الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصلاة |
التَّذْكِرَةُ تُنَشِّطُ الْفِكْرَ كَيْ لَا يَكْسَلَ، وَتُرَقِّقُ الْقَلْبَ لِئَلَّا يَقْسُوَ، وَتُنَبِّهُ النَّفْسَ فَلَا تَغْفُلُ، وَتَبْعَثُ الرُّوحَ فَتَتَوَثَّبُ الْأَجْسَادُ لِلْعَمَلِ، وَتُحْيِي الْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَسْعَى المُتَأَثِّرُونَ بِالذِّكْرَى وَالمَوْعِظَةِ إِلَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَتَكْمِيلِ النَّقْصِ، وَمَدِّ الْأَيَادِي بِالْبَذْلِ، وَمُحَاصَرَةِ التَّقْصِيرِ فِي الْحُقُوقِ، وَكَبْحِ النُّفُوسِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ. إِذَا وَقَعَ التَّذْكِيرُ بِلِسَانٍ يَنْطِقُ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْقَلْبِ، وَيُؤَثِّرَ فِي النَّفْسِ، فَتَتَغَيَّرَ حَالُ المُسْتَمِعِ بَعْدَ التَّذْكِرَةِ بِكَلِمَاتٍ صَادِقَاتٍ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ. وَكَمْ مِنْ مُجْرِمٍ فَتَّاكٍ لَمْ يَرْدَعْهُ عَنْ إِجْرَامِهِ عِقَابٌ وَلَا سِجْنٌ وَلَا تَهْدِيدٌ بِقَتْلٍ، أَذَلَّتْ كِبْرِيَاءَهُ مَوْعِظَةٌ فَأَخْنَسَتْ شَيْطَانَهُ، وَأَحْيَتْ جَوَانِبَ الْخَيْرِ فِي قَلْبِهِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ جَعَلَ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) [طه: 4 - 6]، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ وَجَزِيلِ عَطَايَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ عَمَلٍ وَامْتِحَانٍ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ الْجَزَاءِ وَالْقَرَارِ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِيُذَكِّرَ النَّاسَ رَبَّهُمْ وَخَلْقَهُمْ وَمَعَادَهُمْ وَجَزَاءَهُمْ، وَمِنْ تَذْكِيرِهِ لِلنَّاسِ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّـهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّـهِ الجَنَّةُ" صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَرْخُوا أَسْمَاعَكُمْ لِلْمَوَاعِظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَافْتَحُوا قُلُوبَكُمْ لِلتَّبْشِيرِ وَالتَّحْذِيرِ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّكُمْ إِلَى اللَّـهِ تَعَالَى رَاجِعُونَ، وَبِأَعْمَالِكُمْ مُحَاسَبُونَ، وَعَلَى تَفْرِيطِكُمْ نَادِمُونَ، وَلَا تَكُونُوا مِنَ الَّذِين إِذَا وُعِظُوا لَا يَتَّعِظُونَ، وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَتَذَكَّرُونَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا أَعْرَضَ عَنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَأَعْرَضَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ (فَمَا لهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر: 49 - 51].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ النِّسْيَانُ، وَمِنْ جِبِلَّتِهِ مَيْلُهُ إِلَى اللَّهْوِ وَالشَّهَوَاتِ، وَمِنْ عَادَتِهِ الْخُلُودُ إِلَى الْكَسَلِ وَالرَّاحَةِ، وَمِنْ فِطْرَتِهِ السَّوِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا ذُكِّرَ تَذَكَّرَ، وَإِذَا وُعِظَ اتَّعَظَ؛ فَالتَّذْكِرَةُ تُنَشِّطُ الْفِكْرَ كَيْ لَا يَكْسَلَ، وَتُرَقِّقُ الْقَلْبَ لِئَلَّا يَقْسُوَ، وَتُنَبِّهُ النَّفْسَ فَلَا تَغْفُلُ، وَتَبْعَثُ الرُّوحَ فَتَتَوَثَّبُ الْأَجْسَادُ لِلْعَمَلِ، وَتُحْيِي الْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَسْعَى المُتَأَثِّرُونَ بِالذِّكْرَى وَالمَوْعِظَةِ إِلَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَتَكْمِيلِ النَّقْصِ، وَمَدِّ الْأَيَادِي بِالْبَذْلِ، وَمُحَاصَرَةِ التَّقْصِيرِ فِي الْحُقُوقِ، وَكَبْحِ النُّفُوسِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ.
