المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إذا لم يكن الإيمان هو الأساس، والعقيدة الإسلامية الصحيحة هي القاعدة، عند ذاك تفتقد البشرية مقومات الحياة الطيبة، وأسباب الأمن والطمأنينة، ووسائل الكرامة والفلاح، وبتحقيق الإيمان والعمل الصالح؛ تسعد البشرية وتنعم في حياتها، فلا قلق ولا اضطراب، ولا خوف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا داراً للابتلاء والاختبار، ومحلاً للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين، داراً لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، وداراً لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- اتقوا لله تعالى بعمل الصالحات واجتناب المحرمات، واعلموا -رحمكم الله- أن الحياة الطيبة الآمنة والعيشة الراضية السعيدة لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح.
عباد الله: كلنا يسعى إلى أن يحيى حياة طيبة، ويبحث عنها، فيضل طريقها، ويبتعد عنها، فهو لا يعلم أن الحياة الطيبة -على الحقيقة- هي حياة القلب ونعيمه, وبهجته وسروره بالإيمان بالله، ومعرفته ومحبته, والإنابة إليه, والتوكل عليه. فلا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة. قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، وهي منقادة له، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، فوعد سبحانه من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالأجر العظيم والثواب الجزيل في دار القرار.
أيها المسلمون: وكما أن الروح سبب حياة البدن، فكذلك جعل الله -سبحانه- اتباع الوحي الرباني أساسًا للحياة الطيبة، ففي اتباعه حياة الروح، قال -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) [الشورى: 52].
وقد سمى الله -سبحانه- الوحي روحاً لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح بالإيمان والعلم والهدى، وهي روح معرفة الله -سبحانه- وتوحيده ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، ومن فقد هذه الروح فَقَدْ فَقَدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضنك، وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا.
فكل من جمع بين الإيمان والعمل الصالح؛ أحياه الله حياة طيبة في الدنيا بطمأنينة قلبه، وسكون نفسه، ورَزَقه رزقاً طيباً من حيث لا يحتسب، وجزاه في الآخرة بالجنة وما فيها مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، فيؤتيه الله بفضله ومنِّه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة.
عباد الله: ومن أعظم مظاهر الحياة الطيبة أن يكون القلب حيًّا، ولا حياة للقلب إلا بدوام ذكر الله، وترك الذنوب. فكما جعل الله حياة البدن بالطعام الطيب، وتجنب الخبيث، جعل حياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب والمعاصي. والغفلة الجاثمة على القلب، والتعلق بالرذائل والشهوات، يضعف هذه الحياة، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت.
وعلامة موت القلب: إذا كان لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، ولا يرغب في الطاعات، ولا يبالي بالمحرمات. والمؤمن حقاً: هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، فأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية، وذلك من موت القلب والروح.
عباد الله: ومن مظاهر الحياة الطيبة: حياة الأخلاق العالية، والصفات المحمودة، التي هي حياة راسخة للموصوف بها. فحياة مَن طُبع على الحياء والعفة، والجود والسخاء، والمروءة والوفاء ونحوها، أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك. وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم.
والأخلاق الفاضلة تابعة لقوة الحياة، وضدها من نقصان الحياة. ولذلك كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان، وحياة السخي أكمل من حياة البخيل، وحياة الذكي الفطن أكمل من حياة البليد.
أيها الإخوة: ومن مظاهر الحياة الطيبة: الفرح والسرور وقرة العين بالله -سبحانه- وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم، وأكثرهم قد أخطأ طريقها، وسلك طرقاً لا تفضي إليها، بل تقطعه عنها إلا أقل القليل، وحرمها أكثرهم، وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والبصيرة.
وهذه المرتبة أعلى مراتب الحياة، ولكن كيف يصل إليها من عقله سُبي في بلاد الشهوات، وأَمَله موقوف على التمتع باللذات، وسيرته جارية على أسوأ العادات، ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمة المحب وطاعته تتكرر وتتزايد حتى تستقر، وينصبغ بها قلبه، وإذا تعلقت روحه بحبيبه عمل بما يحب، فهو يتقرب إلى ربه حفظاً لمحبته له، واستدعاء لمحبة ربه له، فيتقرب إلى ربه بأنواع التقرب إليه: فقلبه للمحبة، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، والتعظيم. ولسانه للذكر والحمد وتلاوة كلام حبيبه، وجوارحه للطاعات، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه.
