الشاكر
كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | حسام بن عبد العزيز الجبرين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
إخوة الإسلام: رزق ربنا عظيم كثير، فتأمل هذه الأرزاق التي يغفل كثير من الناس عنها، فمن رزقه: العافية والعقل، والزوجة والولد، والجمال والقوة، والسكن واللباس والمراكب، والاستقرار النفسي والأسري، قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن زوجه خديجة -رضي الله عنها-: "إني رزقت حبها".
الخطبة الأولى:
الحمد لله على كل حال، الموصوف بصفات العظمة والجلال، الحي القيوم الكبير المتعال، له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، والمجد الكمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنـزّه عن الشريك والنديد والمثال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قدوة العباد في النيات والأقوال والأفعال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الصحب والآل.
أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه ربنا -عز وجل- ورسوله، فهذه حقيقة التقوى التي تكررت في كلام ربنا كثيرا.
إخوة الإيمان: باب شريف من أبواب العلم، كثرت في القرآن الكريم الدلائل عليه، بل لا تكاد تخلو آية من آياته إلا وقد ذُكر فيها طرف من هذا العلم، مما يدل على أهميته الكبيرة، وجاء في القرآن آيات كثيرة فيها الأمر بتعلم هذا العلم الشريف، والأصل العظيم، إنه العلم بأسماء الله وصفاتهعز شأنه: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235].
(وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة: 267].
وغيرها من الآيات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما ورد فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدرا من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك...".
وقالرحمه الله: "وأفضل سورةٍ سورةُ أم القرآن..."إلى أن قال: "وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد" ا. هـ .
وسنقف -أيها الكرام-: مع اسم من الأسماء الحسنى لله -جل وعلا-، إنه اسم الله: الرّزّاق، قال جل شأنه: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58].
وقال: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ) [الرعد: 26].
(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 11].
ورزق الله ينقسم إلى قسمين:
الأول: الرزق العام، وهو يشمل البر والفاجر، والمسلم والكافر، وكل دابة، وهذا رزق الأبدان: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)[هود: 6].
فقد تكفلسبحانهبقوتها وما يقيمها، ويسر لها أسباب الرزق: (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت: 60].
وقد استنكر الله عبادة الكفار من لا يرزقهم، قالسبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ) [النحل: 73].
عبد الله: تأمل كيف يرزق الله الجنين في بطن أمه، من خلال الحبل السري الذي يوصل إليه الرزق، ويحفظ قوته وحياته!.
تأمل كيف يرزق الثعبان في جحره!.
وتأمل كيف يرزق صغير الطير في وكره!والسمك في بحره! والنمل في جحره!.
تأمل كيف يرزق من التمساح وهو الحيوان الضخم، الذي يأكل بعضَ الحيواناتِ الكبيرة بشراهةٍ وتوحش، ومع ذلك كله مكّن الله -سبحانه- العصفور الصغير، ليدخل في فم التمساح، ويأخذ بقايا الطعام من بين أسنانه ليقتات بها، والتمساح يدعه يدخل ويخرج ولا يعرض له، فتأمل كيف أن الله -تعالى-بلطفه وحكمته جعل رزق هذا الطائر الصغير من بين أسنان هذا التمساح؟!
إن هذا عبرة، التمساح يفغر فاه، لكي تأتي الطيور تنظف ما بين أسنانه، والطيور تأكل رزقها الذي تكفل الله به، فلا إله إلا الله خير الرازقين!.
أيها الفضلاء: إننا نردد بعد كل فريضة اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، فهل نحن نستشعر معناها؟
في الحديث الذي أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني: "لو أنكم توكلون على الله -تعالى-حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا".
فاللهم أرزقنا التوكل عليك.
في الصحيح يقولعز وجلفي الحديث القدسي: "يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم".
والحقسبحانهيقول: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].
وفي صحيح مسلم: أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: "قل: اللهم! اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني".
والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل المسلم مأمور بالأخذ بالأسباب، فالطير تغذوا صباحا ولا تجلس في أوكارها.
ومن لطف الله بعباده أن يمسك عنه شيئا من رزقه، فالله لطيف بعطائه، ولطيف بمنعه: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ) [الشورى: 19].
ويقول أيضا عز شأنه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27].
وهذا من رحمة ربنا الحكيم -سبحانه-.
ورزق الله العام؛ كما مر معنا يشمل حتى الكافر، وسعة رزق الله وتوسعته عليه بأموال والأولاد، ونحو ذلك، ليست رضاه عنه، فإنهسبحانهيعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ)[المؤمنون: 54-56].
ويقول عز شأنه: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)[سبأ: 35-38].
فاللهم اجعلنا ممن يتوكل عليك حق التوكل، واجعلنا ممن قنع بما آتيته واجعلنا ممن سكن الرضا قلبه وطمأن نفسه.
واستغفروا الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه، وصلى الله وسلم على رسوله وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
إخوة الإسلام:فما مضى ذكره هو الرزق العام: رزق الأبدان.
والنوع الثاني من رزق الله: رزق خاص، هو رزق القلوب، وتغذيتها بالإيمان والعلم، يخص بها عز شأنه نخبة من عباده في عبادة الله -سبحانه-، والتعرّف إليه، والالتزام بأمره، والوقوف عند حده، لينال العبد رضا ربه، فهذا رزق إيماني.
أخرج الشيخان عن ابن مسعود -رضي الله عنه- مرفوعا: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد".
والمسلم مأمور بالأخذ بالأسباب، والسعي للرزق، مع التوكل على الله، والاعتماد عليه، والقناعة بما يرزق الله عبده.
ومما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الشأن: أن ينظر المرء في أمر الدنيا إلى من هو دونه، ففي الصحيحين مرفوعا: "إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخلْق، فلينظر إلى من هو أسفل منه".
إخوة الإسلام: رزق ربنا عظيم كثير، فتأمل هذه الأرزاق التي يغفل كثير من الناس عنها، فمن رزقه: العافية والعقل، والزوجة والولد، والجمال والقوة والسكن واللباس والمراكب، والاستقرار النفسي والأسري، قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن زوجه خديجة -رضي الله عنها-: "إني رزقت حبها".
جاء رجلٌ يشتكي إلى حكيم: الفقرَ، فقال له: هل تبيع بصرك بمائة ألف دينار؟ قال: لا، قال الحكيم: هل تبيع سمعك بمائة ألف دينار؟ قال: لا، قال: فيدك، فرجلك، فعقلك، فقلبك، فجوارحك... وهكذا عدّد له حتى بلغ الأمر مئات الألوف من الدنانير في هذا الإنسان، فقال الحكيم له: يا هذا! عليك ديون كثيرة، فمتى تؤدي شكرها؟ ومع ذلك تطلب الزيادة؟!
أخي المبارك: إذا شكرت ربك على أرزاقه امتثلت أمر ربك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
وإذا شكرت ربك على أرزاقه زادك من فضله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وأعظم من رزق الدنيا: رزق الله في الآخرة، وما أعد الله لأهل جنته: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ)[ص: 49-54].
ويقول جل شأنه: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) [الطلاق: 11].
فاللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا وارزقنا...