الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
وقفَ أصحابُ الجنَّةِ أمامَ جنَّتِهم مَذْهُولينَ: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أَفْضَلُهُمْ قَوْلاً وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاً: (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ)، أَيْ َتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ، وكأنَه قد نصحَهم ووعظَهم قبلَ ذلك ولم يسمعوا كلامَه، ولكن، هل هذا مُبَرِّرٌ بأن يستمرَ معَهم في هذه الجريمةِ؟! يقولُ عمرُ بن الخطابِ -رضيَ اللهُ عنه-: "اللهمَّ إني أعوذُ بك من جَلَدِ الفاجرِ وعجزِ الثِّقَةِ"، أينَ الثباتُ على الحقِّ؟! أينَ المحافظةُ على المبادئِ؟! أينَ مفارقةِ أهلِ الباطلِ كما قالَ تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي امتنَّ على عبادِه بنبيِّه المرسلِ وكتابِه المنزّلِ الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أرشدَ ذوي الأبصار لطرقِ الاعتبارِ بما بثَّ في كتابِه العزيزِ من القَصَصِ والأخبارِ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه، أوضحَ بسنتِه سُلوكَ المنهجِ القويمِ، والصراطِ المستقيمِ، بما فصّلَ فيها من الأحكامِ، وفرّقَ بها بين الحلالِ والحرامِ، فهما الضياءُ والنورُ، وبهما النجاةُ من الغرورِ، وفيهما الشفاءُ لما في الصدورِ، اللهم صلِّ وسلمْ وباركْ وأنعمْ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
أما بعد:
فسأحكي لكم اليومَ قِصَّةً، لم يقلْها واعظٌ مؤثرٌ، ولا خطيبٌ بليغٌ، ولا عالِمٌ جليلٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، ولا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، بل قالَها ذو العِزَّةِ والجَلالِ، الذي قالَ: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، جاءتْ بأخْصَرِ العِبَاراتِ، وأبْلَغِ الكَلِماتِ، تفيضُ بالمعاني الغزيرةِ، والدروسِ الكثيرةِ، تزدادُ جمالاً مع كثرةِ التِّلاوةِ، وتتجددُ الآياتُ مع الأيامِ حلاوةً، وما أجملَ قولَ شوقي:
جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ | وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ |
آيـاتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ | يَزينُهُنّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ |
تبدأُ القِصَّةُ بالمقصودِ دونَ ذِكرِ ما لا يُحتاجُ إليه من المكانِ والزمانِ والأشخاصِ، افتتحَها اللهُ تعالى بذلكَ المشهدِ، حينَ اجتمعَ أصحابُ الجَنَّةِ الذينَ رزقَهم اللهُ تعالى جَنَّةً عظيمةً، ولا يُسمى البُستانُ بالجَنَّةِ إلا إذا كانَ ذا نخلٍ وشَجرٍ كثيفٍ يغطي ما بداخلِه من كثرةِ أشجارِه وأغصانِه وثمارِه، وكانوا في ليلٍ ليسَ معَهم أحدٍ، فنسُوا (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فدارَ بينَهم حديثُ الشَرِّ وهم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)، أرادوا منعَ الفقراءِ من حقِّهم الذي كتبَ اللهُ تعالى لهم: (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ)، حَلَفُوا فِيمَا بَيْنهمْ لَيُجَذُّنَّ ثَمَرهَا لَيْلًا لِئَلَّا يَعْلَمُ بِهِمْ فَقِيرٌ وَلَا سَائِلٌ، لِيَتَوَفَّرَ ثَمَرُهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) أي حتى لم يقولوا: إن شاءَ اللهُ فِيمَا حَلَفُوا بِهِ، وهكذا يتكررُ هذا الموقفُ كثيراً في كلِ زمانٍ ومكانٍ، فيمنْ يُخططونَ لظلمِ الناسِ، ويكيدونَ لمَنعِ الفقراءِ، ويمكرونَ لأكلِ حُقوقِ المُستضعفينَ، وهم يظنُّونَ أنه لا ناصرَ لهم، كانَ يزيدُ بنُ حكيمٍ يقولُ: "ما هِبْتُ أحداً قط هيبتي لرجلٍ ظلمتُه وأنا أعلمُ أنه لا ناصرَ له إلا اللهُ وهو يقولُ لي: حسبيَ اللهَ، واللهُ بيني وبينك"، (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ).
