المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
إن الحزن على فقد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتعبير عن محبته لن يكون في الاحتفال بمولده أو بعثته أو إسرائه أو هجرته، أو اختراع بدع ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولكن التعبير الصادق عن محبته يكون في موالاته وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه يكون في اقتفاء أثره، وتحكيم شرعه، والتزام هديه، ولئن فقدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- ولم نره، فإن سنته بين أيدينا، فمن يلتزمها محبةً له ولما جاء به من الحق والهدى؟!
الحمد لله؛ كتب الموت على الأحياء، وجعل الآخرة للحساب والجزاء، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرَّد بالخلق والأمر، وبالتدبير والملك، فلا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقرة أعيننا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله؛ لو كتب البقاء في الدنيا لأحد من الناس لكان هو أولى الناس بالخلد فيها: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ) [الأنبياء:34].
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ فقدوا الآباء والأمهات، والأولاد والزوجات، والإخوان والأخوات، وما فجعوا بشيء أعظم من فقدهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والعمل الصالح، والحذر من الدنيا وفتنتها؛ فإن الدنيا دار عمل وليست دار قرار، وإن الآخرة هي دار القرار، فخذوا من دنياكم لأخراكم: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) [النساء:77 ].
أيها الناس: مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعثته للناس نبيًّا ورسولاً، وهاديًا ومعلمًا، ثم هجرته إلى المدينة، وبناء دولة الإسلام؛ كانت أحداثًا هي أعظم الأحداث في تاريخ هذه الأمة، بل في التاريخ كله، ثم كانت الفاجعة بوفاته -صلى الله عليه وسلم- أكبر فاجعة عند المؤمنين به.
وقبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- علم بدنو أجله، واقتراب رحيله؛ فودع أصحابه -رضي الله عنهم- في حجته وقال: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"، وألمح إلى أصحابه بذلك في خطبة خطبها؛ كما روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: إن عبدًا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ؛ يخبر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلَمَنا به. رواه البخاري0
وأخبر بذلك معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما بعثه لليمن، فجعل يوصيه، فلما فرغ من وصيته قال: "يا معاذ: إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري"، فبكى معاذ جَشَعًا -أي فزعًا- لفراق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه أحمد.
وصرح به لابنته فاطمة -رضي الله عنها- فقال: "إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أَراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقًا بي". كان سببَ ذلك مرضٌ شديد ألم به، وبدايته سنة سبع في فتح خيبر؛ إذ سمَّه اليهود في شاة قدموها له هدية، فأكل منها، وما زال أثر السم فيه حتى قبضه الله تعالى.
وأول ما جاءه الوجع على إثر عودته من جنازة أحد الصحابة في البقيع؛ كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: "رجع إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعًا في رأسي وأنا أقول: وارأساه، قال: "بل أنا وارأساه"، قال: "ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"، قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، قالت: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه. رواه أحمد.
ولما أحسَّ -عليه الصلاة والسلام- بقرب وفاته استغفر للأموات من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كما روى أبو مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه- فقال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: "يا أبا مويهبة: إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي"، فانطلقت معه، فلمَّا وقف بين أظهرهم قال: "السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنِ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع أولهَا آخرُها، الآخرةُ شرٌّ من الأولى"، قال: ثم أقبل عليَّ فقال: "يا أبا مويهبة: إني قد أوتيت مفاتيحَ خزائنِ الدنيا والخلدَ فيها ثم الجنة، وخُيِّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربي -عز وجل- والجنة"، قال: قلت: بأبي وأمي، فخذ مفاتيحَ الدنيا والخلدَ فيها ثم الجنة، قال: "لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي -عز وجل- والجنة"، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف، فبدئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي قبضه الله -عز وجل- فيه حين أصبح. وفي رواية: فما لبث بعد ذلك إلا سبعًا أو ثمانيًا حتى قبض -صلى الله عليه وسلم-. رواه أحمد.
وكما استغفر -عليه الصلاة والسلام- لأهل البقيع، استغفر كذلك لشهداء أحد -رضي الله عنهم-، وودع الأحياء والأموات؛ كما روى عقبة بن عامر -رضي الله عنه- فقال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فَرَط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. رواه الشيخان.
وكان في مرضه يدور على نسائه ويقول: "أين أنا غدًا؟! أين أنا غدًا؟! حرصًا على بيت عائشة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فلما كان يومي سكن. وفي رواية يقول: "أين أنا غدًا؟!". استبطاءً ليوم عائشة. رواه الشيخان.
ولما ثقل -صلى الله عليه وسلم-، واشتد به وجعه، بعث إلى نسائه فاجتمعن، فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة -رضي الله عنها-، وقال: "إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنَّ لي فأكون عند عائشة فعلتن"، فأَذِنَّ له، فخرج -صلى الله عليه وسلم- بين العباس وعلي -رضي الله عنهما- تخط رجلاه الأرض من شدة مرضه، حتى دخل بيت عائشة.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوانُ انقطاعِ أَبْهَرِي من ذلك السم"، وهو شريان متصل بالقلب.
