المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | ناصر بن محمد الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
على كلمة التوحيد الجليلة بنى الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وربَّى أمته، وأنشأ جيلاً موحِّداً يعبد الله تعالى حقَّ العبادة، ويتبرَّأ من كلِّ شريكٍ مزعوم، ووثنٍ معبود؛ ولقد كان الجاهليون قبل البَعثة في ضلال وجهل عميق، يتخبَّطون في فوضى التديُّن، وأوحال الخرافة، اتخذوا لأنفسهم معبوداتٍ مزيفةً، وأصناماً هامدةً من حجَرٍ وطِين، وتمرٍ وعجين، يقصدونها في الرخاء، وينبذونها في الشدَّة، يتوجَّه إليها عابدها، حتى إذا جاع أكلها!.
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتقوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71-72].
أما بعد: فيا أيها الناسُ، اتقوا الله -سبحانه وتعالى- حَقَّ التقوى، اتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله، يوم يُنفخ في الصور، ويُبعَث مَن في القبور، ويُظهر المستور، يوم تُبلَى السرائر، وتُكشَف الضمائر، ويتميز الَبرُّ من الفاجر.
عباد الله: يقول الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]، (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31].
معاشر المسلمين: التوحيدُ أوَّلُ شيءٍ بدأت به الرسل أقوامها، فما من نبي أُرسل لقومه إلا قال: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف:59]، وكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" هي الأصل الأصيل الذي أَرسل الله به رسلَه، وأنزل به كتبه، وشرع لأجله شرائعه، من أجلها نُصِبت الموازين، ووُضِعَت الدواوين، وانقسمت الخليقة إلى مؤمنين أتقياء، وفجار أشقياء، وقامت سوق الجنة والنار.
أخذ الله بها الميثاق على الناس يوم خلَقَهم: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأشهدهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف:172].
إنها كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة التقوى والإخلاص، والعروة الوثقى الباقية، والعهد والأساس، والمفتاح الذي يُدخَل به في الدين، وبها تكون النجاة من الكفر والنار، من قالها عُصِم دمه وماله، وحسابه على الله -تعالى-، فإن كان مؤمناً بها من قلبه نجا من النار في الآخرة، ودخل الجنة؛ "فإن الله قد حرَّم على النار مَنْ قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" متفقٌ عليه.
وهي الركن الحصين الذي تبدأ به المسيرة مع الله، قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه- حين بعثه إلى اليمن معلماً ومرشداً وحاكماً: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتَهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأخْبِرْهُم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأخبِرْهُمْ أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم، فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فإياك وكرائمَ أموالهم! واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ" متفقٌ عليه.
عباد الله: لا يستقيم بناءٌ على غير أساس، ولا فرعٌ على غير أصل، والأصل والأساس لهذا الدين هو كلمة التوحيد الخالدة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. قال سعيد بن جُبيْر والضحَّاك في قول الله -تعالى-: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256]. قالا: "هي كلمة التوحيد".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول الله -تعالى-: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) [مريم:87]. قال: العهدُ: هو شهادة أن لا إله إلا الله، والبراء من الحول والقوة إلا بالله، وألا ترجو إلا الله -عزَّ وجلَّ-.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" رواه مالك. وعند ابن حبان، والحاكم وصححه، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال موسى -عليه السلام-: يا ربّ، علمني شيئاً أذكركَ به. قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله. قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفَّة، ولا إله إلا الله في كفَّة، مالت بهنَّ لا إله إلا الله".
عباد الله: على كلمة التوحيد الجليلة بنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته، وربَّى أمته، وأنشأ جيلاً موحِّداً يعبد الله -تعالى- حقَّ العبادة، ويتبرَّأ من كلِّ شريكٍ مزعوم، ووثنٍ معبود؛ ولقد كان الجاهليون قبل البَعثة في ضلال وجهل عميق، يتخبَّطون في فوضى التديُّن، وأوحال الخرافة، اتخذوا لأنفسهم معبوداتٍ مزيفةً، وأصناماً هامدةً من حجَرٍ وطِين، وتمرٍ وعجين، يقصدونها في الرخاء، وينبذونها في الشدَّة، يتوجَّه إليها عابدها، حتى إذا جاع أكلها! وإذا ادلهمَّ به خَطْبٌ، أو أصابه ضرٌّ، لم يَرَ إلا سراباً لامعاً، وتراباً هامداً؛ (واتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً) [الفرقان:3].
ولكنَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حين جدَّد الملَّة الحنيفيَّة السمحة، وصَدَعَ بكلمة التوحيد الخالص؛ أبطل كلَّ هذه الفوضى، وهو مَنْ يدعو الناس جميعاً إلى التوحيد قائلاً: "أريدهم على كلمة واحدة، تَدِينُ لهم بها العرب، وتؤدِّي العَجَمُ إليهم الجزية: لا إله إلا الله" رواه الترمذي وحسَّنه وأحمد.