فهل جاءَهم عذابٌ من حيثُ لا يشعرونَ؟! نعم ولا شكَّ، لأنها سُنَّةُ اللهِ تعالى التي لا تتغيرُ في الماكرينَ بالسُوءِ: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)، (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ)، جاءَها العذابُ ليلاً من اللهِ تعالى الذي لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، الذي ينتصرُ للمظلومِ، ويأخذُ الحقَّ من الظَلُومِ، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ)، فأصبحَ ذلك البُستانُ الكريمُ، كَليْلٍ أَسْوَد بهيمٍ، كما قالَ القويُّ العظيمُ: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)، فلا إله إلا اللهُ، كم من صاحبِ ملايينَ، ينامُ غنيّاً، ويُصبحُ فقيراً، ينامُ عزيزاً، ويصبحُ ذليلاً: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
ثم ينتقلُ سياقُ القِصَّةِ إلى الصَّباحِ، وكم هو مُحْزِنٌ أن ترى حِرصَهم على الشَرِّ، وإصرارَهم على السَّيِّئةِ، وأنت تعلمُ ما حدثَ لجنَّتِهم البارحةَ: (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ)، فنَادَى بَعْضُهمْ بَعْضًا حتى لا يتخلَّفَ أحدٌ، تعاوناً على الإثمِ والعُدوانِ، وتواصياً في سبيلِ الشيطانِ، (فَانْطَلَقُوا) سريعاً، (وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ) أيْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنهمْ بِحَيْثُ لَا يُسْمِعُونَ أَحَدًا كَلَامَهمْ، لم يكن أحدٌ يَسمعُهم في تلكَ اللحظةِ، إلا الذي (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)، فأخبرَنا -سبحانَ وتعالى- بما كانوا يقولونَ: (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)، وما علموا أنهم همُ المساكينُ.
عبادَ اللهِ: هل لاحظتُم ذلك التخافتَ والتَخفيَ من أصحابِ الجنَّةِ، مع أن الجنَّةَ جنَّتُهم، والثمارَ ثمارُهم، والمالَ مالُهم، فكانَ لهم أن يمنعوا الفقراءَ عَلَناً، ولكن اللهَ تعالى قد كتبَ الذِّلةَ على أصحابِ المعاصي كما قالَ تعالى: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)، ويقولُ الحسنُ البصريُ -رحمَه اللهُ-: "إنهم وإن طَقْطَقَتْ بهم البِغالُ، وهَمْلَجَتْ بهم البَراذينُ، ووَطِئَتْ أعقابَهم الرجالُ، فإن ذُلَّ المعصيةِ لا يُفارقُ رقابَهم، يأبى اللهُ إلا أن يُذلَّ من عصاه".
(وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ)، غَدَوْا على قُوةٍ وعزمٍ وجِدٍّ معتقدينَ أنهم قادرونَ على منعِ الفقراءِ من ثمارِ جَنَّتهم، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وقَدْ تَحَوَّلتْ مِنْ تِلْكَ النَّضَارَةِ وَالزَّهْرَةِ وَكَثْرَةِ الثِّمَارِ إِلَى أَنْ صَارَتْ سَوْدَاءَ مُدْلَهِمَّةً لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوا الطَّرِيقَ: (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أَيْ قَدْ سَلَكْنَا إِلَيْهَا غَيْرَ الطَّرِيقِ فَتُهْنَا عَنْهَا، ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهَا هِيَ فَقَالُوا: (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)، قد حَرَمنا اللهُ تعالى منها كما أردنا أن نحرمَ المساكينَ، وقد يقولُ قائلٌ: كيفَ يُعاقبونَ على شيءٍ لم يَفْعَلوه؟! والجوابُ: إن العزمَ على فعلِ الشيءِ عزماً أكيداً له حكمُ العملِ بِه، واسمعْ إلى حديثِ النبيِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حينَ قالَ: "إذا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ"، فقالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ: هذا الْقَاتِلُ، فما بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قالَ: "إنه كان حَرِيصًا على قَتْلِ صَاحِبِهِ".