فَيَشرع المحب أولاً في التقرب بالأعمال الصالحة الظاهرة, ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وعقله وبدنه, ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه, فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة، والتعظيم والإجلال، والخوف والخشية.
ووراء هذا القُرْب قرب آخر، عبَّر عنه أقرب الخلق إلى الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله فيما يرويه عن ربه -تبارك وتعالى-: "يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي، أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" [متفق عليه: أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675)].
وكلما ذاق العبد حقيقة التقرب انتقل إلى ما هو أعلى منه، ولا يزال العبد رابحاً على ربه طالما سعى للتقرب إليه بما يحبه ويرضاه، وهذا التقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، ومن لم يظفر بهذه الحياة العالية فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فإن همته فيها لا ترضى بالدون، وإن كان مهيناً خسيساً فعيشه كعيش أخس الحيوانات.
أيها الإخوة: إذا ذاق العبد طيب ولذة الحياة الطيبة لم يطمح في استمرارها في الدنيا فقط، بل يرجو أن يحيى هذه الحياة بعد مفارقة روحه لبدنه، فيستشعر كأن الدنيا سجن ضيق، وأن من ورائه فضاءً وروحاً، وريحاناً وراحة، ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ولذلك كانت الحياة الدائمة الباقية بعد طي هذا العالم وذهاب أهلها إلى دار الحيوان، هي الحياة الطيبة التي شَمَّر إليها المشمرون، وسابق إليها المتسابقون، والتي يقول من فاته الاستعداد لها: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر: 24-26].
وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة, فما الظن بحياتهم في البرزخ، وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها؟, فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول، وهم يرون وجه ربهم -عزَّ وجلّ َ-كرة وعشياً، ويسمعون كلامه كما قال -سبحانه-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22-23].
وهكذا -يا أمة الإسلام- إذا لم يكن الإيمان هو الأساس، والعقيدة الإسلامية الصحيحة هي القاعدة، عند ذاك تفتقد البشرية مقومات الحياة الطيبة، وأسباب الأمن والطمأنينة، ووسائل الكرامة والفلاح، وبتحقيق الإيمان والعمل الصالح؛ تسعد البشرية وتنعم في حياتها، فلا قلق ولا اضطراب، ولا خوف ولا حروب ولا إرهاب، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، وأن يوفقنا للأخذ بأسباب الفلاح والسعادة، وأن يرزقنا بمنه الحسنى وزيادة، إنه جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة منوطة بالإيمان بالله، والتمسك بدينه والعمل الصالح، الذي يحقق لصاحبه الفوز الأبدي والفلاح السرمدي، يوم ينقسم الناس إلى شقيٍ وسعيد قال تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المؤمنون:102] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون:103].
عباد الله: ومما يُضعِف همة كثير من الخلق عن الإقبال على الحياة الطيبة: ضعف إيمانه بالله -سبحانه-، وضعف يقينه في وعد الله ووعيده، فالإيمان هو روح الأعمال، وهو الباعث عليها، والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها، وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه، وتكون طاعة صاحبه ومعصيته كما قال -سبحانه-: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 93].
ومن أهم موانع الحياة الطيبة: استيلاء الغفلة على القلب، فإن الغفلة نوم القلب، ولا بدَّ للعبد من المجاهدة والتضحية بما يملك لتحصيل الإيمان وتقويته، وتحسين الأعمال وتنويعها، فإذا اجتمع للعبد قوة الإيمان، وحسن الأعمال، فتلك الحياة العالية التي دعا إليها الرسل، وهي الموصلة برحمة الله إلى الحياة العليا في الجنة.
عباد الله: لا سعادة للبشرية ولن تنعم بالحياة الطيبة إلا تحت راية الإيمان، ولا عزة ولا أمن إلا في ظلال القرآن، قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) [الأنعام:125] وقد حكم الله بالفلاح للمؤمنين، وللمؤمنين وحدهم، فقال -سبحانه-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون:1]، وحكم بالخسران على جنس الإنسان إلا المؤمنين كما في سورة العصر.
وحث على الأخذ بأسباب الفلاح ، والعمل بوسائل الفوز والصلاح، وفي مقدمتها: الإيمان والعمل الصالح، والتوبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص:67]، وقال -جل وعلا-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
نسأل الله أن يأخذ بنواصينا إليه، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.
اللهم اغفر لوالدينا ووالد والدينا ولكل من له حق علينا يا ذا الجلال والإكرام , اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.