الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | توفيق الصائغ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
حين الليل عسعس، وحين ملأ الصبح رئتيه من الهواء ليتنفس، في الهزيع الأخير كعادته، طرق بلال - رضي الله عنه وأرضاه- النبي -عليه وآله الصلاة والسلام-، لم يكن بدعا من المشاهد والأحداث أن يسمع بلالا النبي -عليه الصلاة والسلام- وصحابة النبي، ولصدر النبي –صلى الله عليه وسلم-، أزيز كأزيز المرجل. لم يكن جديدا على بلال أن يرى دمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يبل لحيته، لكن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد لله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين، صلوا عليه وآله، اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه، وعلى آله وصحابته وعترته.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
حين الليل عسعس، وحين ملأ الصبح رئتيه من الهواء ليتنفس، في الهزيع الأخير كعادته، طرق بلال - رضي الله عنه وأرضاه- النبي -عليه وآله الصلاة والسلام-، لم يكن بدعا من المشاهد والأحداث أن يسمع بلالا النبي -عليه الصلاة والسلام- وصحابة النبي، ولصدر النبي –صلى الله عليه وسلم-، أزيز كأزيز المرجل.
لم يكن جديدا على بلال أن يرى دمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يبل لحيته، لكن الجديد هذه المرة، وقوف بلال بالباب قد طال، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرر الآية المرة تلو المرة، ويبكي ويكرر، ويبكي ويكرر صلى الله عليه وسلم.
حين قضى النبي بكاءه أو أوشك؛ سأله بلال -رضي الله عنه وأرضاه- فقال صلى الله عليه وسلم: "ومالي لا أبكي، وقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 190-191].
أزعم أن هذه الآية مرت على سمعي وسمعك مرارا، وأزعم أكيدا أنني قرأتها وقرأتها مرارا، فهل وقعت هذه الآية من قلبي وقلبك موقعها من قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟.
نعم كان لصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- أزيز كأزيز المرجل، وكان كثيرا ما يبكي صلوات الله وسلامه عليه من خشية الله تارة، من إجلال الله وتعظيمه تارة، رحمة وشفقة على أمته تارة.
أيها الإخوة: ورث عنه الصحابة هذا الهدي؛ فهذا أبو بكر -رضي الله عنه- كان لا يقيم قراءته بالقرآن؛ لأنه كان رجلا أسيفا كثير البكاء عند القرآن.
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: كأن إذا مر على سمعه القوارع من القرآن، يعود عليلا، يعوده الناس، يبكي يتأثر، يرسل الدمع مدرارا!.
عثمان -رضي الله عنه- يقف على شفير القبر، فيرسل الدمع.
وعلي بن أبي طالب يقضي سحابة نهاره، وعامة ليله، بكاءً من خشية الله.
ومعاذ بن جبل لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: "ما يبكيك؟" فقال: "لأن الله -عز وجل- قبض قبضتين، فجعل واحدة في الجنة، والأخرى في النار، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون!".
ثم يبكي ويهيج الحضور على البكاء.
ابن مسعود يمر على الحدادين الذين ينفخون الكير، فيرى قد أخرج الحديد المحمي من النار، فيغشى عليه، ويبكي من خشية الله.
هؤلاء هم الذين صدق فيهم قول الحق -جل وعلا-: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء: 109].
هؤلاء أحق الناس بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)[مريم: 58].
(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة: 83].
نزف البكاء دموع عينك فأستعر | عيناً لغيرك دمعها مدرارُ |
من ذا يعيرك عينه تبكي بها | أرأيت عيناً للدموع تُعارُ |
أعود مرة أخرى لذات السؤال الذي هو مدار خطبتنا هذا اليوم: لماذا لم أعد أبكي من خشية الله؟ لماذا لم تعد تبكي من خشية الله؟ لماذا بات منظر الدمع اليوم غريبا لا يرى في مجالسنا، ولا في منتدياتنا؟! ونفتقده من أنفسنا؟
لأن حالات البكاء أعظمها وأجلها حين يبكي العبد خاليا مع مولاه، يتذكر نعم الله عليه، أو يتذكر قدرة الله عليه، أو يتذكر جبروت الله، وعظمة الله، أو يتذكر الآخرة: "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
حين نضع أيدينا على الداء، فينبغي أن نتلمس الدواء.
