الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | خالد التلمودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الرباني هو العبد الذي حياته كلها لله، فهو يعيش لله، فإذا تكلم تكلّم لله، وإذا مشى في حاجة مشاها لله، وإذا أعطى أعطى لله، وإذا أخذ أخذ لله، فهو في كل حال من أحواله يريد وجه الله. وتأمل -أيها المؤمن المكرّم- فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -جل وعلا-: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون، وأصلّي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين، فصلّوا عليه وسلّموا تسليمًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما) [سورة الأحزاب:70-71].
أما بعد:
إخوة الإيمان: بعد أن تحدّثنا في الخطبة الماضية عن العطاء الربّانيّ نحتاج اليوم إلى ترجمة هذا العطاء إلى عقيدة ويقين وسلوك وسكينة، نبرهن من خلالها على أنّ هذا العطاء قد شملنا، ولكلّ منّا نصيبه بحسب إيمانه وتصديقه، بحسب سعيه وكسبه، بحسب كدحه وبذله، فلسنا بحاجة اليوم إلى أن نجترّ مسائل خلافيّة عقديّة كلاميّة مجرّد السّؤال عنها بدعة، لن تزيدنا من الله إلاّ بعدًا، ومن بعضنا البعض إلاّ نفورًا وفرقة وتشرذمًا إلى الحدّ الذي يصبح فيه لكلّ فرقة مسجد ولكلّ معتقد إمام، إلى الحدّ الذي يكفّر فيه بعضنا بعضًا، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
أحبّتي في الله: إيماننا بالله لا يمكن أن نتلمّس أماراته ودلالاته إلاّ بالعمل والسّلوك، وخير مصداق لذلك قول معلّم البشريّة لكلّ من يريد النّجاة: "قل: آمنت بالله ثمّ استقم"؛ لأنّ الاستقامة هي التي ستثبّت هذا الإيمان وسترتقي به إلى أعلى الدّرجات.
إذًا ما المطلوب منّا للتّدليل على هذا الإيمان؟! المطلوب هو أن نكون ربّانيّين.
أخي المؤمن، أختي المؤمنة: كن عبداً ربانياً مصداق قوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ).
فمن هم الربانيون؟! وكيف تكون ربانياً؟!
الرباني هو العبد الذي حياته كلها لله، فهو يعيش لله، فإذا تكلم تكلّم لله، وإذا مشى في حاجة مشاها لله، وإذا أعطى أعطى لله، وإذا أخذ أخذ لله، فهو في كل حال من أحواله يريد وجه الله. وتأمل -أيها المؤمن المكرّم- فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -جل وعلا-: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه".
فالرباني هو وليٌ لله، يحبه الله، محافظٌ على الفرائض والنوافل، مجاب الدعوة.
فما هي صفات الربانيّين؟! أول صفات العبد الرباني أن قلبه متعلق بالله وحده، وهذا هو أساس التوحيد، فليس لمخلوقٍ أي حظٍ أو نصيب في قلبه سوى الله، فهو عبد لله وحده.
وقد ربّى الله -جل وعلا- أصحاب نبيه -عليه السلام- على هذا التعلق كيف يكون، ففي غزوة أحد حين أشيع خبر موت النبي -صلى الله عليه وسلم- اهتزت قلوب المؤمنين، وتزلزلت، أنزل الله عندها قرآناً يتلى، قال الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً).
والاستثناء بعد النفي يفيد الحصر والقصر، أي: ليس محمدٌ إلا رسولاً يبلغكم رسالتي، فلا تتعلقوا بشخصه وذاته، لكي تبقى دائمًا موصولاً بالله دون غيره، فالتعلق بالأشخاص، والذوات، والدعاة، من أضر الأشياء على دين المرء.
ثانياً: من صفات الربانيين: التألُّه لله، والتنسك، فالرباني عابد لله، مخبت، خاشع، منكسر، ذليل لربه ومولاه، ذاكر لله، شاكرٌ لأنعمه، إذا رأيته ذكرت الله.
روى الإمام أحمد في مسنده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن خيار عباد الله من هذه الأمة الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى". فكم في الناس -بل ومن أهل الدين- من إذا رأيته ذكرت الله!! فإذا لم تعد رؤية من يُظن فيهم الخير والصلاح تذكرك بالله فاعلم أن الأمر قد رق، وأنّ أهل الصّلاح قد تضاءلوا.
