الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | فهد بن عبد الرحمن العيبان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
اعلموا: أن التوبة النافعة، هي التوبة النصوح المشتملة على الشروط، الشاملة لجميع الذنوب. وليحذر المسلم من الغفلة عن بعض الذنوب، فيدركه الموت قبل التوبة منها، ومما يغفل عنه كثيراً رد المظالم إلى أهلها؛ كالأموال سواء كانت مستلبة بالقوة، أو كانت ديوناً قادراً على ردها، ومع ذلك يماطل بها، ويتهاون بها، وفي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع من الصلاة على من مات وعليه ديناران، حتى قضيت عنه. وكذلك من المظالم التي يغفل عنها المظالم في...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها المؤمنون: فقد سبق وتحدثنا في الجمعة الماضية عن التوبة وفضلها، ومفاهيم خاطئة فيها، وذكرنا ما للتوبة من منزلة عظيمة عند الله -عز وجل-، فهو يفرح بتوبة عبده، بل ويحب التوابين، وما ذاك إلا لسعة رحمته وفضله على عباده مع أنه الغني عنهم.
قال صلى الله عليه وسلم: "لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش. قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده"[متفق عليه].
ولم يأت هذا الفرح من الرحمن في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبه.
عباد الله: وكما أن هناك مفاهيم خاطئة للتوبة عند بعض الناس، فكذلك هناك مفاهيم خاطئة للمعصية عند بعض الناس.
ومن هذه المفاهيم الخاطئة للمعصية: أن بعض العباد ممن ابتلى بمعصية من المعاصي يسوغ لنفسه فعل غيرها بحجة أنه لم يتب بعد من المعاصي، أو لم يستقم استقامة حقة، وهذا خطأ فاحش فسماع الحرام لا يسوغ رؤية الحرام، وأكل الربا لا يسوغ شرب الخمر.
ومثل ذلك أيضاً من إذا ابتلي ببعض المحرمات؛ كأكل الربا، أو شرب الخمر، أو سماع الحرام ورؤيته، أو غيرها من المنكرات سوّغ لنفسه ترك الطاعات؛ كالصلاة مثلاً، وهذا كله من تسويل الشيطان وتلاعبه ومخادعته لابن آدم، فهو يزين له المعصية تلو الأخرى، ويأتي له بالحجة الشيطانية: أن التوبة تجب ما قبلها، إذاً فأكثر من المعاصي، فالمعصية الواحدة كالعشر لا فرق.
ثم لا يزال به الشيطان حتى يزين له ترك العبادات والطاعات بحجة شيطانية أخرى، وهي أن يلقي في قلب صاحب المعصية أنه منافق إذ كيف يصلي وهو لم يتب من هذه المعاصي، وما يريد إبليس منه إلا الازدياد في المعاصي والتدرج فيها، حتى يخرجه من دائرة المعصية إلى دائرة الكفر.
ومن المفاهيم الخاطئة في المعصية: أن بعض الناس قد يجاهر بمعصيته، أو يدعو إليها بقوله، أو بفعله.
ولا شك أن المجاهرة بالمعاصي، أو الدعوة إليها أشنع في الجرم من مجرد المعصية، وأبعد عن المعافاة والتوبة، قال: "كل أمتي معافى إلى المجاهرين"[متفق عليه].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من دل على ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"[مسلم].
ومما ينبغي التنبيه له كذلك: أن فعل المعاصي لا يسوغ للإنسان بغض الطاعة وأهلها، وحب المعصية وأهلها.
بل الواجب على العبد أن يجاهد نفسه على حب الطاعة وأهلها، وإن كان مقصراً في فعلها، ولم يلحق بأهلها.
وكذلك يجاهد نفسه على أن يبغض المعصية وأهلها، وإن كان فاعلاً لها، مبتلاً بها، فالمرء يحشر مع من أحب يوم القيامة، ويؤجر على حب الخير، وبغض الشر.
وإنه لمن المؤسف أن ترى بعض الناس ممن قد ابتلي ببعض المعاصي، تنفرج أساريره، وتنبسط حين يجالس أشباهه ممن يرتكبون تلك المعاصي، في حين أنه يضيق ذرعاً، وتنقبض نفسه، حين يجلس مع من ينكرون عليه معاصيه من أهل الخير والاستقامة.
مع أن الواجب عليه: أن يفرح بمجالستهم واللقاء بهم، لعل الله أن يسلك به طريقهم، ويوفقه للتوبة النصوح بسببهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن الأخطاء أيضاً: الاستهانة بالمعصية، فإذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي، لم يسغ له أن يستهين بها، ولو كانت صغيرة في نظره، فلا يليق به أن ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عظم من عصاه، فالاستهانة بالذنوب دليل الجهل، وقلة توقير الله في القلب، قال ابن مسعود: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا"[أخرجه البخاري].
وليس بغائب عنا قصة المرأة التي دخلت النار بسبب هرة حبستها، حتى ماتت.