واشتدت حرارة جسده -صلى الله عليه وسلم- من المرض حتى إنه ليوعك كما يوعك رجلان، ودخل عليه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- وهو يوعك، قال: "فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله: ما أشدها عليك!! قال: "إنا كذلك يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر"، وقالت عائشة -رضي الله عنها- تصف وجعه: "ما رأيت رجلاً أشدَّ عليه الوجعُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". رواه الشيخان.
وآخر صلاة أمَّ الناس فيها كانت صلاة المغرب؛ كما روت أم الفضل بنتُ الحارث -رضي الله عنها- فقالت: خرج إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات، قالت: فما صلاها بعد حتى لقي الله. رواه الشيخان والترمذي واللفظ له.
فلما حضرت العشاء ما قدر أن يخرج إليهم من شدة مرضه -صلى الله عليه وسلم-، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أصلى الناس؟!"، قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قال: "ضعوا لي ماءً في المِخْضَب"، ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟!، قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب، ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: "أصلى الناس؟!"، قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، فقال: ضعوا لي ماءً في المخضب، ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: "أصلى الناس؟!"، فقلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله، قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين، قالت عائشة: كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، خرج لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يتأخر، وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاعد. رواه الشيخان.
واشتد به -صلى الله عليه وسلم- المرض عقب ذلك، فلم يخرج إليهم، وظل أبو بكر -رضي الله عنه- يصلي بالناس، ومكث في مرضه ثلاثة عشر يومًا، وكان عنده بضعة دنانير فسأل عنها عائشة فقالت -رضي الله عنها-: هي عندي، قال: "تصدقي بها"، قالت: فشغلت به، ثم قال: "يا عائشة: ما فعلت تلك الذهب؟!"، فقلت: هي عندي، فقال: "ائتني بها"، قالت: فجئت بها فوضعها في كفه، ثم قال: "ما ظَنُّ محمد أن لو لقي الله وهذه عنده؟! ما ظن محمد أن لو لقي الله وهذه عنده؟! أنفقيها". رواه أحمد. وفي رواية: قال -عليه الصلاة والسلام-: "ابعثي بها إلى عليّ، فتصدق عليّ -رضي الله عنه- بها".
وفي آخر ليلة له في الدنيا -وهي ليلة الاثنين- أمسى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جديد الموت -وهو أوله- وانتهى وقود سراج عائشة -رضي الله عنها-، فأرسلت بمصباح لها إلى امرأة من نسائها فقالت: اهدي لنا في مصباحنا من عُكَكِ السمن؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمسى في جديد الموت.
ودخلت عليه ابنته فاطمة -رضي الله عنها- وهو يجد من كرب الموت ما يجد، فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: "واكرب أبتاه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا كرب على أبيك بعد اليوم؛ إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدًا، الموافاةُ يوم القيامة". رواه ابن ماجه.
وعرف العباس -رضي الله عنه- في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- الموت، وقال: إني والله لأرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. رواه البخاري.
ولما أصبح يوم الاثنين والصحابة -رضي الله عنهم- صفوف في الصلاة كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة قال أنس -رضي الله عنه-: فنظر إلينا وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف -أي: عبارة عن الجمال البارع، وحسن البشرة، وصفاء الوجه واستنارته- ثم تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي رواية: فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده أن أتموا صلاتكم، قال: ثم دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرخى الستر. وفي رواية: فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال: "يأيها الناس: أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي".
وغشي عليه ورأسه على فخذ عائشة -رضي الله عنها-، فجعلت عائشة تقرأ عليه المعوذات وتنفث، وتدعو له بالشفاء، فأفاق وسمعها تدعو بشفائه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "لا، بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل"، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "وأخذته بحة شديدة، فسمعته يقول: "مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين"، فعلمت أنه خُيِّر.
ودخل أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي مسندته إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به، فأبَّده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصره، قالت -رضي الله عنها-: فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستن به، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استن استنانًا قط أحسن منه، وكان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"، ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قبض ومالت يده. وفي رواية: فما عدا أن فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفع يده أو إصبعه ثم قال: "في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى"، ثم قضى، وكانت -رضي الله عنها- تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي.
قالت: فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، قالت: فخرجت من فيه نطفة باردة، فوقعت على ثغرة نحري، فاقشعر لها جلدي، فظننت أنه غشي عليه فسجيته ثوبًا، قالت: فلما خرجت نفسه لم أجد ريحًا قط أطيب منها، وسجي صلى الله عليه وسلم بثوب حِبَرَةٍ.
ومات خير البرية، وأزكى البشرية، خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت المصيبة به أعظم المصيبة عند المؤمنين، ووقع قول الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزُّمر:30].
