قنع، ومن غفل عنه طمع، من تذكّر القبور وأهلها علم أن الدنيا لا تستحق كل هذا الجشع، لا عيب أن تسعى إلى المال إذا كنت تحب المال والمشاريع والبيوت والعمارات، ولكن العيب والحرام أن تشتغل بذلك عن صلاة الفجر وسائر الصلوات في المسجد مع الجماعة، العيب ألا يكون لك ورد من القرآن يوميًا تعيد من خلاله بناء نفسك، العيب أن تكون من أهل الربا، فحاسب نفسك اليوم قبل أن تحاسب غدًا.
اللهم أصلح أحوالنا...