كتاب باللغة العربية، للشيخ خالد بن عبد الرحمن الشايع - أثابه الله - يحتوي على عدة مباحث تتعلق بمسألة عذاب القبر ونعيمه، وبعض المسائل المتصلة بالحياة البرزخية.
التفاصيل
الحياة البرزخية المقدمة رحلة الروح المؤمنة بين السماء والأرض رحلة الروح الفاجرة بين السماء والأرض القبر.. عذابُه ونعيمه طائفة من كلام الأئمة حول عذاب القبر ونعيمه بعض أحوال أهل القبور أسباب عذاب القبر أسباب النجاة من عذاب القبر مسائل في الحياة البرزخية الحياة البرزخيةخالد بن عبد الرحمن الشايعبسم الله الرحمن الرحيم المقدمة}الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذه مباحث تتعلق بمسألة عذاب القبر ونعيمه، وبعض المسائل المتصلة بالحياة البرزخية، كنت قد أعددتها ضمن حلقات برنامج الدار الآخرة: مشاهد وعظات، الذي أُعده وأُقدمه من خلال إذاعة القرآن الكريم من المملكة العربية السعودية، ولطلب بعض أهل العلم والفضل نُشر ما قدمته عبر الإذاعة فقد لبيت طلبهم واخترت هذه المباحث التي بين يديك من بين عدد من المباحث الأخرى، لما أرجوه فيها من موعظة القلوب وتذكير النفوس بمعادها لبارئها – جل وعلا- وهي مناسبة أيضا لأن تكون موضوعات لخطب الجمعة والقراءة منها في بعض المجالس. والله أسأله التوفيق والسداد، والأمن يوم الفزع الأكبر، وأن يشمل بذلك والدي وذريتي وإخواني وأخواتي من المسلمين والمسلمات.وصلى الله وسلم على نبينا محمد. وكتب: خالد بن عبد الرحمن بن حمد الشايع.الرياض ص.ب : 57242عصر يوم الجمعة: 12/1/1419هـ رحلة الروح المؤمنة بين السماء والأرض تحت هذا العنوان نستعرض حديثا شريفا من أحاديث المصطفى ﷺ، وفيه وصف دقيق للحظات الأخيرة من حياة الإنسان، ثم بيان للرحلة الكبرى للروح بين السماء والأرض حتى تصير لمستقرها في العذاب أو في النعيم، نسأل الله الكريم من فضله، والعافية من أسباب سخطه وأليم عقابه. وهذا الوصف الذي نحن بصدده ينتظم ويشمل جميع أرواح المكلفين من العباد، المؤمنين والكافرين، المتقين والفاسقين، وها هو الوصف نسوقه للتو بطوله وبمجموع ألفاظه ورواياته. فعن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: خرجنا مع النبي ﷺ في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله ﷺ مستقبل القبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه – ثلاثا – فقال : «استعيذوا بالله من عذاب القبر – مرتين أو ثلاثا» ثم قال : «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر - ثلاثا» ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة ([1])، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت – عليه السلام – حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة – وفي رواية: المطمئنة – أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِيِّ السقاء، فيأخذها – وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم.فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى:}تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ{ [الأنعام:61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها، فلا يمرون – يعني بها – على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون : فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها ([2])، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله – عز وجل- اكتبوا كتاب عبدي في عليين }وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ{ [المطففين: 19-21]، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فيرد إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولو عنه مدبرين. فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام. فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله ﷺ. فيقولان له : وما عملك؟ فيقول:قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينتهره، فيقول: من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله – عز وجل-}يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا{ [إبراهيم:27]، فيقول : ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد ﷺ. فينادي مناد في السماء : أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه – وفي رواية: يمثل له – رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول : أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له : وأنت فبشرك الله بخير من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول : أنا عملك الصالح، فو الله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله، بطيئا في معصية الله، فجزاك الله خيراً. ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال : رب عجل قيام الساعة كي ما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن». تلكم هي رحلة الروح المؤمنة، حيث يحيطها الله برعايته ويكلؤها بعنايته، فضلا منه – جل وعلا – ونعمة، كي ترجع تلك الروح التي عرفت ربها وعبدته في الدنيا إلى ربها راضية مرضية، ولنتلبث الآن عند رحلة أخرى، مفزعة مخيفة، ألا وهي رحلة الروح الفاجرة.... *** رحلة الروح الفاجرة بين السماء والأرض أما رحلة الروح الكافرة أو الفاجرة فها نحن نسوقها كما ساقها الصادق المصدوق ﷺ إذ قال: «وإن العبد الكافر – وفي رواية : الفاجر – إذا كان في إقبال من الدنيا وانقطاع من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها، كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب. فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله ﷺ: }لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ{ [الأعراف:40]، فيقول الله – عز وجل- اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم يقال :أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحا، حتى تقع في جسده، ثم قرأ:}وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ{ [الحج:31]. فتعاد روحه في جسده، قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه. ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولون له : من ربك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد، فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك. قال : فيقال: لا دريت ولا تلوت([3])، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه. ويأتيه – وفي رواية: ويمثل له – رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول : وأنت فبشرك الله بالشر من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول : أنا عملك الخبيث، فو الله ما علمت إلا كنت بطيئا عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شراً. ثم يقيض له أعمى أصم أبكم، في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان ترابا، فيضربه ضربة حتى يصير بها ترابا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة اخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول : رب لا تقم الساعة»([4]). وبعد أيها الأخ الكريم ويا أيتها الأخت الكريمة تلك هي الرحلة العظمى للروح بين السماء والأرض، فليت شعري على أي