وقفَ أصحابُ الجنَّةِ أمامَ جنَّتِهم مَذْهُولينَ: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) أَفْضَلُهُمْ قَوْلاً وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاً: (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ)، أَيْ َتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ، وكأنَه قد نصحَهم ووعظَهم قبلَ ذلك ولم يسمعوا كلامَه، ولكن، هل هذا مُبَرِّرٌ بأن يستمرَ معَهم في هذه الجريمةِ؟! يقولُ عمرُ بن الخطابِ -رضيَ اللهُ عنه-: "اللهمَّ إني أعوذُ بك من جَلَدِ الفاجرِ وعجزِ الثِّقَةِ"، أينَ الثباتُ على الحقِّ؟! أينَ المحافظةُ على المبادئِ؟! أينَ مفارقةِ أهلِ الباطلِ كما قالَ تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
(قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، فاعترفوا بالخطأِ والظلمِ، ولكن بعدَ ماذا؟! (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ)، فانقلبَّ التنادي والتعاونِ على الإثمِ إلى لَوْمٍ وتقاذفِ تُّهمٍ، وهكذا أصحابُ السُوءِ، حتى ينتهي بهم العِتابُ في نارِ جهنَّم، كما قالَ تعالى: (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ)، ثم رجعوا إلى أنفسِهم وعلموا أنهم كلُّهم مَلومونَ ولا عُذرَ لأحدِهم: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ)، واللهُ أعلمُ هل أُبدلوا جنَّةٌ غيرُها أم لا؟!
(كَذَلِكَ الْعَذَابُ)، هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَمَنَعَ حَقَّ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّه ِكُفْرًا، وأيُّ عذابٍ هو أشدُّ على بخيلٍ شحيحٍ، يمسي غنياً، ويُصبحَ قد خَسِرَ مالَه كُلَّه؟! (وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، فعذابُ الدنيا أخَفٌّ وأرحمُ لمن اتَّعظَ وتابَ ورجعَ إلى ربِّه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
نفعَنِي اللهُ وإياكُمْ بالقرآنِ العظيمِ، وبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ الكريمِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، أقولُ قولِي هذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولكُمْ، فاستغفِرُوهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، أمَرَ بما فيه الخيرُ والصّلاحُ للبلادِ والعِبادِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً ندَّخرُها ليومِ المَعادِ، وأشهدُ أنّ سيّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُه ورسولُه أفضل العِبادِ، اللهمّ صلِّ وسلّمْ وباركْ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه إلى يومِ التّنادِ.
أما بعد:
يا أهلَ الإيمانِ: تعالوا نرجعُ إلى أولِ القِصَّةِ: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)، إذاً هذا الاختبارُ ليسَ خاصاً بأصحابِ الجنَّةِ، بل ابتلى اللهُ تعالى به أهلَ مكةَ حين أنعمَ عليهم بالرزقِ والأمانِ التامِ، ويَسَّرَ لهم التجارةَ بينَ اليمنِ والشامِ، وأهداهم أعظمَ رحمةٍ، وأكبرَ نعمةٍ، وهو النبيُّ محمدٌ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فقابلوه بالتكذيبِ والرَدِّ والمحاربةِ.
وهكذا في كلِّ زمانٍ يبتلي اللهُ -عزَّ وجلَّ- عبادَه بالنِّعمِ، أفراداً ومجتمعاتٍ ودولاً، ثم يبتليهم بفقراءِ ومساكينَ، فإيَّاكم ومنعَ الضعفاءِ حقوقِهم التي أمرَ اللهُ تعالى بها، فأموالُ البُخلاءِ تالفةٌ آجلاً كانَ ذلكَ أم عاجلاً، وفي كلِّ صباحٍ يدعو عليهم مَلَكٌ لم يعص اللهَ تعالى شيئاً، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا".
إن المُجتمعَ الذي يُحرمُ فيه الفقراءُ والمساكينُ من حقوقِهم، مُجتمعٌ قد حاربَ اللهُ تعالى، لأن هؤلاءِ الضُعفاءَ ليسَ لهم ناصرٌ إلا اللهَ تعالى، فأُوصيكم ونفسي بالضُعفاءِ خيراً في هذا الزمانِ الغريبِ، الذي قَلَّ فيه المُحسنُ، وشَحَّ فيه المُعينُ، ونَدُرَ فيه المُعطي، وتخاذلَ فيه الناصرُ، واعلموا أن البذلَ لهؤلاءِ من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ عنهما- أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟! وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا-، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَتَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ".
اللهم إنا نسألُك فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحُبَّ المساكينَ، وأن تغفرَ لنا وترحمْنا، وإذا أردتَ فِتنةً فى قومٍ فتوفَنا غيرَ مَفتونينَ، اللهم إنا نسألُك حُبَّك وحُبَّ من يُحبُك وحُبَّ عَملٍ يُقربُنا إلى حُبِّك يا ربَّ العالمينَ.