إِذَا وَقَعَ التَّذْكِيرُ بِلِسَانٍ يَنْطِقُ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْقَلْبِ، وَيُؤَثِّرَ فِي النَّفْسِ، فَتَتَغَيَّرَ حَالُ المُسْتَمِعِ بَعْدَ التَّذْكِرَةِ بِكَلِمَاتٍ صَادِقَاتٍ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ. وَكَمْ مِنْ مُجْرِمٍ فَتَّاكٍ لَمْ يَرْدَعْهُ عَنْ إِجْرَامِهِ عِقَابٌ وَلَا سِجْنٌ وَلَا تَهْدِيدٌ بِقَتْلٍ، أَذَلَّتْ كِبْرِيَاءَهُ مَوْعِظَةٌ فَأَخْنَسَتْ شَيْطَانَهُ، وَأَحْيَتْ جَوَانِبَ الْخَيْرِ فِي قَلْبِهِ، فَانْقَلَبَ عَلَى حَالِهِ الْبَائِسِ لِيَتَغَيَّرَ مِنْ مُجْرِمٍ مُؤْذٍ قَاسٍ إِلَى صَالِحٍ رَقِيقٍ نَافِعٍ، وَكَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِصًّا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ فَتَذَكَّرَ بِآيَةٍ سَمِعَهَا، فَكَانَتْ سَبَبَ تَوْبَتِهِ، حَتَّى صَارَ إِمَامًا فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْفِقْهِ وَالْوَعْظِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَمْوَاتَ المُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.
وَإِذَا تُرِكَ التَّذْكِيرُ نَسِيَ النَّاسُ الدِّينَ، وَرَانَ عَلَى الْقُلُوبِ أَثَرُ الذُّنُوبِ، وَلَا مَوْعِظَةَ تَجْلُوهَا، فَأَظْلَمَتْ وَقَسَتْ وَضَلَّتْ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْعَذَابُ، وَالسَّبَبُ تَرْكُ تَذْكِيرِهَا وَمَوْعِظَتِهَا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].
إِنَّ المَوَاعِظَ قُوتُ الْقُلُوبِ، وَإِذَا فَقَدَتِ الْقُلُوبُ قُوتَهَا مَاتَتْ، وَالمُؤْمِنُ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الذِّكْرَى، وَهُوَ المُنْتَفِعُ بِهَا، فَمَنْ كَرِهَ الذِّكْرَى أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا فَلْيَتَفَقَّدْ إِيمَانَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55]، فَلَا تَكُونُ ذِكْرَى إِلَّا انْتَفَعَ بِهَا المُؤْمِنُ. وَانْتِفَاعُهُ بِهَا بِحَسَبِ اسْتِقَامَةِ دِينِهِ، وَصَلَاحِ قَلْبِهِ، وَقَابِلِيَّتِهِ لِاسْتِقْبَالِ مَا يُلْقَى عَلَيْهِ مِنَ المَوَاعِظِ وَالتَّذْكِيرِ.