طائر ستكون رحلة أرواحنا ومن من الملائكة سيستقبلون أرواحنا، وبأي اسم سننادي به في ذلك العروج وكيف سيكون حالنا في تلك الفتنة الكبرى في القبر، وماذا سيكون نزلنا في دار البرزخ، وهل سنكون معذبين فيه أم منعمين. لا ريب أيها الأخوة الكرام أن كل مسلم يأمل ويرجو النجاة من عذاب الله تعالى والفوز برضاه، ولكن لو حاسب الإنسان نفسه فسيتبدى له ملامح من حاله التي هو عليها، قال الله تعالى: }بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{ [القيامة: 14، 15]، والحلال بين والحرام بين، وما كان الله معذبا أحدا حتى يقيم عليه الحجة ويبلغه ويبين له، وبعد ذلك فحكم الله بين إذ قال سبحانه: }أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ{ [السجدة: 18]. والآن عد إلى نفسك وزنها بأعمالها فإن وجدت الإحسان والإقبال على الطاعات والتقاصر عن الموبقات فأمل رضي الله والنجاة واستمر على فعل الخيرات. وإن وجدت التقصير والانهماك في أنواع السيئات وترك الواجبات فأنت مخطور، فبادر إلى ربك تائبا وتملق بين يديه معتذرا، وأبشر بعد ذلك بوعد الله }فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ [الفرقان:70]. وفقنا الله جميعاً لفعل الخيرات واجتناب المنكرات ورزقنا السعادة في الدنيا والآخرة.*** القبر.. عذابُه ونعيمه أخي القارئ.. أختي القارئة: نقرر هنا ما قرره أئمة أهل السنة والجماعة من وجوب الإيمان بعذاب القبر ونعيمه. فللناس ثلاثة مراحل يمرون بها، الأولى : هذه الحياة الدنيا، والثانية : مرحلة البرزخ، والثالثة : الحياة في الدار الآخرة، حيث البقاء الأبدي الذي لا زوال ولا انقضاء. والحياة في دار البرزخ حياة خاصة، وفيها يفتنون، وينعمون أو يعذبون، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، «وهذا هو مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين»([5]). ومن النصوص القرآنية الدالة على عذاب القبر: قول الله تعالى في سورة غافر: }وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{ [غافر: 45، 46]. قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – عند تفسير هذه الآية : «إن أرواحهم – أي فرعون وأتباعه – تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال: }وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ{أي أشد ألماً، وأعظمه نكـالاً، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهو قوله تعالى }النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا{.أ.هـ([6]). ومن النصوص القرآنية – أيضا – قوله تعالى: }فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{ [الطور:45-47]. والأظهر في المراد بقوله تعالى: }وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِك{ الأظهر أن المراد به العذاب في البرزخ – كما نبه إلى ذلك العلامة ابن القيم – رحمه الله في كتاب "الروح" ([7]) – وقال: «قد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – على عذاب القبر».وأما الأحاديث النبوية الصحيحة عن المصطفى ﷺ في إثبات عذاب القبر فهي كثيرة مستفيضة، وقرر بعض الأئمة تواترها عنه ﷺ ([8]). ومن الأحاديث حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه – المخرج في "السنن" و "المسند" والذي سقناه من قبل، وهو أتمها سياقاً. ومن الأحاديث الدالة على عذاب القبر أيضا: ما رواه البخاري في "صحيحه" ([9]) عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله ﷺ عن عذاب القبر فقال: «نعم، عذاب القبر» وفي لفظ: «عذاب القبر حق»، قالت عائشة –رضي الله عنها- فما رأيت رسول الله ﷺ بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. وفي "الصحيح" أيضا ([10]) عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – قالت : قام رسول الله ﷺ خطيبا، فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة، زاد النسائي قول أسماء "ضج المسلمون ضجة حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله ﷺ في آخر كلامه، قال : «قد أوحي إلى أنكم تفتنون في القبور، قريباً من فتنة الدجال». وفي "صحيح مسلم" ([11]) عن زيد بن ثابت قال: بينما رسول الله ﷺ في حائط لبني النجار على بغلته، ونحن معه إذ حادت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: «من يعرف أصحاب هذه القبور؟» فقال رجل : أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء؟» قال: ماتوا في الاشراك فقال: «إن هذه الأمة تبتلي في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه»، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر»، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال : «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، قالوا : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوذوا بالله من فتنة الدجال»، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال. وفي "صحيح مسلم" و"السنن"([12]) عن أبي هريرة – رضي الله عنه –أن النبي ﷺ قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال». ومن الأدلة المقررة لحقيقة عذاب ما رواه مسلم في "صحيحه" ([13]) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي ﷺ كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال». وفي "الصحيحين"([14]) عن أبي أيوب قال: خرج النبي ﷺ وقد وجبت الشمس فسمع صوتا، فقال: «يهود تعذب في قبورها». وبما تقدم أيها الأخوة الكرام يتبين أن للناس في قبورهم حياة أخرى، لها خصوصياتها وتعلق الروح بالبدن فيها تعلق خاص، والناس في تلك الحياة البرزخية ينالهم من العذاب أو النعيم بحسب أعمالهم التي قدموها في حياتهم الدنيا. كما أن ذلك العالم البرزخي من عالم الغيب الذي يجب علينا أن نؤمن به وفق ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة. كما سنوضح ذلك فيما بعد بعون الله إضافة لبعض المسائل الأخرى المتعلقة بعذاب القبر ونعيمه وما يتصل بهما. أسأل الله الجواد الكريم أن يجعل قبورنا ووالدينا وإخواننا المسلمين رياضا من رياض الجنة. طائفة من كلام الأئمة حول عذاب القبر ونعيمهننقل بعضا من كلام الأئمة العلماء في تقرير هذه المسألة. وذلك أن أهل السنة متفقون على «أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، فيحصل له معها النعيم والعذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها، وقاموا من قبورهم لرب العالمين»قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : «وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة» ([15]). ونقل العلامة ابن القيم عن الإمام احمد بن حنبل أنه قال: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال أو مُضل. وقال حنبل: قلت لأبي عبد الله – يعني الإمام احمد بن حنبل – في عذاب القبر، فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها، ونقر بها، كل ما جاء عن النبي ﷺ إسناد جيد أقررنا به، إذا لم نقر بما جاء به رسول الله ﷺ، ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: }وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ{ [الحشر:7] قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال : حق، يعذبون في القبور ([16]). وقرر ذلك شيخ الإسلام في مواضع عديدة من مؤلفاته، ومنها ما قرره في "العقيدة الواسطية" حيث قال : «ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر ونعيمه، فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل : من ربك، وما دينك ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فأما المؤمن، فيقول : ربي الله، وديني الإسلام ومحمد ﷺ نبي، وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق »([17]). وقال العلامة الطحاوي الحنفي في عقيدته السلفية الشهيرة إن أهل السنة والجماعة يؤمنون: «بعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير في قبره، عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله ﷺ، وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران»أ.