ولم يزل على ذلك حتى اقتلع جذور الوثنية من نفوس القوم، وقام بعضهم يردِّد:
أَرَبٌّ وَاحِدٌ أَمْ ألْفُ رَبٍّ | أَدِينُ إِذَا تَقَاسَمَت الأُمُورُ |
تركْتُ اللَّاتَ والعُزَّى جَمِيعَاً | كذلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ |
وأجلُّ من ذلك وأعظم؛ قول الحق -سبحانه وتعالى-: (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) [يوسف:39]. بل لقد جاء القرآن كله لبيان معنى شهادة التوحيد، وما تقتضيه، وما يناقضها.
عباد الله: إن هذه الكلمة العظيمة ليست كلمةً مجرَّدةً تقال باللسان فقط، دون أن يكون لها أثرٌ في الجوارح والأعمال والسلوك؛ بل هي كلمة عظيمة الدلالة، واسعة المعنى، كبيرة المقتضَى، ذات شروط وأركان، وآداب وأحكام؛ إذ تعني هذه الكلمة نفي الألوهية عمَّا سوى الله -عزَّ وجلَّ- من سائر المخلوقات، فلا عبادة لأصنام وأضرحة وأشجار، ولا طواف بقبور وأولياء ومزارات، ولا طاعة لمخلوق -كائناً من كان- في معصية الخالق -سبحانه-.
كما تعني هذه الكلمة إثبات الألوهية لله بالبراءة من الشرك وأهله، وإخلاص العبادة لله، وخلوص القلب من التعلق بغير الله وحده.
إنها تعني: إفراد الله -تعالى- بالعبادة، والحب، والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والإنابة، والرهبة؛ فلا يُحَب غير الله، ولا يُخاف سواه، ولا يُرجى غيره، ولا يُتوكل إلا عليه، ولا يُرغب إلا إليه، ولا يُرهب إلا منه، ولا يُحلف إلا باسمه، ولا يُتاب إلا إليه، ولا يُطاع إلا أمره، ولا يُسجد إلا له، ولا يُستعان عند الشدائد إلا به، ولا يُلجأ عند المضايق إلا إليه، ولا يُذبح إلا له وباسمه؛ لا تصديق لساحر، ولا ذهاب لكاهن، ولا طاعة لعرَّاف ومشعوذ يزعم أنه يعلم الغيب، ويدفع الضرَّ، ويجلب النفع؛ (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل:65]. (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256].
إذ معنى الكفر بالطاغوت: خلع الأنداد والآلهة التي تُدعى من دون الله من القلب، وترك الشرك بها، وبغضه وعدوانه. ومعنى الإيمان بالله: إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب، مع غاية الذل والانقياد لأمره، وهذا هو الإيمان بالله، المستلزِم للإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام-، المستلزِم للإخلاص لله في العبودية. فمعنى لا إله إلا الله: الإقرار بها علماً ونطقاً وعملاً.
وإن من الفهم السقيم -يا عباد الله- أن تفهم كلمة التوحيد على أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا هو في معزل عن توحيد العبادة، فإن هذا هو الفهم الذي أقر به الكفار والمشركون في عصر النبوة، فلم يغن عنهم شيئاً؛ (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت:61].
ولقد كان المشركون -على جهلهم وضلالهم- يدركون المعنى العظيم لهذه الكلمة، ولكن الله -تعالى- لم يُرِدْ بهم خيراً؛ إذ لو أراد الله بهم خيراً لأسمعهم، ولكن حكمته -تعالى- اقتضت أن يكفروا برسوله، ويعادوا أولياءه؛ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ) [النمل:14]. وقالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ) [ص:5-7].
وعلى شاكلتهم المنافقون، الذين تلهث ألسنتهم بهذه الكلمة في مجامع المسلمين، وعباداتهم، وغزواتهم؛ ولكن قلوبهم مشربة بنقيضها، وهو الكفر والجحود والعصيان، فصاروا في الدَّرَك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيراً؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة:16].
فأين هذا المعنى الناصع لكلمة التوحيد الجليلة من أحوال كثير من المسلمين الذين طال عليهم الأمد، وغاب عنهم الوحي، فاندثرت عندهم معالم الحنيفية السمحة، وسرت فيهم شوائب الشرك، وتنازعتهم الشهوات الفاسدة التي لوثت عقيدة التوحيد الخالص في قلوبهم، وكدَّرت صفاء العقيدة المشرق في نفوسهم، فصرفوا أنواعاً من العبادة لغير الله، وألقوا زمام أعِنَّتهم إلى الشيطان؟ يقودهم -في مناسبة وغير مناسبة- إلى أضرحة الموتى، يطلبون المَدَدَ من الأولياء والصالحين، ويذبحون للقبور، ويصدِّقون السحرة، ويلهثون وراء المشعوذين والكهنة، مستصرخين بهم، يرجون منهم كشف الضُّرِّ، وجلب النفع، وشفاء المرضى، ورد الغوائب، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
بل أين هذا المعنى الناصع لكلمة التوحيد -كما أراده الله- ممَّن ضيَّعوا مقتضياتها، لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ثم يطمعون بعد ذلك في أن يدخلوا الجنة، ويُكرموا بما فيها من النعيم المقيم، ويزحزحوا عن النار؟ قيل للحسن البصري -رحمه الله-: إن أناساً يقولون: مَن قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال: مَنْ قال لا إله إلا الله، فأدى حَقَّها وفرْضَها دخل الجنة.