أيها الإخوة: إن أصدق وأعظم شعور هو الذي يتحرك به القلب، وتصادق عليه العين بدمعها.
إذاً لا شك أن حرماننا من هذه النعمة، وهذه الميزة، ربما كانت إحدى العقوبات التي عوقبنا بها، والله قديما قد عاتب الأصحاب البررة الأتقياء، حين أنزل قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)[الحديد: 16].
فخشعت قلوب الأصحاب.
حقا لنا أن نتأمل هذا المعنى -أيها الإخوة الأحباب-: لماذا لم نعد نبكي؟ وإذا بكينا من خشية الله فينبغي أن نتساءل هل كان البكاء تأثرا بصوت القارئ؟ هل كان البكاء اصطحاب لحالة معينة أم هو حقيقة البكاء من خشية الله؟
حرمان العين من دمعها عقوبة، قال مالك بن دينار: "ما ضرب الله عبدا بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله -عز وجل- على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم".
(فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزمر: 22].
أعوذ بالله وأعيذكم.
أيها المستمع الكريم: لا تستهين بعبادة البكاء من خشية الله، لا تقلل هذا الدمع الذي ثمنه الله -عز وجل- وقدره، وجعله قرآنا يتلى لأولئك الذين تليت عليهم الآيات، فأرسلوا الدمع مدرارا.
إياك أن تستهين بالدمع.
عن أبي أمامة -رضي الله عنه-: قال: "قال ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله".
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا يقرن قطرة الدمع بقطرة الدم التي تهراق في سبيل الله، لا تستهين بالدمع، فالدمع ضمان نبوي كريم: أن لا تمسك النار ما دمت ترسله من خشية الله: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع".
إليك ضمان نبوي آخر، يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
وإليك الضمان الثالث: "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
جعلني الله وإياكم منهم.
"رجل ذكر الله خاليا" لا يراه أحد خاليا بينه وبين الله، استعرض نعمة الله عليه، فأصابته قشعريرة الحياء، ثم استعرض عظيم أسماء الله وصفاته، فوجل قلبه، ثم صادق على هذا الوجل بإرسال الدمع.
امنع جفونك أن تذوق مناماً | واذْرِ الدموعَ على الخدود سِجاما |
واعلمْ بانك ميّت ومحاسب | يا من على سُخط الجليل أقاما |
لله قومٌ أخلصوا في حبه | فرضِي بهم واختصّهم خدّاما |
قومٌ إذا جنَّ الظلام عليهِمُ | با توا هنالك سُجّداً وقياما |
لماذا لم أعد أبكي من خشية الله؟ لماذا لم تعد تتأثر وتبكي من خشية الله؟
أول الأمور -أحبابي-: أننا أغرقنا في التعلق بالدنيا، وانشغلنا بها، حديثنا، ديدننا في مجالسنا إذا خلونا، أو إذا اجتمعنا، إنما هو حديث الدنيا، نتحدث عن العقار والأسهم، وعن البيع والشراء، وعن الإقبال والسفر والنزهة إلى آخره؛ فلم يجد هذا القلب مساحة مع هذا الزخم، وهذه الضوضاء، لم يجد مساحة، حتى يستريح إلى ذكر، أو حتى يبكي من خشية الله.
إن من أسباب قسوة القلب، وجمود العين: الإثم بعد الإثم، والذنب بعد الذنب.