هـ ([18]). وعن عذاب القبر ونعيمه يقول العلامة ابن القيم: "ومما ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور"([19]). "وهذا البرزخ الذي هو ما بين الدنيا والآخرة يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة ولكل منهم نصيبه من عذاب البرزخ أو نعيمه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب، وكيفياتهما، فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادا وذري بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الرياح أنه ينجو من ذلك، فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال : قم، فإذا هو قائم بين يدي الله فسأله ما حملك على ما فعلت؟ فقالت: خشيتك يا رب وأنت أعلم، فرحمه الله وعفا عنه. وهذه القصة مخرجة في "الصحيح" على لسان المصطفى ﷺ([20]). فعذاب البرزخ ونعيمه لا يفوت تلك الأجزاء التي صارت رمادا، حتى لو علق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الريح لأصاب جسده وروحه من نعيم البرزخ وعذابه نصيبه. ولو دفن الرجل الصالح في طبقات من نار لأصاب جسده وروحه من نعيم البرزخ نصيبه وحظه، فيجعل الله النار عليه بردا وسلاما، فعناصر العالم ومواد منقادة لربها وفاطرها وخالقها، يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده، بل هي طوع مشيئته، مُذلة منقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته.اهـ ملخصا من "الروح"([21]). ومما ينبغي أن يعلم أن أمور البرزخ من الغيب الذي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يؤمن به مجملاً حيث أجمل، ومفصلاً حيث فصل، كما جاء في القرآن العظيم والسنة المطهرة، ولكن قد يظهر الله تعالى لبعض عباده شيئا من أحوال أهل القبور، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : «فقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا أصوات المعذبين في قبورهم، ورأوه بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة، ولكن هذا لا يجب أن يكون دائما على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حالة دون حال»([22]). ومن الأدلة على ذلك ما رواه البخاري ([23]) عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : مر النبي ﷺ بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي ﷺ «يعذبان وما يعذبان في كبير »([24]), ثم قال «بلى ([25]) كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة» ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له : يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال ﷺ : «لعله أن يخفف عنهما، ما لم ييبسا». وروى الطحاوي([26]) بسند حسن عن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ أنه قال : «أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه نارا، فلما ارتفع عنه، قال: علام جلدتموني؟ قالوا إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره». ومما شوهد في هذا الباب ما ذكره ابن أبي الدنيا في "كتاب القبور" ونقله عنه العلامة ابن القيم في كتاب "الروح"([27]) عن أحد ثقات التابعين وهو سويد بن حجير قال: مررنا في بعض المياه التي بيننا وبين البصرة، فسمعنا نهيق حمار، فقلنا لهم : ما هذا النهيق؟ قالوا: هذا رجل كان عندنا كانت أمه تكلمه بالشيء فيقول لها: انهقي نهيقك، فلما مات سمع هذا النهيق من قبره كل ليلة. والواقع في هذا الباب كثيرة يضيق المقام عن إيرادها، ومهما يكن من أمر، فإن تلك القبور، وإن بدت للناظرين ساكنة، ولكن ما في داخلها أمر آخر، فكم من معذب فيها مغمور محزون، وكم منعم فيها فرح مسرور. والله المستعان. بعض أحوال أهل القبور خرج البخاري في كتاب التعبير – أي تعبير الرؤى وتفسيرها – من "جماعة الصحيح"([28]) باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، عن سمرة بن جندب – رضي الله عنه – الطويل قال : كان رسول الله ﷺ يعني مما يكثر أن يقول لأصحابه : «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قال : فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة : «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني»، [أي أتاه ﷺ ملكان في المنام وأيقظاه وهذا نوع من الوحي لأن رؤيا الأنبياء وحي كما هو معلوم] ثم ذكر ﷺ ما رأى في تلك لرؤيا، ونذكر منها ما هو متعلق بموضوعنا هذا مما رآه ﷺ من أحوال بعض الذين يعذبون في قبورهم، ومن ذلك : قوله : «وأنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه، فيثلغ رأسه – أي يشدخه ويكسره – فيتدهده الحجر هاهنا – أي يتدحرج – فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى»وجاء في تمام الحديث بيان حال هذا الرجل وهو «أنه الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة».وفي هذه المعصية يقول الله تعالى : }فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ{ [الماعون:4،5]. قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله- في تفسير هذه الآيات : }سَاهُونَ{إما عن وقتها الأول، فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها، والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، ولكن من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمل له النفاق العملي" أ.هـ ([29]). ومما جاء في حديث المنام الذي رواه سمرة بن جندب عنه ﷺ أنه قال : «فأتينا على نهر – أحمر مثل الدم – وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي جمع عند حجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه ففغر له فاه فألقمه حجرًا» وجاء في تمام الحديث أن ذلك الرجل الذي يسبح في نهر الدم هو آكل الربا، قال ابن هبيرة –رحمه الله - : إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة، لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر، وأما إلقاء الملك له الحجر، فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئا، وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد، والله من ورائه يمحقه" ([30]). ولئن كان هذا العذاب لآكل الربا في البرزخ فهو مستمر معه حتى يقوم من قبره يوم البعث من القبور، كما قال تعالى : }الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ{ [سورة البقرة:275]. أي أنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكراً. قال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق ([31])، وقيل إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحبالى وكلما قاموا سقطوا، والناس يمشون عليهم، وإنما جعل ذلك شعارا لهم ليعرفوا به يوم القيامة، ثم العذاب من وراء ذلك ([32]). ومما جاء في حديث المنام في وصف الذين يعذبون في قبورهم قوله ﷺ : «فأتينا على مثل التنور – وفي رواية : أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار – قال: فإذا فيه لغط وأصوات، قال : فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا..»