وَمَنْ نَظَرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ عَلِمَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ رَتَّبَهُ يَوْمَ تَذْكِيرٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا تَمُرُّ بِهِمْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنَ الِانْهِمَاكِ فِي الْعَمَلِ، وَاللَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَالشُّغْلِ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الدُّنْيَا، إِلَا جَاءَ يَوْمُ الذِّكْرَى لِيَجْلُوَ الْقُلُوبَ، وَيُصَفِّيَ النُّفُوسَ، وَيُزِيلَ رَوَاسِبَ الْغَفْلَةِ، وَيُذْهِبَ أَكْدَارَ الدُّنْيَا؛ لِتُقْبِلَ الْقُلُوبُ عَلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- مِنْ جَدِيدٍ، وَتَنْشَطَ الْأَبْدَانُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
إِنَّهُ يَوْمُ الذِّكْرَى بِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَمَا شُرِعَ فِيهِ مِنَ الشَّعَائِرِ؛ وَلَوْ عَلِمْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ لَعَجِبْنَا مِنْ يَوْمِ الذِّكْرَى هَذَا، وَعَلِمْنَا فَضْلَ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَيْنَا بِهِ وَبِمَا شَرَعَ فِيهِ، وَهَاكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكُمْ: فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ قَدِ اخْتُصَّ بِفَضِيلَةِ قِرَاءَةِ سُوَرٍ فِي بَعْضِ صَلَوَاتِهِ، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ السُّوَرِ، وَجَدَ أَنَّهَا تُحَاصِرُ قَارِئَهَا وَسَامِعَهَا بِالذِّكْرَى، وَتَحُثُّهَ عَلَيْهَا، وَتُحَذِّرُهُ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا؛ فَفِي صَلَاةِ فَجْرِ الْجُمُعَةِ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَتَيِ السَّجْدَةِ وَالْإِنْسَانِ، وَهُمَا سُورَتَانِ تُلَخِّصَانِ المَبْدَأَ وَالمَعَادَ، بِذِكْرِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَعَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَصِيرِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِئَلَّا يُصَابَ بِدَاءِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَالِانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَنِسْيَانِ الْآخِرَةِ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الذِّكْرَى مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي السُّورَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَفِي أَوَّلِ السَّجْدَةِ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) [السجدة: 4].
وَفِي وَسْطِهَا تَذْكِيرٌ بِمَنْ يَتَّعِظُ وَمَنْ لَا يَتَّعِظُ لِيَخْتَارَ الْعَبْدُ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ يَكُونُ (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [السجدة: 14-15].
وَفِي آخِرِ السُّورَةِ يُحَاصِرُكَ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْمُعْرِضِ عَنِ المَوَاعِظِ وَالذِّكْرَى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة: 22]. هَذَا التَّذْكِيرُ المُكَرَّرُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَأَمَّا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَأَوَّلُ آيَةٍ تَطْرُقُ سَمْعَكَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الإنسان: 1].
هَذَا الْإِنْسَانُ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ، وَصَارَ مَذْكُورًا بَعْدَ خَلْقِهِ، وَلَهُ اسْمٌ يُعْرَفُ بِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ خَالِقَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَلَا يَنْسَاهُ أَبَدًا، وَيَتَذَكَّرَ مَا يَجِبُ لَهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَتُخْتَمُ سُورَةُ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرَى أَيْضًا حِينَ يُبَيِّنُ اللهُ -تَعَالَى- مَصِيرَ الْبَشَرِ وَشَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهمْ؛ فَنَاسٌ لِلْجَنَّةِ وَنَاسٌ لِلنَّارِ، وَيُخْتَمُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) [الإنسان: 29]. نَعَمْ، إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، وَالتَّذْكِرَةُ تُلْقَى عَلَى النَّاسِ كُلَّ جُمُعَةٍ.
وَشُرِعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَفِيهَا أَرْبَعُ قَصَصٍ تُذَكِّرُكَ بِلُزُومِ الْإِيمَانِ وَالْحَذَرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَهَمِّيَّةِ الْعِلْمِ وَالْحَذَرِ مِنَ الْجَهْلِ، وَعَدَمِ الْغُرُورِ بِالْجَاهِ وَالمَالِ؛ فَمُفْسِدَاتُ الْإِنْسَانِ: الشِّرْكُ وَالْخُرَافَةُ وَالْغُرُورُ بِالْجَاهِ وَالمَالِ، وَالْجَهْلُ هُوَ بَوَّابَةُ الشِّرْكِ وَالْخُرَافَةِ، وَغَلَبَةُ الشَّهْوَةِ هُوَ بَوَّابَةُ الْغُرُورِ بِالْجَاهِ وَالمَالِ.