أنا لا أطالبكم أو أطالب نفسي أن نكون ملائكة كرام بررة، لابد أن نتحدث عن الدنيا قليلا، لا أن نتحدث عن الدنيا عامة يومنا، لا بد أن نقع في الإثم والخطيئة؛ لما ركب الله فينا من النقص، فلا بد وأن يقع أحدنا في الإثم: "ما من عبدٍ مؤمِنٍ إلَّا وله ذنبٌ، يعتادُهُ الفينَةَ بعدَ الفينَةِ، أوْ ذنبٌ هو مقيمٌ عليه لا يفارِقُهُ، حتى يفارِقَ الدنيا، إِنَّ المؤمِنَ خُلِقَ مُفَتَّنًا، توَّابًا، نَسِيًّا، إذا ذُكِّرَ ذكَرَ".
إذاً ليست القضية في أن أخطئ أو أن تخطئ، لكن القضية في أن نستمرئ الخطأ، القضية في أن نعود إلى الخطأ مرارا وتكرارا، وأن ندمنه، وأن نتلبسه دون أن نشعر به.
الإثم بعد الإثم، والذنب بعد الذنب، مانع من حركة القلب، ومانع من سيلان الدمع على الخدود، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "إن العبدّ إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبهِ نُكتة سوداء، فإن تاب ونزع وأستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبهُ، فذلك الران الذي ذكره الله -سبحانه وتعالى- في القرآن": (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].
إن من أسباب قسوة القلب وجمود العين: عدم التعامل الصحيح مع القرآن، ليست القضية في أن نبكي مع القرآن بمجرد شجو صوت القارئ، لا، ليست القضية أن نبكي في القرآن؛ لأنه رفع في هذا الموطن أو خفض، لا، القضية أن تبكي من القرآن حين نتدبر حقيقة المعنى، وأن نعيش حقيقة النص، ونستشعر أن هذا خطاب المولى -عز وجل- للعبد، عند ذلك يتحرك القلب: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24].
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23].
جعلني الله وإياكم منهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد:
من حقك أن تقوم بصيانة دورية لمركبتك والسيارة التي تدفع فيها مئات الآلاف، من حقك أيضا أن تصونها مرة بعد مرة، لكن أعظم ما تملك الذي عليها المدار، والذي إذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد الجسد كله، وهو القلب، أحق من مركبتك، ودابتك وشركتك وآلتك، أحق منه بالصيانة والرعاية، أحق بالتعهد والمراجعة، بالنظر والتأمل، وإعادة الحسابات.
إن هذه المضغة الصغيرة، هي التي تحرك الدمع، ترسله أو تحبسه.
إن هذه المضغة الصغيرة هي التي تصحح المسار، فتجعلك ممن يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84].
أو تجعلك ممن ينكس على عاقبيه، كان لزاما أن نتعهد هذا القلب الذي بصلاحه صلاح الدنيا والآخرة.
أسأل الله -عز وجل- أن يصلح قلبي وقلوبكم.
ألا، وإن من أعظم الأسباب الجالبة لخشية المولى -جل وعلا-، الجالبة لرقة القلب: كثرة التذلل لله -عز وجل- بالدعاء.
من العباد من يحرم هذا القلب الحي الذي يتأثر ويتحرك، وعليه فينبغي له أن يطلب هذه النعمة من واهب النعم -جل جلاله-، وأن ينطرح بين يديه، وأن يعلن فقره وحاجته إلى هذه النعمة.
أن يذهب إلى بيت الله الحرام، أو أن ينكب وهو ساجد، فيدعو الله -عز وجل- القلب الذي يخشع.
وكان من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- المأثور: "اللهم إني أسألك علما نافعا، وقلبا خاشعا".
يسأله القلب الخاشع مع أن الدنيا لم تر أخشع من قلب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم يا مجيب الدعوات، يا مقيل العثرات؛ نسألك قلبا خاشعا، نسألك قلبا خاشعا.
اللهم كما تحيي الأرض بالماء، نسألك أن تحيي قلوبنا بالإيمان.
اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلب، ونعوذ بك من ميتة القلب...