أي : ارتفعت أصواتهم متألمين. وجاء في تمام الحديث بيان أولئك هم الزناة من الرجال والزواني من النساء. قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – مناسبة العري لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة، فعوقبوا بالهتك، والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون كنايتهم من أعضائهم السفلى " ([33]). وذلك يوجب على كل مسلم ومسلمة الحذر غاية الحذر من هذا الذنب العظيم وأن يحذر من أسبابه وما يوصل إليه، مثل الخلوة المحرمة، أو تعاطي أسباب الفتنة مثل التبرج وإظهار مفاتن المرأة، وهكذا إطلاق البصر بالنظر إلى المحرمات واستماع الأغاني التي هي محرض من المحرضات على مواقعة الفاحشة، وغير ذلك من الأسباب والوسائل. وجاء في حديث المنام المشار إليه أيضا قوله ﷺ : «فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد – وهي حديدة معوجة الرأس – وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه»[أي يقطع ويشق وجهه من جهة الفم إلى الوراء] ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب، حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثلما فعل المرة الأولى»وجاء في تمام الحديث أن ذلك المعذب هو «الذي يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق». ومن الذين رآهم النبي ﷺ يعذبون في قبورهم أقوام وقعوا في الغيبة المحرمة، يوضح ذلك ما رواه الإمام أحمد ([34]) وأبو داود ([35]) عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله ﷺ : «لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نُحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». وبما تقدم يعلم أن تلك الذنوب التي ارتكبها أولئك الذين رآهم النبي ﷺ يعذبون يخشى على من واقعها مثل ذلك العذاب. وهذا يوجب الحذر منها. وأيضاً هنالك نماذج آخرى مبثوثة في مواضعها تبين بعض ما أظهره الله لخلقه من عذاب أهل القبور أو نعيمهم. نسأل الله الجواد الكريم أن يتغمدنا بعفوه ورحمته وأن يشمل بذلك والدينا وإخواننا المسلمين.* * * أسباب عذاب القبر في هذا السياق سطر العلامة ابن القيم – نور الله عليه في قبره – فصلا بديعا في كتابه الجليل "الروح"([36])، نذكره هنا مع شيء من الاختصار، وقد استفتحه بقوله: يقول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور، وجواب ذلك من وجهين:مجمل، ومفصل: أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحاً عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه، ولا بدناً كانت فيه أبداً، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذا الدار ثم لم يتب مات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب. وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي ﷺ عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقاً، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان أعظم عذاباً، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيهاً على أن من ترك الصلاة التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهو أشد عذاباً، وأخبر ﷺ كما في رواية أن أحد هذين اللذين يعذبان كان يأكل لحوم الناس فهو مغتاب وذلك نمام، وجاء عنه ﷺ - أيضاً – أن رجلا ضرب في قبره سوطاً فامتلأ القبر عليه ناراً لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره، وأخبر ﷺ كما في حديث سمرة بن جندب الذي رواه البخاري عن تعذيب من يكذب لكذبة تبلغ الآفاق، وعن تعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار، وعن تعذيب الزناة والزواني، وعن تعذيب آكل الربا، أخبر عنهم كما شاهدهم في البرزخ، وفي حديث آخر أخبر ﷺ «عن رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، وعن الذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، وعن الذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقارض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب » وجاء في حديث رواه ابو سعيد عنه ﷺ «ذكر أرباب بعض الجرائم وعقوباتهم : فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة آل فرعون وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم، وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزواني، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم، وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وهم الذين يمزقون أعراض الناس » وأخبر ﷺ «عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل عليه ناراً في قبره، هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق فيه!».فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله: فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور، وقاذف المحصن، والموضع في الفتنة، والداعي إلى البدعة، والقائل على الله ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامي وآكل السحت من الرشوة وغيرها، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق، أو مال المعاهد، وشارب المسكر والزاني واللوطي، والسارق والخائن والغادر، والمخادع والماكر، وآخذ الربا ومعطيه، وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له، والمحتال على إسقاط فرائض الله، وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل الله، والمفتي بغير ما شرعه الله، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم الله، والملحد في حرم الله، والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول الله ﷺ، والنائحة والمستمع إليها، ونواحوا جهنم، وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله والمستمع إليهم، والذين يبنون المساجد على القبور، ويوقدون عليها القناديل والسرج، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بذلوه، والجبارون والمتكبرون والمراؤون، والهمازون واللمازون، والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم، وأعوان الظلمة الذين باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته بالله وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر، فإن خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه، والذي يهدي بكلام الله ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا، فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه، والذي يقرأ القرآن فلا يؤثر فيه، وربا استثقل به، فإذا سمع قرآن الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق، طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب وود ان المغنى لا يسكت، والذي يحلف بالله ويكذب، فإذا حلف بالولي أو برأس شيخه أو أبيه أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين أقرانه وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان الذي تركه الخلق اتقاء شره وفحشه، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، وينقرها ولا يذكر الله فيها إلا قليلا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق، مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظه ونظره ولا من لفظه ولا أكله ولا خطوه، ولا يبالي بما حصل من المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم، ولا يرحم الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي للعالمين، ويمنع الماعون، ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه، وبذنوبهم عن ذنبه. فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها وصغرها وكبرها ما لم يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم. ولما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات، كما تغلي القدوة بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها. تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالاً، ونادت يا عُمَّار الدنيا لقد عمرتم داراً موشكة بكم زوالاً، وخربتم داراً أنتم مسرعون إليها انتقالاً، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستبقاء، ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبرة، رياض من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. *** أسباب النجاة من عذاب القبر يقول العلامة ابن القيم – رحمه الله – في هذا السياق ([37]): إن الأسباب المنجية من عذاب القبر من وجهين مجمل ومفصل – ونحن ننقل كلامه هنا مع شيء من التصرف : أما المجمل فهو: تجنب الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفع أسباب تجنب عذاب القبر، أن يجلس الإنسان عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر الله واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله ﷺ عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرا وفقه لذلك ولا قوة إلا بالله. وأما الجواب المفصل: فنذكر أحاديث عن رسول الله ﷺ فيما ينجي من عذاب القبر: فمن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه"([38]) عن سليمان الفارسي – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان». «ومعنى الرباط: الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار، والثغر : كل مكان يخيف أهله العدو، ويخيفهم، والرباط فضله عظيم وأجره كبير، وأفضله ما كان في أشد الثغور خوفاً ([39])، وهل يدخل في ذلك مرابطة رجال الأمن لحفظ أمن المسلمين وحراسة مصالحهم في عموم الجهات، الظاهرة كذلك، والمطلوب احتساب الأجر، ويذكر في هذا السياق قول المصطفى ﷺ «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»رواه الترمذي ([40]). ومما ينجي من عذاب القبر ما دل عليه ما رواه النسائي ([41]) عن رجل من أصحاب النبي ﷺ أن رجلا قال : ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة»، ورى الترمذي وابن ماجه ([42]) وغيرهما بسند صحيح عن المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه – عن رسول الله ﷺ قال: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه»هذا لفظ ابن ماجة، وعند الترمذي: «ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه»، وهذا بعض فضل الجهاد في سبيل الله والاستشهاد فيه. ومما جاء فيما ينجي من عذاب القبر : ما ثبت عند أبي داود ([43]) والترمذي ([44]) وابن ماجه ([45]) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"([46]) عن أبي هريرة –رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال : «سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له » فدل هذا الحديث وما جاء في معناه من الآثار على أن من حافظ على قراءة سورة الملك وداوم على ذلك وعمل بها دلت عليه فإنها تنجيه من عذاب القبر. ومما جاء فيما ينجي من عذاب القبر : ما صح عن النبي ﷺ أنه قال: «من يقتله بطنه، فلن يعذب في قبره» رواه الترمذي ([47])، وهذا يحمل من أصيب بداء البطن أن يصبر ولا يجزع، ويحتسب الأجر عند الله، وإن احتسبه أهله كذلك. ومما يستأنس به في هذا الباب ما رواه ابن حبان في صحيحه وغيره عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال : «إن الميت إذا وضع في قبره، إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه. فيؤتي من قبل رأسه، فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل، ثم يؤتي عن يمينه، فيقول الصيام ما قبلي مدخل، ثم يؤتي عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتي من قبل رجليه، فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس، فيجلس، وقد مثلت له الشمس وقد أدنيت للغروب، فيقال له : أرايتك هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟! وماذا تشهد به عليه؟ فيقول : دعوني حتى أصلي، فيقولون : إنك ستفعل، أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه، وماذا تشهد عليه؟ قال : فيقول: محمد، أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له : هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال له : هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدأ منه، فتجعل نسمته في النسم الطيب، وهي طير يعلق في شجر الجنة، قال فذلك قوله تعالى: }يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ{ [إبراهيم:27] إلى آخر الآية. ثم ذكر تمام الحديث([48]). وقد دل على أن تلك الأعمال من الصلاة والزكاة والصيام وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس من أسباب النجاة من عذاب القبر وكربه وفتنه. والجامع في ذلك تحقيق التقوى لله تعالى بأداء ما أوجبه الله وترك ما حرمه عليه، والإكثار من التوبة والاستغفار وفضائل الأعمال، والاستعاذة بالله من عذاب القبر. كما قال سبحانه : }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ{ [الأحقاف:13]. اللهم اجعل قبورنا وإخواننا المسلمين رياضا من رياض الجنة، وقنا الفتن ما ظهر منها وما بطن يا كريم. مسائل في الحياة البرزخية ([49]) المسألة الأولى: أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، بحسب إيمانه وأعماله، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح بعد مفارقة البدن تكون منعمة أو معذبة، وأنها قد تعذب حيناً من الدهر ثم يبدل العذاب نعيماً إذا طهرت من أوزارها، وأن الروح تتصل بالبدن أحياناً، فيحصل له معها النعيم أو العذاب، فالقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، فكل من مات وهو مستحق للعذاب أو النعيم نال نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، والله سبحانه هو الخالق البارئ، وهو على كل شيء قدير، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العباد، للحساب والجزاء ([50]). المسألة الثانية: اعلم – رحمني الله وإياك – أن من شدائد