وَفِي الْكَهْفِ تَحْذِيرٌ مِنَ الْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّهَا ضِدُّ التَّذَكُّرِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الذِّكْرَى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
وَالْعَجِيبُ أَنَّ مَا فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ مِنْ وَعِيدِ المُعْرِضِ عَنِ الذِّكْرَى كُرِّرَ فِي الْكَهْفِ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ، وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ تَهْدِيدٌ لِلْمُعْرِضِ عَنِ الذِّكْرَى بِهَذِهِ الصِّيغَةِ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لِلْجُمُعَةِ بِهِمَا اخْتِصَاصٌ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 57].
وَمِنْ سُنَنِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قِرَاءَةُ سُورَتَيِ الْجُمُعَةِ وَ(المُنَافِقُونَ) فِيهَا، أَوِ الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةِ، أَوِ الْجُمُعَةِ وَالْغَاشِيَةِ، وَهَذِهِ السُّوَرُ الْأَرْبَعُ يَجْمَعُ بَيْنَهَا التَّذْكِيرُ؛ فَفِي آخِرِ الْجُمُعَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة: 9].
وَذِكْرُ اللَّـهِ -تَعَالَى- الَّذِي أُمِرْنَا بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ هُوَ خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الَّتِي هِيَ التَّذْكِيرُ وَصَلَاتُهَا؛ وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ) وَلَمْ يَقُلِ: اسْعَوْا إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِتَدْخُلَ الْخُطْبَةُ فِي ذِكْرِ اللَّـهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّهَا تَذْكِيرٌ بِهِ سُبْحَانَهُ وَبِحُقُوقِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى عِبَادِهِ.
وَخُتِمَتْ سُورَةُ (المُنَافِقُونَ) بِآيَةٍ تَنْهَى عَنِ الْغَفْلَةِ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّذْكِيرِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّـهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
وَأَمَّا السُّورَتَانِ الْأُخْرَيَانِ: الْأَعْلَى وَالْغَاشِيَةُ، فَفِيهِمَا أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ، وَبَيَانُ عَمَلٍ المُذَكِّرِينَ، وَحَالِ المُذَكَّرِينَ، فَفِي الْأَعْلَى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) [الأعلى: 9-13].
وَفِي الْغَاشِيَةِ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) [الغاشية: 21-24].
فَعُلِمَ بِهَذَا الْكَمِّ الْهَائِلِ مِنَ النُّصُوصِ فِي التَّذْكِيرِ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ الذِّكْرَى، وَأَنَّ خُطْبَتَهُ مِنْ أَهَمِّ التَّذْكِيرِ، وَأَنَّ تَقْصِيرَ الْخُطَبَاءِ فِيهَا تَقْصِيرٌ بِوَظِيفَةِ التَّذْكِيرِ، وَأَنَّ اسْتِهَانَةَ المُصَلِّينَ بِهَا اسْتِهَانَةٌ بِشَعِيرَةٍ عَظِيمَةٍ خَصَّهَا اللهُ -تَعَالَى- بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّ التَّأَخُّرَ عَنْ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ يُفَوِّتُ عَلَى المُتَأَخِّرِ سَمَاعَ التَّذْكِيرِ، وَهُوَ مَقْصَدٌ مُهِمٌّ مِنْ مَقَاصِدِ الْجُمُعَةِ، وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنِ التَّذْكِيرِ؛ وَلِذَا كَانَ حَرِيًّا أَنْ يُخْتَمَ عَلَى قَلْبِهِ كَمَا ذَكَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى مِنْبَرِهِ فَقَالَ: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا، وَأَنْ يَكْفِيَنَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يُلِينَ قُلُوبَنَا لِلْمَوَاعِظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَرْخُوا أَسْمَاعَكُمْ لِلْمَوَاعِظِ وَالذِّكْرَى، وَلَازِمُوا مَجَالِسَهَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، وَاحْذَرُوا نِسْيَانَهَا (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنْ عَجَائِبِ يَوْمِ الذِّكْرَى هَذَا أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ هَيَّأَ النَّاسَ لِلِانْتِفَاعِ بِالتَّذْكِيرِ فِيهِ بِجُمْلَةٍ مِنْ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ وَوَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا؛ فَالمُسَافِرُ لَا يُنْشِئُ الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيطَانَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا، وَالمُسَافِرُ غَيْرُ مُتَهَيِّئٍ لِسَمَاعِ التَّذْكِرَةِ لِانْشِغَالِهِ بِسَفَرِهِ وَتَعَبِهِ.