ثالثًا: الرباني طالب للعلم، فالعلم هو سبيل الربانية، قال الله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)، فالرباني يتعلم ويعلم، طالب علم وداعية، شيخ وتلميذ، مُرَبٍّ مربّى، أديبٌ ومؤدب، يعيش عمره يطلب العلم.
فهذا جابر بن عبد الله الصحابي -رضي الله عنه- يبلغه أن حديثًا في الشام ليس عنده، فيشتري دابة بألف درهم ويسافر من المدينة إلى الشام ليسمع حديثًا واحدًا، ويسافر إليه شهرًا، فأين نحن من أمثاله؟! وقد رؤي الإمام أحمد ذاهبًا لمجلس علم فقيل له: إلى متى؟! فقال: "مع المحبرة إلى المقبرة".
رابعاً: ومن صفات الربانيين الحكم بما أنزل الله، أي أن تقيم شرع الله على نفسك ومن تعول، فتقيم شرع الله في بيتك، وعلى أولادك، وفي عملك، وتصرفاتك، فالذي يتكلم عن التغيير في كل شيء إلا من نفسه لن يغير شيئًا، قال الله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ).
أيا عبد الله: إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله، فانظر فيما يستخدمك، وبأيِّ الأعمال يشغلك -أيها المكرم-؟! ما الذي يُشغل فكرك وبالك؟! ما هي اهتماماتك؟! ما الذي يحزنك وما الذي يفرحك؟! هل تهتمّ لأمر دينك وأمر المسلمين أم همّك نفسك ومالك ودنياك؟! فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب والحمد لله ربّ العالمين.
الخطبة الثّانية:
بسم الله والحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله.
أخي المؤمن: أن تكون ربّانيًّا يعني أن تكون حياتك مع الله، أن تعيش مع منهج الله، أن تحيا مع كتاب الله، تدبّرًا وتمعّنًا وعلمًا وعملاً، أن تتفاعل مع شريعة الله، وأن تتمثل سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن تحيا حياة كلها لله في تصوراتك للحياة ومنهجك، في مشاعرك وعواطفك، في مواقفك وأعمالك، في آمالك وطموحاتك، كما أراد ربنا وقال: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
عندما تحيا لله تعالى وتنالك سراء فستذكر الله وتشكره، إن أصابتك ضراء فستذكر الله وتحمده وتلجأ إليه وتصبر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له".
عندما تحيا لله تعالى وترى الكون بعجائبه وجمال خلقه وأسراره فتذكر الله وتسبحه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
عندما تحيا لله تعالى وتتعامل مع البشر في شؤون الحياة المختلفة، وتختلط عليك المشاعر والعواطف والمواقف، فستذكر الله وتتعامل معهم وفق شرعه وبميزان مرضاته، ميزان الحب في الله والبغض في الله؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".
عندما تحيا لله تعالى، وتضيق نفسك وتداهمها الأحزان والهموم فتذكّر الله وردّدها بانشراح صدر: "يا حي يا قيوم: برحمتك أستغيث، أصلح شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين". وتذكّر قوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ).
عندما تتعرض لنزغات الشياطين وأهواء النفس الأمارة بالسوء، عندها ستلجأ إلى الله؛ إذ لا ملجأ منه إلاّ إليه، وأنت تعلم أنّه غفّار الذّنوب وستّار العيوب: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)، عندها ستلهج بطلب العفو من الله، وستفزع لباب رحمته وكريم عفوه وواسع مغفرته: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
عندما تداهمك الأمراض ويعتلّ الجسم وتضعف القوى ونبحث عن العلاج، عندها ستلجأ لطلب الشفاء من الشافي المعافي، الله -جل جلاله- (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).
وفقنا الله لرضاه، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، ورزقنا الاستقامة على صراطه المستقيم، والثبات على دينه القويم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
اللهمّ لك الحمد أنت قيّوم السّماوات والأرض فلك الحمد، أنت حقّ وقولك حقّ والنبيّون حقّ والجنّة حقّ والنّار حقّ والصّراط حقّ، ومحمّد -صلّى الله عليه وسلّم- حقّ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه كما تحبّ وترضى، واجعلنا من شفعائه يوم القيامة.
اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنّا شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال، لا يهدي لصالحها إلاّ أنت، اللهمّ اهدنا لصالح الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردّنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كلّ شرّ يا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمّن سواك.