القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | حمد بن إبراهيم الحريقي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
إذا تأملت -رحمك الله-: الآيات القرآنية، والسنن النبوية، والحوادث الكونية، والعبر التاريخية، والواقع المعاصر، وجدت أن عامة ما يصيب الناس من شؤم وبلاء، ونكد وشقاء، وما يحيق بالأمم الماضية، والمجتمعات الحاضرة، والأفراد والدول من زلازل ومحن، وكوارث وفتن، حتى الأفراد والأسر والعوائل، فإن مرد ذلك إلى الظلم في غالب الأحيان: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ) [الكهف: 59]. (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]. معاشر المسلمين: كيف يجرأ بعد هذا ظالم على ظلم الناس في أنفسهم وأعراضهم ودمائهم وأموالهم وهو يتلو مثل هذه الآيات ويسمعها؟!
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: من الأمراض المتفشية في مجتمعنا والمنتشرة بشكل مخيف من عقوبة الله -تعالى- ذلك هو الظلم في مختلف أشكاله وصوره، فالقوي يقهر الضعيف، والغني يستغل الفقير، وصاحب العمل يستعبد عماله، ويأكل حقوقهم، أو يعطيه إياها منقوصة غير كاملة.
ولقد بين -عباد الله-: كتاب ربنا -تبارك وتعالى-: حرمة الظلم، وشناعته وعاقبة الظالم ومصيره؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويروى: أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" انتهى كلامه رحمه الله.
فالظالم من أحرى الناس بلعنة الله وعذابه وغضبه ونكاله؛ يقول سبحانه: (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 29].
ويقول جل وعز: (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ) [غافر: 52].
عباد الله: وكثيرًا ما نجد في القرآن الكريم: (وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الصف: 7] أي يزيدهم ضلالاً.
ثم إذا تأملت -رحمك الله-: الآيات القرآنية، والسنن النبوية، والحوادث الكونية، والعبر التاريخية، والواقع المعاصر، وجدت أن عامة ما يصيب الناس من شؤم وبلاء، ونكد وشقاء، وما يحيق بالأمم الماضية، والمجتمعات الحاضرة، والأفراد والدول من زلازل ومحن، وكوارث وفتن، حتى الأفراد والأسر والعوائل، فإن مرد ذلك إلى الظلم في غالب الأحيان: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ) [الكهف: 59].
(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
معاشر المسلمين: كيف يجرأ بعد هذا ظالم على ظلم الناس في أنفسهم وأعراضهم ودمائهم وأموالهم وهو يتلو مثل هذه الآيات ويسمعها؟!
فيا أيها الظالم: اتق الله قبل أن تظلم أحدًا في قليل أو كثير، أو صغير أو كبير، وتذكر تلك المواقف التي تقفها في الدنيا والآخرة، فأول تلك المواقف يوم تجد جزاء ظلمك معجلاً، دعوة مظلوم مجلجلة في الآفاق، واخترقت السبع الطباق، وجاءت إلى الجبار فأقسم جل جلاله لأنصرن صاحبها ولو بعد حين.
فحاق بك النكال والعذاب بسبب تلك الدعوة، وسبب الظلم، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم..." ومنهم: "ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين"[رواه الترمذي].
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا | فالظلم آخره يأتيك بالنـدم |
نامت عيونك والمظلوم منتبه | يدعو عليك وعين الله لم تنم |
دعوة المظلوم تصيبك في نفسك ومالك وولدك، دعوة مظلوم تقلب صحتك سقمًا، دعوة مظلوم تقلب سعادتك شقاء، دعوة مظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا: (وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 284].
وثمة موقف آخر: يوم تبلغ الروح الحلقوم، يوم تعالج سكرات الموت وكرباته: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: 93].
فأين النصير والمعين وأين الرفيق؟! فلا أحد ينجيك إلا الله!