فالاستهانة بالذنب الصغير قد يصيره كبيراً، لما قارنه من قلة الحياء والخوف من الله، وعدم المبالاة.
-ومن المفاهيم الخاطئة: أن صاحب المعصية قد يستهين بالطاعات اليسيرة بحجة أنه واقع في أمور كبيرة، فماذا تفعل هذه الطاعة اليسيرة بجانب ما يفعله من الكبائر؟ وهذا تلبيس من إبليس، فقد تكون هذه الطاعة اليسيرة بحجة أنه واقع في أمور كبيرة، فماذا تفعل هذه الطاعة اليسيرة بجانب ما يفعله من الكبائر؟ وهذا تلبيس من إبليس، فقد تكون هذه الطاعة اليسيرة في نظره، سبباً لمغفرة ذنوبه، خصوصاً إذا قام بقلبه الإخلاص في فعلها، والإقبال على الله، وفضل الله عظيم، فقد يغفر الله ذنباً من أعظم الذنوب بسبب عمل يسير، قال: "بينما كلب يُطيف بركيه -أي يدور حول بئر- كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها -أي خفها- واستقت له به فسقته إياه فغفر لها به"[متفق عليه].
فهذا فضل الله ورحمته بسبب سقيا كلب، فكيف بمن سقى مسلماً، أو أحسن إلى الناس، أو نصر المستضعفين من المسلمين.
وهذا لا يعني أن يستهين بفعل الكبائر مادام أنه محسن يفعل الخير للناس.
ومن المفاهيم الخاطئة أيضاً عند من يفعل المعصية: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله ما دام أنه يرتكب بعض المنكرات بحجة أنه مقصر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر به، بل قد ينكر من يأمر بمعروف، وينهى عن منكر، وهو واقع فيه، ويحتج عليه، بقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) [البقرة: 44].
وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره، والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف، لا للأمر بالمعروف.
بل الواجب على أهل المعاصي أن ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر، وإن كانوا واقعين فيه، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78- 79].
فانظر كيف ذمهم الله بسبب تركهم التناهي عن المنكر مع أنهم مشتركون فيه.
قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، حتى يكون سالماً ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر".
ومن المفاهيم الخاطئة كذلك: ما يظنه بعض العصاة من أن معاصيهم لا أثر لها على من حولهم، مع أن النصوص الشرعية أوضحت أنه قد يحرم المجتمع الخير والغيث، بسبب ذنوب العصاة، وكذلك قد يعمهم الله بالعقوبة بسبب ذنوب المذنبين، حيث لم يأخذوا على أيديهم، قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)[الأنفال: 25].
ومن المفاهيم الخاطئة كذلك: أن بعض الناس قد يكون له حالٌ حسنة مع الله، فيكون ذا خشية وعلم، ومسارعة إلى الخيرات، ثم يطوف به طائف من الشيطان فيزله ويغويه، ويطوح به عن سبيل الخير، فتنزل رتبته السابقة، ويفقد أنسه بالله، فيقع في بعض المعاصي، ثم بعد ذلك يوفق للتوبة، ولكن يظن أنه وإن تاب، فلا يمكن أن يعود إلى منزلته السابقة، وحاله الأولى، فيدب الضعف والفتور إليه، ويترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة إليه وخشية وتأله لله.
وهذا قصور في فهم مقاصد الشرع، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن التائبين من يعود إلى حاله الأولى قبل المعصية، ومنهم من يعود إلى أحسن من حاله قبل المعصية والتوبة.
وهذه مسألة مهمة تعتري كثيراً من الناس فيستسلمون لها، ويركنون إلى خاطر اليأس، ويرضون بالدون، فيظنون أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى حالتهم السابقة من الخير، والقرب من الله.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله وتوبوا إليه جميعاً لعلكم تفلحون.
واعلموا أن التوبة النافعة هي التوبة النصوح المشتملة على الشروط، الشاملة لجميع الذنوب.
وليحذر المسلم من الغفلة عن بعض الذنوب، فيدركه الموت قبل التوبة منها، ومما يغفل عنه كثيراً رد المظالم إلى أهلها؛ كالأموال سواء كانت مستلبة بالقوة، أو كانت ديوناً قادراً على ردها، ومع ذلك يماطل بها، ويتهاون بها، وفي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع من الصلاة على من مات وعليه ديناران، حتى قضيت عنه.
وكذلك من المظالم التي يغفل عنها المظالم في الأعراض؛ كالغيبة والقذف والنميمة، فلابد من التحلل ممن أساء إليهم، وإصلاح ما أفسد قدر الإمكان، إلا إذا كان في التحلل منهم مفسدة أكبر، فكيفي الاستغفار لهم، والثناء عليهم، في الأماكن التي أساء إليهم فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: "من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إلا الحسنات والسيئات"[أخرجه البخاري].
أيها المؤمنون: إن للتوبة والإنابة إلى الله أسباباً وأموراً معينة على تحصيلها قد يطول عرضها وذكرها في هذه الخطبة، سنعرض لها في خطبة قادمة -إن شاء الله تعالى-.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].