أيها المسلمون: لقد ضلَّ كثيرٌ من المنتسبين إلى الإسلام الطريقَ، وأساؤوا العمل، تعلَّق المؤمنون بربٍّ خالقٍ مدبِّرٍ، إلهٍ واحدٍ، ينفع ويضر، ويثيب ويعاقب، وتعلقوا هم بعظام فانية، وأشلاء بالية، وقبور خاوية، ومخلوقات ضعيفة، لو كانت تملك شيئاً ما لبث أصحابها في التراب، وتعرضوا لصنوف الأذى والدمار.
وقف المسلمون بين يدي إله كريم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، يرفعون أَكُفَّ الضراعة إليه، ويطوفون ببيته، يرجون رحمته، ويخشون عذابه؛ ووقف أولئك التائهون أمام أوثان جامدة، وطافوا حول أضرحة خاوية، لا تعرف مَنْ عبدها ممَّن لم يعبدها؛ بل لا تعدو أن تكون هشيماً تذروه الرياح، وتراباً يملأ العيون قذى.
فهل يستوي -يا عباد الله- من تتوزَّعه الأهواء، وتتنازعه الشهوات، لا يدري أين يتوجَّه، ولا لمن يكون له الرضا والخضوع، مع مَنْ خضع للواحد الفرد الصمد -سبحانه وتعالى- فنَعِم ببرد اليقين، وراحة الاستقامة، ووضوح الطريق؟! الحمد لله؛ بل أكثرهم لا يعلمون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أن التصديق بكلمة التوحيد يجعل المسلم ينفي أربعة أمور، ويثبت أربعة أخرى؛ فينفي الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. والآلهة: هي ما قُصِدَ بشيءٍ من العبادة من دون الله، مِن جَلْبِ خير، أو دفع ضرّ. والطواغيتُ: هم مَن عُبِدَ وهو راضٍ، أو رُشِّح للعبادة. والأنداد: هو ما جذبك عن دين الإسلام من أهلٍ أو مسكنٍ أو عشيرةٍ أو مالٍ. والأرباب: مَن أفتاك بمخالفة الحقِّ، فأطَعْتَهُ؛ قال -تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31].
وأما الأمور التي يثبتها فهي قصد الله -تعالى- بالعبادة، وتعظيمه، ومحبته، وخوفه، والرجاء له؛ وقد ذكر أهلُ العلمِ شُرُوطَاً سبعةً لكلمةِ التوحيد، لا تنفع صاحبها إلا باجتماعها فيه، جمعها الناظم في قوله:
عِلْمٌ، يَقِينٌ، وصِدْقُكَ مَعْ | مَحَبَّةٍ وانقيادٍ، والقَبُولِ لها |
وَزِيدَ ثامِنُهَا الكُفْرانُ مِنْكَ بِمَا | سِوى الإلهِ من الأَوْثانِ قدْ أُلِها |
فأول هذه الشروط: العلم بمعناها المراد منها؛ وهو عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة من سواه؛ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة" رواه مسلم.
وثانيها: اليقين المنافي للشك؛ بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلولها يقيناً جازماً؛ لقول الحق -سبحانه وتعالى-: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات:15]؛ وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة" رواه مسلم.
قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في شرحه على صحيح مسلم: باب: لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين؛ بل لابد من استيقان القلب، وهذه الترجمة تنبيهٌ على فساد مذهب غُلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كافٍ في الإيمان، والأحاديث تدل على فساده؛ بل هو معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطلٌ قطعاً.
والشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه.
والشرط الرابع: الانقياد التام لما دلَّت عليه؛ (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [لقمان:22]؛ وقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به" رواه الطبراني وأبو نعيم، وصحَّحه النووي.
والخامس: الصدق المنافي للكذب، وهو أن يقولها صدقاً من قلبه، يواطئ قلبُه لسانَه عليها، لا كما فعل المنافقون الذين قال الله -تعالى- عنهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:8-9].
والسادس من شروطها: الإخلاص لله، وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، مخلصاً من قلبه، يصدِّق بها لسانه، إلا فتق الله لها السماء فتقاً، حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحقٌّ لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سُؤْلَه" رواه النَّسائي، وإسناده صحيحٌ.
وأما السابع من شروطها: فهو المحبة لهذه الكلمة، ولما اقتضته ودلَّت عليه، وكذا الحب لأهلها الملتزمين بشروطها، العاملين بها، وبُغْض ما يناقض ذلك، ولاءً وبراءً لله وفيه؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار" متفقٌ عليه.
ومن علامة حب العبد لربه: تقديم محابِّه وإن خالفت هواه، وبغض ما يُبغضه الله وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله، ومعاداة من عاداهما، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، واقتفاء أثره، وقبول هَدْيِه.
اللهم صَلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.