وموقف ثالث في القبر: فهل علمت أن ظالمًا يفرش له قبره في فراش من جهنم، ويغطى بغطاء من جهنم، فيما تصعد روحه فتوصد أبواب السماء دونها فترد إلى سجين، وأسفل سافلين، ويفرش لها فراش من النار، يقول الحق -تبارك وتعالى-: (لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 41].
نعم، وكذلك نجزي الظالمين: (يَوْمَ يَغْشَـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت: 55].
ثم مع هذا كله؛ فإن هذا ليس بشيء بالنسبة إلى ما ينتظرك -أيها الظالم-: في جهنم بعد البعث والنشور -نسأل الله السلامة والعافية-.
فهل فكرت -عبد الله-: في وقوفك أمام الجبار وسؤاله لك عن هذه المظالم فهل ستعتذر أم هل ستنتصر؟ أم هل ستفتدي نفسك أم ستطلب الرجعة إلى دار الدنيا لتتخلص من المظالم؟ فكل ذلك محال وبعيد.
ثم لماذا تظلم -عباد الله-: أهي قدرتك وقوتك؟ فسوف يسلط الله عليك من هو أقدر منك، أم هي عزتك ومالك وجاهك؟ فكل ذلك صائر إلى الذل والهوان، أم هو إمهال الله لك وإغراقه عليك النعم، فتذكر: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42].
فاتق الله وأقلع عن ظلم المسلمين، وكف عن التعدي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع.
ومن صور الظلم: ظلم الجار لجاره: فيؤذي الجار جاره ويظلمه في معاشه، ويظلمه بتسليط الأغاني والأصوات المزعجة عليه، ويظلمه بمعاكسات أولاده لبناته، وغير ذلك مما يجري بين الجار وجاره.
مع أنه قد جاء الوعيد الشديد في ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: يا رسول الله لقد خاب وخسر، من هذا؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"[رواه البخاري].
أي لا يستكمل الإيمان، والبوائق هي الشرور والغوائل.
ومن أبشع صور الظلم: ظلم ذوي القربى، وأسأل القضاة في المحاكم لتقف على الحقيقة المرة، فيما يجري بين الأقارب، بل بين الأخ وأخيه على شبر من الأرض، أو حفنة قليلة من المال.
والأقارب الذين هم أولى الناس بنصرة بعضهم البعض إلا أنهم وبسبب ما فتح الله على الناس من الدنيا تسلل الداء إلى نفوسهم، فانقطعت المودات، وانفصمت العلاقات، وتسلط القريب على قريبه إلا من رحم الله، أقلق نهاره، وأسهر ليله، وبدل سعادته همًا، وصحته سقمًا، ويسره عسرًا، حتى وصل الأمر -والعياذ بالله-: بسبب كيد شياطين الإنس والجن أن بعض الأقارب قد سلط على أقاربه السحرة، فيبقى القريب يتجرع ألم الحياة وغصصها إلى أن يهلك، أو يكتب الله له الشفاء والعافية.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة | على النفس من وقع الحسام المهند |
أما يتق الله أولئك؟ أما كان الأولى أن ينصر أخاه ويقف معه وقت الشدائد والمحن؟.
ومن صور الظلم الشنيعة: ذلك الأب المسكين الذي يبكي بدمع الدم حرقة ولوعة، من ظلم من؟ من ظلم أقرب الناس إليه من ظلم من رباه وخرج من صلبه، من ظلم من أنفق عليه وسهر من أجله وتعب من أجل راحته حتى رآه رجلاً جلدًا يمشي على الأرض قويًا، وعندما أصبح خصمًا عنيدًا لوالده يضربه ويشتمه ويلعنه في حياته قبل مماته.
