البحث

عبارات مقترحة:

المؤخر

كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

الجميل

كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...

نعمة الرزق والأمن

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. فضائل نعمتي الرزق والأمن .
  2. مساوئ اجتماع الجوع والخوف .
  3. وجوب شكر الله على نعمه .
  4. ضرورة إعانة المهجرين المشردين من المسلمين. .

اقتباس

سبحانَ اللهِ!! أعظمُ ثلاثةٍ في الأمةِ يُخرجَهم من بيوتِهم الجوعُ.. فيأكلوا لحمَ شاةٍ وتمرَ نخلةٍ وماءَ يُنبوعٍ.. ثُمَّ يُقسمُ لهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامِ باللهِ العظيمِ.. أنهم سيُسألونَ يومَ القيامةِ عن هذا النَّعيمِ. فكيفَ بمن لم يعرفْ طعمَ الجوعِ.. ويُسعَى عليه بأصنافِ الطَّعامِ.. في أمنٍ وأمانٍ.. وصحةِ أبدانٍ.. نعمٌ من اللهِ تترى.. لا نستطيعُ لها حصراً.. فكيفَ كانَ شُكْرُنا لربِّنا الرَّحيمِ؟! وماذا سنجيبُ إذا سُئلنا عن النَّعيمِ؟!

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71]..

 أما بعد: فيقفُ إبراهيمُ الخليلُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- على مشارفِ مكةَ.. وقد تركَ فيها الأحبابَ.. استجابةً لربِّ الأربابِ.. ويدعو لأهلِها بأعظمِ دُعاءٍ.. ويسألُ لهم أغلى عطاءٍ.. (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 126].. فأيُّ نعيمٍ في الدُّنيا خيرٌ من الأمنِ والرِّزقِ؟!

ألم يقلْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ –أيْ: بَيْتِهِ-، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا

لا إلهَ إلا اللهُ.. وهل الدُّنيا إلا أمنٌ في وطنٍ.. وصحةٌ في بدنٍ.. وطعامٌ وماءٌ ولبنٌ.. وأيُّ حياةٍ هيَ حياةُ الخائفِ.. وأيُّ نومٍ هو نومُ المريضِ.. وأيُّ هناءٍ هو هناءُ الجائعِ.

وعندما أمرَ اللهُ -تعالى- أهلَ مكةَ بعبادتِه وحدَه.. أخبرَهم بأعظمِ مِنَّةٍ.. وذكَّرَهم بأغلى نعمةٍ.. فقالَ سُبحانَه: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 3- 4].. فلا رزقَ إلا منه.. ولا أمنَ إلا منه.. ومن أُعطيَ الرِّزقَ والأمنَ فقد أُوتي خيراً كثيراً.. والذي قد حُرمَ منه خَلقاً كثيراً.

عبادَ اللهِ..

إن الأمنَ والرِّزقَ أخوانِ متلازمانِ.. كما أن الجوعَ والخوفَ صديقانِ حميمانِ.. يقولُ تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) [النحل: 112].. أمنٌ في الأوطانِ.. ورزقٌ يأتي من كلِّ مكانٍ.. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).. فلما قابلوا النِّعمَ بالكُفرانِ.. جاءَ الجوعُ والخوفُ يُهرعانِ.

وتأملوا قولَ اللهِ تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).. فذكرَ -عزَّ وجلَّ- أن للجوعِ والخوفِ طَعْماً (فَأَذَاقَهَا).. ولك أن تتخيَّلَ ذلك الطَّعمَ المريرَ.. الذي يتحوَّلُ معه عذبُ الماءِ إلى كديرٍ.. وشبَّهَ سبحانَه الجوعَ والخوفَ باللِّباسِ.. وذلك لأنَّهما يُحيطُانِ بصاحبِهما من كلِّ مكانٍ كإحاطةِ اللِّباسِ.. فقلبُه مشغولٌ.. وفِكرُه مذهولٌ.. وكلما قلَّبَ الطرفَ ليُشغلَ التَّفكيرَ.. رجعَ إليه البصرُ حزيناً وهو حسيرٌ.. ولظهورِهما على أصحابِهما كما يَظهرُ اللِّباسُ.. فلا ترى خائفاً أو جائعاً إلا وتعرفُ ذلكَ من شُحوبةِ لونِه.. ونظراتِ عينيه.. ونبراتِ كلامِه.. وحركاتِ جوارِحه.