وَشُرِعَ لِلْجُمُعَةِ الْغُسْلُ وَهُوَ مِنْ سُنَنِهَا المُؤَكَّدَةِ وَقِيلَ بِوجُوبِهِ، وَالْغُسْلُ يُنَشِّطُ النَّفْسَ لِلِاسْتِمَاعِ، وَبِالْغُسْلِ لَا يُؤْذِي النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِرَوَائِحِهِمْ فَيُشَوِّشُ أَذَى الرَّائِحَةِ عَلَى سَمَاعِ التَّذْكِرَةِ.
وَمِنْ سُنَنِ الْجُمُعَةِ: التَّجَمُّلُ بِأَحْسَنِ الثِّيَابِ وَأَنْظَفِهَا؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الثِّيَابِ لَا فِي الْجَسَدِ.
وَالطِّيبُ مِنْ سُنَنِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى النَّفْسِ، وَيُهَيِّئُهَا لِلِاسْتِمَاعِ، وَلمَّا كَانَتِ التَّذْكِرَةُ مِنْ طِيبِ الْكَلَامِ كَانَ الِاسْتِعْدَادُ لِاسْتِمَاعِهَا بِالطِّيبِ مِنْ أَحْسَنِ الْفِعَالِ.
وَمِنْ سُنَنِ الْجُمُعَةِ: التَّبْكِيرُ إِلَيْهَا، وَهُوَ أَهْيَأُ فِي الِاسْتِمَاعِ؛ لِلِابْتِعَادِ عَنْ مَشَاغِلِ الدُّنْيَا مُدَّةً كَافِيَةً تُعِينُهُ عَلَى تَدَبُّرِ مَا يُلْقَى عَلَيْهِ مِنَ التَّذْكِرَةِ.
وَمِنْ مَحْظُورَاتِ الْجُمُعَةِ: الِانْشِغَالُ عَنْ خُطْبَتِهَا بِالْحَدِيثِ مَعَ الْغَيْرِ، أَوِ اللَّعِبِ بِالْحَصَى، أَوِ التَّخْطِيطِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَرُدُّ السَّلَامَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ، وَلَا يُشَمِّتُ الْعَاطِسَ؛ لِيَتَوَجَّهَ السَّمْعُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى الذِّكْرَى فَيْسَمَعُهَا وَيَنْقُلُهَا إِلَى الْقَلْبِ لِيَعِيَهَا وَيَنْتَفِعَ بِهَا.
وَمَنْ يَخْرُجُ لِلْجُمُعَةِ نِهَايَةَ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ لِيَحْضُرَ الصَّلَاةَ فَقَطْ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ التَّذْكِيرَ، وَحَرَمَ نَفْسَهُ مِنْهُ..
كَيْفَ؟ وَالمَلَائِكَةُ كَتَبَةُ حُضُورِ الْجُمُعَةِ يَطْوُونَ صُحُفَهُمْ لِلِاسْتِمَاعِ لِلذِّكْرَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْخُطْبَةِ لِلتَّذْكِيرِ بِهَا، وَحَرِيٌّ بِالْخُطَبَاءِ وَالمُسْتَمِعِينَ أَنْ يَسْتَحْيُوا مِنَ المَلَائِكَةِ الْحَاضِرِينَ بِإِظْهَارِ المَزِيدِ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْخُطْبَةِ؛ إِعْدَادًا وَإِلْقَاءً وَحُضُورًا وَاسْتِمَاعًا وَانْتِفَاعًا، وَقَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّـهِ -تَعَالَى- الَّذِي شَرَعَهَا، وَجَعَلَهَا الشَّعِيرَةَ الْكُبْرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَأَحَاطَهَا بِجُمْلَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُهَيِّئُ النَّاسَ لَهَا؛ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا، وَيَتَحَقَّقَ المَقْصُودُ مِنْهَا؛ فَإِنَّ تَعْظِيمَ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَتِهَا وَصَلَاتِهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّـهِ -تَعَالَى- (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ) [الحج: 32].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...