فوا عجبًا لمن ربيت طفلاً | ألقمه بأطراف البناني |
أعلمـه الرمايـة كل يوم | فلما اشتد ساعده رماني |
وكم علمته نظم القوافي | فلما قال قافية هجاني |
وفي القصة التي في سندها ضعف: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: نظر إلى رجل ملوي اليد، فقال له: ما بال يدك ملوية؟ قال إن أبي كان مشركًا وكان كثير المال فسألته شيئًا من ماله فامتنع، فلويت يده وانتزعت من ماله ما أردت، فدعا علي في شعر قاله، قال: فأصبحت يا أمير المؤمنين ملوي اليد، فقال عمر: الله أكبر! هذا دعاء آبائكم في الجاهلية فكيف في الإسلام؟!
ومن صور الظلم -عباد الله-: عضل البنات عن الزواج، فبعض الآباء يمنع بناته من أغلى وأعز شيء تمتلكه، من الحب الحلال الذي أباحه الإسلام، فيمنعها من الحياة السعيدة، والحنان والأمومة، وهمه الأكبر، هو: جمع الأموال، والاستيلاء على رواتب بناته، بالقوة والقهر، وكم هي القصص المأساوية في هذا المجال؟!.
ومن صور الظلم: ما يحصل من بعض الأزواج لزوجاتهم، وله صور ومظاهر شتى، فمن ذلك: حينما يرغب الزوج بمفارقة زوجته التي يكرهها، فإنه لا يسرحها بإحسان، ولكنه يلجأ إلى تنغيص حياتها، بشتى الطرق والوسائل، لكي تفدي نفسها، والله -تعالى- يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ) [النساء: 19].
ومن المعددين: من يميل إلى إحدى زوجاته، فيحيف على الأخرى، ويضر بها، يقول صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل".
فاتق الله -تعالى-: أيها الزوج، وعليك أن تمسك بمعروف، أو تسرح بإحسان: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً) [النساء: 130].
ومن صور الظلم المؤلمة: ما يقع من أرباب العمال على عمالهم، فهؤلاء الضعفة الذين تعاقدت معهم أوف عهدك معهم، ولا تستغل ضعفهم وغربتهم، ولا تنتهز عجزهم، فإن من عمل ذلك، فإن الله توعده أن يكون هو خصمه يوم القيامة، فاتق الله وأعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ولا تمنعه حقه وتبخسه راتبه، حتى وإن قل.
وإن مثل هذا الظلم هو ما دفع بعض العمالة إلى السرقة، أو قتل كفيله، أو الزنا بمحارمه، أو قتل الأسرة بكاملها كما نسمع في وسائل الإعلام، بل بعضهم يصل به الحال إلى أن يقتل نفسه، فيأتي ذلك العامل المسكين من بلاده الفقيرة، وقد باع ما يملك حتى وصل إلى هذه البلاد المباركة، ويفاجأ بالظلم المرير والبخس للحقوق، فيصل به الأمر إلى الانتحار -عياذًا بالله تعالى-.
فمن المسئول عن هذا؟
إنه أنت -أيها الظالم-: يا من بخستهم حقوقهم، فاتق الله -تعالى- فيمن تحت كفالتك من العمالة.
واعلم أن الله -تعالى-: يمهل وأن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، فأعط كل ذي حق حقه.
واتق الله -تعالى-: وأقلع عن ظلم المسلمين، وظلم العباد، وكف عن التعدي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع، فتندم في ساعة لا ينفع فيها الندم، يقول صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"[رواه البخاري].
فاللهم إنا نعوذ بك من الظلم، اللهم نعوذ بك من الظلم، اللهم لا تجعلنا من القوم الظالمين، ولا مع القوم الظالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله-: واحذروا الظلم بجميع صوره وأشكاله، ومن أعظم الظلم وأشنعه وأفظعه، هو: تجاوز العبد تجاه ربه -جل جلاله-، وذلك أن يشرك بربه غيره، وأن يجعل الإنسان لله ندًا، وهو خلقه، يقول سبحانه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13].
وكذلك من الظلم: التعدي في حدود الله، وانتهاك محارمه، يقول سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229].
أبعد الله عني وعنكم الظلم بجميع أشكاله وصوره.