فصلوات ربي وسلامه عليه صلاةً وسلامًا دائمين ما تعاقب الليل والنهار، والحمد لله على كل حال، اللهم أجرنا والمسلمين أجمعين في المصيبة به، واخلف لنا خيرًا منها، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة كأسًا لا نظمأ بعدها أبدًا، وارزقنا مرافقته في الجنة، آمين يا رب العالمين، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على قضائه وقدره، والشكر له على إحسانه ولطفه، لا يقضي قضاءً لمؤمن إلا وهو خير له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
أيها المسلمون: جمع الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بين النبوة والشهادة؛ وذلك أن اليهود قتلوه بالسم، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لأن أحلف تسعًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُتِل قتلاً أحب إليَّ من أن أحلف واحدة أنه لم يُقتل؛ وذلك بأن الله جعله نبيًا واتخذه شهيدًا". رواه أحمد وصححه الحاكم.
واليهودية التي سمَّت النبي -صلى الله عليه وسلم- ما فعلت ذلك إلا عن ملأ من سادتها وكبار قومها من رؤوس اليهود؛ حسدًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وحسدًا لهذه الأمة أن بعث خاتم الرسل منها، ودليل ذلك، ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- فقال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاة فيها سم؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجمعوا إليَّ من كان ها هنا من يهود"، فجمعوا له، فقال: "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟!"، فقالوا: نعم. قال: "هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟!"، قالوا: نعم، قال: "ما حملكم على ذلك؟!"، قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يضرك. رواه البخاري.
ومن فعلوا ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلن يتورعوا عن فعل أي شيء بالمسلمين، وشواهد ذلك ماثلة للعيان في فلسطين، فهم أعداء هذه الأمة إلى يوم القيامة، ومن شايعهم من إخوانهم النصارى، فهم أعداء المسلمين أيضًا، وإن أراد المنافقون والجاهلون غير ذلك، وزعموا صداقتهم وأخوتهم، وحسَّنوا لدى المسلمين صورتهم؛ فإن الأحداث تفضحهم، وضغائنهم علينا تبدو منهم، ومن والى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحبه عادى أعداءه من اليهود والنصارى والمنافقين وكرههم، وامتلأ قلبه بالغيظ لله تعالى عليهم؛ بسبب كفرهم بربهم، وقتلهم لأنبيائهم، ومعاداتهم لأتباع الرسل -عليهم السلام-، وهذا أصل عظيم في دين الإسلام، وإن كرهه من كرهه؛ إذ كيف يحب المؤمن من كفروا بالله تعالى، وقتلوا أنبياءه -عليهم السلام-.
إن الحزن على فقد النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتعبير عن محبته لن يكون في الاحتفال بمولده أو بعثته أو إسرائه أو هجرته، أو اختراع بدع ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولكن التعبير الصادق عن محبته يكون في موالاته وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه يكون في اقتفاء أثره، وتحكيم شرعه، والتزام هديه، ولئن فقدنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- ولم نره، فإن سنته بين أيدينا، فمن يلتزمها محبةً له ولما جاء به من الحق والهدى؟!!
وما أسهل ادعاء محبته -صلى الله عليه وسلم-، ولكن عند التطبيق لا يثبت إلا القلائل من الرجال والنساء الذين يجانبون ما حرم الله تعالى وإن اشتهته نفوسهم، وولغ فيه غيرهم؛ محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وامتثالاً لأمره، واجتنابًا لنهيه، وقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ) [آل عمران:31-32]، وفي الآية الأخرى: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الحشر:7].
إن هؤلاء المحبين للنبي -صلى الله عليه وسلم- هم من يسألون عن سنته ويتعلمونها، ويدرسون حديثه ويحفظونه؛ ليَعْمَلُوا بها، وليُعَلِّمُوها غيرهم، ويدعوا الناس إلى امتثالها.
إنهم من يدمنون على قراءة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حِلِّه وترحاله، وسفره وغزواته، وهديه وعباداته، وأخلاقه وصفاته، في بيته ومع أسرته ومع أصحابه ومع الناس أجمعين؛ ليتلمسوا السنن، ويقتفوا الأثر؛ وذلك من شدة محبتهم له، وشوقهم إليه، فلا يشغلهم عن سيرته وأخباره شاغل، لا غنى لقلوبهم عنها، ولا يستبدلون غيرها بها.
فانظروا -يا عباد الله- هل أنتم كذلك؟! فمن كان كذلك فليحمد الله تعالى على ما أعطاه، وليسأله الثبات، وليزدد خيرًا إلى خيره، ومن كان مقصرًا فليراجع نفسه، وليدرك ما بقي من أيامه، وليعوض ما مضى من تفريطه في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- وسنته وسيرته، فالسعيد من سعد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته بالتزام سنته، وقراءة سيرته، ومعرفة أحواله، وسعد يوم القيامة بالشرب من حوضه، وبمرافقته في الجنة، والشقي من حُجز عن حوضه لتقصيره وإحداثه وتبديله.
وصلوا وسلموا...