كانَ رسولُ اللهِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يستعيذُ باللهِ -تعالى- من الجوعِ.. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللَّهُ عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ".. أتعلمونَ لماذا؟ لأنَّ الجوعَ إذا جاءَ.. منعكَ من أمورِ الدُّنيا والآخرةِ، ولذلكَ لضَعفِ الجسمِ، وانشغالِ الفِكرِ، فهو بينَ أفكارٍ مُظلمةٍ، وبينَ هواجيسَ مؤلمةٍ، ولذلكَ خُصَّ بِالضَّجِيعِ وذلكَ لأنه يُلَازِمُ صاحبَه لَيْلًا، وإن نامَ فإنه لا ينامُ فيه إلا قليلاً.

وانظروا إلى ما فعلَ الخوفُ الجوعُ والبردُ بالصَّحابةِ الكِرامِ.. مع حِرصِهم على مرافقةِ النَّبيِّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.. في دارِ الخُلدِ ودارِ السَّلامِ.. فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا.

قَالَ: فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ اللَّيْلِ هَوِيًّا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ يَشْرُطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ يَرْجِعُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ، ثُمَّ يَرْجِعُ يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجْعَةَ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ".

 فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ: يَا حُذَيْفَةُ، فَاذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا، قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللهِ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا، وَلاَ نَارًا وَلاَ بِنَاءً.

 فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ، وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلاَ تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلاَ يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ.

 ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلاَثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلاَ عَهْدُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي، ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ، قَالَ حُذَيْفَةُ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رَحْلِهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنَّهُ لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ".

أيُّها الأحبابُ.. إننا في نعمةٍ لم يسبقْ لها مثيلٌ.. من منا خرجَ يوماً من منزلِه بسببِ الجوعِ؟

اسمع معي لهذا الموقفِ.. عن أبي هُريرةَ -رضيَ اللَّهُ عنه- قالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذاتَ يَوْمٍ، فَإِذا هُوَ بِأَبي بكْرٍ وعُمَرَ -رضيَ اللَّهُ عنه-ما، فقالَ: "ما أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟" قالا: الجُوعُ يا رَسولَ اللَّه.. قالَ: "وَأَنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما.. قُوما"، فقَاما مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ في بيتهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المرَأَةُ قالَتْ: مَرْحَباً وَأَهْلاً.. فقالَ لها رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيْنَ فُلانٌ؟" قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الماءَ، إِذْ جاءَ الأَنْصَاريُّ، فَنَظَرَ إلى رَسُولِ اللَّه -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قالَ: الحَمْدُ للَّه، ما أَحَدٌ اليَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيافاً مِنِّي، فانْطَلقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وتَمْرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلُوا، وَأَخَذَ المُدْيَةَ، فقال لَهُ رسُولُ اللَّه -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ" فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذلكَ العِذْقِ وشَرِبُوا..

فلمَّا أَنْ شَبعُوا وَرَوُوا، قال رسولُ اللَّه -صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَبي بكرٍ وعُمَرَ -رضيَ اللَّه عنهما-: "وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ".

سبحانَ اللهِ!! أعظمُ ثلاثةٍ في الأمةِ يُخرجَهم من بيوتِهم الجوعُ.. فيأكلوا لحمَ شاةٍ وتمرَ نخلةٍ وماءَ يُنبوعٍ.. ثُمَّ يُقسمُ لهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامِ باللهِ العظيمِ.. أنهم سيُسألونَ يومَ القيامةِ عن هذا النَّعيمِ. فكيفَ بمن لم يعرفْ طعمَ الجوعِ..

ويُسعَى عليه بأصنافِ الطَّعامِ.. في أمنٍ وأمانٍ.. وصحةِ أبدانٍ.. نعمٌ من اللهِ تترى.. لا نستطيعُ لها حصراً.. فكيفَ كانَ شُكْرُنا لربِّنا الرَّحيمِ؟! وماذا سنجيبُ إذا سُئلنا عن النَّعيمِ؟

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ هو الغنيُّ وعبادُه الفقراءُ، وهو القويُّ وخلقُه هم الضُّعفاءُ، أحمدُه سبحانَه يقبَلُ التوبةَ عن عبادِه ويعفو عمَّن أساءَ، وأشكرُه بسطَ الرزقَ وأجزَلَ النَّعماءِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الأسماءُ الحسنى.

 وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه أكثَرُ العبادِ ذِكرًا وأصدقُهم شُكرًا، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، صدَقوا ما عاهَدوا اللهَ عليه في السَّراءِ والضَّراءِ، والتَّابعينَ ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

 أما بعد: فيا أيُّها الأحبابُ.. إنَّ لكم إخواناً قد نسوا طعمَ الأمنِ والنَّعماءِ.. حتى أصبحوا في أوطانِهم غُرباءُ.. هل رأيتُم أولئكَ الذين تكدَّسوا في السفينةِ.. وقد أبحروا إلى المجهولِ وفِراراً من الموتِ.. فأصابتهم أمواجُ البحرِ المُتلاطمِ.. فإذا أجسادُهم طافحةً بينَ البحرِ والسَّماءِ.. فهذا شيخٌ كبيرٌ من عَناءِ الحياةِ قد ارتاحَ.. وهذه امرأةٌ قد عانقتْ ابنَها وفاضتِ الأرواحُ.

بل هل رأيتم ذلك الطِّفلَ المُمدَّدَ على شَوَاطئ تُركيا، إنه ليسَ سائحاً من السُّيَّاحِ، وليسَ من تعبِ السِّباحةِ يرتاحُ، وليسَ يبني بيتاً من الرِّمالِ والصَّخرِ.. بل هو طِفلٌ قد قذفَ به البَّحرُ، ليخبرَ النَّاسَ أن القلوبَ قد أصبحتْ من حجرٍ.

يا بحرُ لا تُغرقِ الطفلَ الذي هربا

وارحمْ أخاه وأمّاً تشتكي وأبا

رفقاً بهم أيُّها البحرُ العميقُ فقد

فَرُّوا من الشامِ لمّا أبصروا اللَّهبا

خافوا على العرضِ والأرواحِ فالتحفوا

ليلاً بهيماً أبى أنْ يُظْهِرَ الشُّهُبا

أتوكَ يا بحرُ والأهوالُ عاصفةٌ

فارفقْ بهم إنهم قد أصبحوا غُرَبا

رأوك أرحمَ من أبناءِ جِلدَتهم

واستأمنوك فلا تقطعْ بهم سببا

يا بحرُ كنْ مركباً سهلاً فقد ركبوا

إليكَ من طُرُق الأهوالِ ما صَعُبا

رأوكَ أرحمَ منا بعد أن وجدوا

منا التخاذلَ والتّسويفَ والكذبا

حتى هديرُكَ والأمواجُ صاخبةٌ

رأوه أرحمَ ممن جارَ واغتصبا

يا بحرُ رفقاً بهم حتى يكونَ لهم

نصرٌ من اللهِ يمحو الهمَّ والتَّعبا

اللهمَّ أعنَّا على ذكرِك وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادتِك.. اللهمَّ يا مُرسلَ السَّحابِ ويا هازمَ الأحزابِ، يا من عزَّ جارُه وجلَّ ثناؤه وتقدَّست أسماؤه انصر إخوانَنا المستضعفينَ في كلِ مكانٍ.. اللهم كنْ لهم معيناً ونصيراً حينَ قلَّ المعينُ وعزَّ النَّصيرُ..

اللهمَّ إنا نشكو إليكَ ضعفَ قوةِ المسلمينَ، وقلةَ حيلةِ المستضعفينَ، وهوانَهم على الكافرينَ يا أرحمَ الراحمينَ، أنتَ ربُّ المستضعفينَ وأنتَ ربُّنا، إلى من تَكلُ إخوانَنا، إلى بعيدٍ يتجهَّمُهم أم إلى عدوٍ ملَّكتَه أمرَهم، اللهمَّ لا نصيرَ لهم إلا أنتَ، فلا تخذلْهم اللهمَّ نصرَك الذي وعدتَ، اللهمَّ نصرَك الذي وعدتَ.. يا إلهَ العالمينَ.