القبر وكربه ضمته وضغطته التي لا ينجو منها أحد، فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال : «إن للقبر ضغطة، فلو نجا أو سلم أحد منها، لنجا سعد بن معاذ» رواه الإمام ([51]) أحمد وغيره من حديث عائشة، وروى النسائي عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال : «هذا [يعني سعد بن معاذ] الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه»([52]). وللحافظ الذهبي – رحمه الله – تعليق لطيف على هذا الموضوع، أسوقه هنا بحروفه كما أورده في «سير أعلام النبلاء»([53]) حيث قال : هذه الضمة ليست من عذاب القبر في شيء، بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألم فقد ولده وحميمه في الدنيا، وكما يجد من ألم مرضه، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار، ونحو ذلك، فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد وما هي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم، ولكن العبد التقي يرفق الله به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه، قال الله تعالى : }وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ{ [مريم:19]، وقال }وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ{ [غافر:18] فنسأل الله تعالى العفو واللطف الخفي، ومع هذه الهزات فسعد ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء – رضي الله عنه – كأنك ياهذا تظن أن الفائز لا يناله هول في الدارين، ولا روع ولا ألم ولا خوف، سل ربك العافية، وأن يحشرنا في زمرة سعد".أ.هـ اللهم إنا نسألك العفو والعافية وأن تحشرنا في زمرة محمد بن عبدالله عبدك ورسولك وصحابته البررة. المسألة الثالثة: أن الأرواح مخلوقة كبقية المخلوقات فهي مصنوعة مربوبة مدبرة بأمر الله جل وعلا ([54])، قال الحافظ القرطبي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: }وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي{ [الإسراء:85]، (1) دليل على خلق الروح، أي هو أمر عظيم وشأن كبير، من أمر الله تعالى، مبهما وتارك تفصيله، ليعرف الإنسان على القطع عجزه عن علم حقيق نفسه مع العلم بوجودها"([55]). وعن موت الروح، قال : شارح العقيدة الطحاوية: "والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب"([56]) كما تقدم بيانه. المسألة الرابعة: أن طائفة من الناس ضلت ضلالاً مبيناً فزعمت أن الأرواح تتناسخ بمعنى أن الروح بعد مفارقتها للبدن تحل في أبدان وأجسام أخرى تتناسب معها، فزعموا أن منها ما يحل في الحيوانات وفي الحشرات وفي الطيور وغير ذلك مما يناسبها ويشاكلها، وهذا القول قول باطل مخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو كفر بالله واليوم الآخر([57]). وهذا المذهب الباطل ظهر قديماً، وعاد للظهور في زماننا المعاصر بثوب جديد وسمى بـ(الروحية الحديثة) أو تحضير الأرواح، وقد راجت هذه الفكرة الباطلة في بعض بلاد الغرب وأسست لها جمعيات خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في حدود عام 1882 م ولم تزل ضلالاتهم وأباطيلهم ظاهرة لكل عاقل متبصر ([58]). وفي هذا السياق يقول الحافظ القرطبي – رحمه الله – في كتابه "المفهم". "ولا يلفت لقول التناسخية القائلين بأن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر لينالوا السعادة أو الشقاوة، وهو قول مناقض لما جاءت به الشريعة ولما أجمعت الأمة عليه، ومعتقده يكفر قطعا، فإنه أنكر ما علم قطعا من إخبار الله تعالى، وإخبار نبيه ﷺ عن أمور الآخرة، وعن تفاصيل أحوالها، وأن الأمر ليس على شيء مما قالوه، فالتناسخ والقول به باطل، محال عقلا" ([59]) أ.هـ. وبهذا يعلم أن للروح معادا بعد خروجها من الجسد في هذه الحياة الدنيا، فتلتقي الروح بالجسد مرة أخرى أكمل التقاء وأعظمه، لينال كل مكلف جزاء ما سعى في هذه الحياة الدنيا. المسألة الخامسة: أين يكون مستقر الأرواح بعد الموت؟ وقد بحث العلامة ابن القيم – رحمه الله – هذه المسألة في كتاب "الروح" وساق عددا من الأقوال، ثم ذكر القول الراجح وقال : "الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت". فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي ﷺ ليلة الإسراء. ومنها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، لأن منهم من تحبس روحه عن دخول الجنة لسبب من الأسباب، مثل الدين وعقوق الوالدين والغلول من الغنيمة ونحو هذا، فيحبس الشهيد لأجل ذلك عن دخول الجنة أو يحبس على بابها، أو يحبس في قبره، ومن الشهداء من يكون مقره باب الجنة، ومنهم من أعطى جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، كما كان ذلك لجعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – حيث أبدله الله بيديه اللتين قطعتا في الجهاد في سبيله – تعالى – بجناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة حيث شاء. ومن الناس من يكون محبوساً في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحاً سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجمع بالأنفس السماوية، كما أنها لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك. كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله عز وجل وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله سبحانه يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، ويجعل روح المؤمن مع الأرواح الطيبة، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك. ومن الأرواح ما يكون في تنور الزناة والزواني، ومنها ما يكون في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كما جاء في حديث المنام الذي رواه سمرة بن جندب، وقدمناه من قبل. وبهذا يعلم أنه ليس للأرواح، سعيدها وشقيها مستقر واحد بعد مفارقتها الأبدان، بل منها ما يكون في أعلى علين، ومنها ما يكون في الأرض السفلى، لا تصعد عن الأرض ([60]). ومما يعين على تفهم ذلك تأمل المسألة التالية، وهي: المسألة السادسة : وهي أن الله – جل وعلا – قد قضى أن تكون الدور ثلاثا، دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، وجعل سبحانه لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح، ولهما في كل دار من هذه الدور الثلاثة حكم وشأن مختلف عن الأخرى. ودار الدنيا: هي الدار التي نشأت النفس فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة، وأحكام دار الحياة الدنيا متوجهة إلى الأبدان، والأرواح تبع لها، ولأجل ذلك جعل الله سبحانه الأحكام الشرعية مرتبه على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه. ويتخلل تعلق الروح بالجسد في دار الدنيا تعلق أخص، وهو تعلقها به عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، وآخر وهو تعلقها به في حال النوم، فإن للروح بالجسد تعلقا من جهة، ومفارقة من جهة أخرى. وأما الدار الثانية: وهي دار البرزخ فإنها أوسع من دار الحياة الدنيا وأعظم، بل نسبتها إلى الدنيا، كنسبة الدنيا إلى رحم الأم، وأحكام الحياة البرزخية على الأرواح والأبدان تبع لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب، تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها في البرزخ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم. فإن الأرواح وإن فارقت الأبدان وتجردت عنها في هذا الدار البرزخية إلا أنها لم تفارقها فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليها التفات ألبتة، بل لها تعلق بالأبدان على هيئة خاصة، ومما يدل على هذا ما ورد من رد الروح إلى الجسد عند سلام المسلم، وأنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ونحو ذلك من الأدلة. وأما الدار الثالثة: وهي دار القرار وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها، والله تعالى ينقل الروح في تلك الدار طبقا بعد طبق ومرحلة بعد مرحلة حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها، وهيئت للعمل الموصل إليها، وفي هذه الدار يكون تعلق الروح بالجسد أكمل أنواع تعلقاتها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذا هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا، فالنوم أخو الموت. ومن أحاط بهذا الموضع علما وعرفه كما ينبغي زالت عنه إشكالات كثيرة، مما يتعلق بالروح وتعلقاتها. فتبارك الله فاطرها ومنشئها، ومميتها ومحييها، ومسعدها ومشقيها، الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مرات علوها وأعمالها، وقواها وأخلاقها. ومن عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوة كلها، والقدرة كلها، والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه، وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله، وأن الذي جاؤوا به هو الحق الذي تشهد به العقول السليمة، والفطر المستقيمة، وما خالفه هو الباطل([61]). المسألة السابعة: هل يعرف الأموات زيارة الأحياء لهم وسلامهم أم لا؟ هذه المسألة بحثها العلامة ابن القيم –رحمه الله – في صدر كتابه "الروح"([62]) وقرر أن الميت يعرف زائره بعينه، ويرد عليه السلام، ودلل على ذلك. الأدلة : ما رواه ابن عبد البر وابن أبي الدنيا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال : «ما من مسلم يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام»([63]). وقد شرح النبي ﷺ لأمته وعلمهم إذا زاروا القبور أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية»رواه مسلم في "صحيحه"([64]). وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد، وإن لم يسمع المسلم الرد ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد والسلام عليه وهذا محال، ولولا أنهم يشعرون بالمسلم عليهم لما صح أن يسمى زائرا، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح أن يقال : زاره. وقال العلامة ابن القيم ايضا: والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به"([65]). تنبيه: مبنى هذه المسألة على صحة سماع الموتى من عدمه، أي هل الموتى يسمعون سلام المسلم عليهم وكلامه، وهذه المسألة خلافية بين أهل العلم ([66])، ولعل القول الأسعد بالدليل هو قول من قال: إن للأموات سماعا في الجملة، وذلك في الأحوال التي دلت عليها النصوص الصحيحة كسماع قرع نعال أهله إذا انصرفوا، وكسماع سلام المسلم عليه، ونحوهما، وهذا ما اختاره جمع من أهل العلم المحققين ([67]) كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والحافظ ابن كثير، والحافظ القرطبي – رحمهم الله – وغيرهم من أهل العلم، وأما الكيفية في ذلك فعلمها عند الله تعالى. وعلى كل حال، وحتى لو قيل بالسماع المطلق للأموات، فإن أرواحهم وأجسادهم في قبورهم لها خصوصية تختلف بها عن حياتهم الدنيا حيث انقطعوا بموتهم عن التصرف أو التأثير على ما خلفوه وراءهم. وفي ضوء ذلك : يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلم علم اليقين أن دعاء الأموات وسؤالهم والتوسل بهم والنذر لهم مصادم للشرع، وسفه في العقل، أما مصادمته للشرع فلأنه شرك بالله تعالى مخرج من ملة الإسلام أو ذريعة إلى ذلك، كما قال تعالى: }وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا{ [الجن"18] وقال:}وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ{ [المؤمنون:117] وقال: }ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ{ [فاطر: 13، 14]وأما كونه سفها في العقل فهو بالنظر إلى أن الذي يسأل الموتى في قبورهم وأضرحتهم يطلب منهم – غالبا - ما لا يقدرون عليه وهم أحياء، أو يطلب منهم ما هو أقدر عليه منهم لأنه حي موجود له اختياره، أما هم فإنهم قد حيل بينهم وبين الدنيا فلا مجال لتصرفهم في شيء منها. هذا تنبيه مقتضب اقتضاه وجوب بيان هذه المسألة لكثرة من أخطأ فيها ولكونها باباً مشروعا للوقوع في الشرك – والعياذ بالله – وأما التفصيل فله محله. والله نسأله التوفيق.المسألة الثامنة: هل تتلاقى أرواح الموتى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟ وهذه المسألة من أمور الغيب التي لا تعرف إلا من طريق الوحي، وقد جاء من نصوص الكتاب والسنة ما يوضحها , وبيان ذلك ([68]): أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة. فأما المعذبة فهي في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي. وأما الأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة فإنها تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها ونظيرها الذي هو على مثل عملها. وروح نبينا محمد ﷺ في الرفيق الأعلى، قال الله تعالى: }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا{ [النساء:69]، قال العلامة ابن القيم – رحمه الله – وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة. وقال الله تعالى: }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي{ [الفجر:27 – 30] والمعنى : ادخلي في جملتهم وكوني معهم، وهذا يقال للروح عند الموت. وأخبر الله – جل وعلا – عن الشهداء وما يلقونه بعد استشهادهم فقال سبحانه: }وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [آل عمران:169-171]، وهذه الآيات تدل على تلاقيهم من ثلاثة وجوه. الأول: أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وإذا كانوا أحياء فهم يتلاقون. الثاني: أنهم إنما استبشروا بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم. الثالث: أن لفظ }وَيَسْتَبْشِرُونَ{ يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون. ومما يدل على تلاقي أرواح المؤمنين بعد الموت ما صح عند النسائي وابن حبان والحاكم ([69]) عن أبي هريرة –رضي الله عنه – أن النبي ﷺ قال : «إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون اخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا، حتى يأتون به باب السماء، فيقولون : ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبة يقدم عليه، فيسألونه : ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه([70]) فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم ؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية ([71]). وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي ساخطة مسخوطا عليك، إلى عذاب الله عز وجل، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون : ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار». ومن خلال ما تقدم عرضه من أمور الحياة البرزخية وما يتعلق بها يتبين لنا شيء من فظاعة ما نحن قادمون عليه وعظيمه، ومع ذلك فإننا لا زلنا على التقصير في الطاعات والتساهل بارتكاب المنهيات، وقد غرنا طول الأمل وفسحةُ الأجل ولعمرو الحق إن هذا لتهور ما بعده تهور، وخسارة ما بعدها ربح ولا جبران، إلا أن يتغمدنا الله برحمته وسابق فضله. اللهم إنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم فإنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم ارحمنا ووالدينا وإخواننا المسلمين. وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.([1]) والمعنى: أنه في لحظات حياته الدنيا الآخرة ، وأوشك أن يبدأ حياته الآخرة الباقية.([2]) يعني : يتبعه الملائكة المقربون ليؤنسوه.([3]) أي : لا دريت ، ولا أتبعت من يدري.([4]) وهذا الحديث الصحيح رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/287 و295) بهذا السياق، ورواه أيضا أبو داود (3210) والنسائي (1/282) وابن ماجة (1548) و (1549) والحاكم (1/37-40)وأبو داود الطيالسي (753) وغيرهم بألفاظ أخرى مختصرة ومطولة ، وصححه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/214) وفي "تهذيب السنن" (4/337) ، كما نبه الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في "تفسيره" (2/131) إلى كثير من ألفاظه وطرقه، وعنى به أيضا الحافظ ابن حجر – رحمه الله - في "فتح الباري" (3/234-240) وأشار إلى جملة من ألفاظه وطرقة وضمن ذلك فوائد كثيرة ونفيسة ، وعني به أيضا العلامة المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – حفظه الله – في كتابه الفذ "أحكام الجنائز" (ص 198 -202) حيث ساقه بمجموع طرقة وألفاظه وعنه نقلنا السياق الآنف الذكر. وأصل الحديث في "صحيح البخاري" (1369) و"صحيح مسلم" (2871).([5]) "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (4/248).([6]) "تفسير ابن كثير" (4/85) ط دار السلام 1413هـ.([7]) (1/338) ط دار ابن تيمية ، تحقيق: العموش.([8]) انظر: "مجموع الفتاوى" (4/285) ، و"الروح" (1/284).([9]) رقم (1372).([10]) رقم (1373).([11]) رقم (2867).([12]) "صحيح مسلم" (588) "سنن أبي داود" (983) ، "سنن النسائي" (3/58) ، "سنن ابن ماجه" (909)..([13]) رقم (590).([14]) "صحيح البخاري" (1375) "صحيح مسلم" (2869).([15]) "مجموع الفتاوى" (4/284).([16]) انظر كتاب "الروح" (ص166) ط دار ابن كثير، تحقيق: يوسف علي بديوي. .([17]) أنظر : "العقيدة الواسطية" مع شرحها : "الروضة الندية" (ص311) ط الوطن، لشيخنا العلامة زيد بن عبد العزيز الفياض – رحمه الله ونور ضريحه - .([18]) أنظر : "شرح العقيدة الطحاوية" (ص572) ط الرسالة.([19]) "الروح" (ص168).([20]) "صحيح البخاري" (6481).([21]) (ص 201-203).([22]) "مجموع الفتاوى" (ص/296).([23]) "صحيح البخاري" (216).([24]) أي في ذنب لا يشق عليهما الاحتراز منه ، أو بمعنى أنه ليس بكبير عندهما (الفتح 1/318). .([25]) أي ولكنه كبير عند الله . أو أنه صار كبيرا بمواظبتهما عليه . .([26]) "شرح مشكل الآثار" (8/212) رقم (3185).([27]) (ص319).([28]) رقم (7047).([29]) انظر: "تفسير ابن كثير" (4/554).([30]) "فتح الباري" (12/445).([31]) "تفسير ابن كثير" (1/326).([32]) "تفسير القرطبي " (3/354).([33]) "فتح الباري" (12/443).([34]) "المسند" (3/224).([35]) "السنن" (4879).([36]) انظر : "كتاب الروح" (ص211-215).([37]) (ص216-227) ط دار ابن كثير.([38]) رقم (1913).([39]) انظر "المغنى" (13/18-20)لابن قدامه –رحمه الله-.([40]) "جامع الترمذي" (1639).([41]) "سنن النسائي" (4/99).([42]) "جامع الترمذي"(1663) ، "سنن ابن ماجه" (2799).([43]) رقم (1400).([44]) رقم (2891).([45]) رقم (3786).([46]) رقم (710).([47]) "جامع الترمذي" (1064) ورواه النسائي (4/98) أيضا.([48]) "صحيح ابن حبان" (781) "موارد" ورواه الحاكم في "المستدرك" (1/380-381) وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/52) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، وإسنادة حسن" وأورده الحفاظ ابن حجر في "الفتح" (3/237، 238) وسكت عنه فهو حسن عنده ، وحسن إسناده أيضا محقق "موارد الظمآن" (781)..([49]) مثل هذه المسائل من أمور الغيب ، ولا سبيل اإليها إلا من خلال نصوص الوحيين ، فالواجب التزامهما ، وما سواهما فليس بملزم لأحد ، ونحن إنما نعتمد هذا المسلك وفق فهم سلف الأمة وأئمتها . والله نسأله التوفيق.([50]) أنظر "مجموع الفتاوى" (4/284) و"الروح" (ص 332-333).([51]) (6/55 و 98).([52]) "سنن النسائي" (4/100) وانظر تخريج الحديث في "السلسلة الصحيحة (1695) (4/268) للشيخ الألباني.([53]) (1/290 – 291).([54]) انظر : "الروح" (ص531) ط دار ابن كثير.([55]) "الجامع لأحكام القرآن" (10/324).([56]) "شرح العقيدة الطحاوية" (2/571) لابن أبي العز الحنفي –رحمه الله- .([57]) انظر : "الروح" (ص292) ط ابن كثير.([58]) انظر : مقدمة كتاب "الروح" (1/157) بقلم المحقق د. بسام العموش.([59]) أنظر : "المفهم" (4/719).([60]) أنظر : "الروح" (ص181 و295 -296) ط دار ابن كثير ، و"شرح العقيدة الطحاوية" (2/578 -579).([61]) أنظر : "الروح" (ص 181 و 295 – 296) ط دار ابن كثير ، و"شرح العقيدة الطحاوية" (2/578 – 579).([62]) (ص 53) ط دار ابن كثير .([63]) أفاد الحافظ العراقي في تخريجه "إحياء علوم الدين" (4/522) أن ابن عبد البر خرجه في "التهيد" و"الاستذكار" بإسناد صحيح من حديث ابن عباس ، وممن صححه – اضيا – الحافظ عبد الحق الاشبيلي. قال شيخ الإسلام ابن تبيمية – رحمه الله – (الفتاوى 24/331) "قال بان المبارك: ثبت ذلك عن النبي ﷺ، وصححه عبد الحق صاحب "الأحكام" .([64]) رقم (974).([65]) انظر: "الآيات البينات في عدم سماع الأموات" للعلامة الآلوسي ، ومقدمتة التمهيدية للعلامة الألباني. .([66]) أنظر : "مجموع الفتاوى" (24/363) و"الروح" (ص53 وما بعدها) و"تفسير القرآن العظيم" (3/482 – 484) تفسير سورة الروم ، الآية : 52 ، }فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ{، و"التذكرة" (1/183) وانظر للمسألة أيضا – "تفسير أضواء البيان" (6/421 -439) تفسير سورة النمل، الآية:80 }فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ{ .([67]) انظر: المراجع السابقة ، و(ص78) من كتاب "الروح" (بتصرف) و"مجموع الفتاوى" (24/368 – 369)..([68]) قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – "واستفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا وأن ذلك يعرض عليه" انتهى المقصود المختار . انظر : "الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية " للشيخ العلامة البعلي (ص135) تحيق الشيخ أحمد بن محمد الخيل ط دار العاصمة بالرياض وانظر أيضا : ما أورده الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – في "الأضواء" (2/421 -439).([69]) "سنن النسائي" (1/260) "صحيح ابن حبان" (733 – موارد)، "المستدرك" (1/352) وانظر: "الصحيحة" (1309)..([70]) وفي رواية "دعوه حتى يستريح" .([71]) أي : إلى النار .