المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | العقيدة - التربية والسلوك - التوحيد |
لو عرفنا الله حق معرفته، وقدرناه حق قدره، لطمعنا في ثوابه، وخفنا من عذابه، ورجونا رحمته، وخشينا من عقابه، وتسابقنا على طاعته، وابتعدنا عن معصيته، وبادرنا إلى جنته، وابتعدنا عن ناره، ولكن معرفتنا به معرفة ضعيفة، جعلتنا نستهين به، ونقع بكل سهولة في معصيته ومخالفته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذى نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً، وحجب العقول والأَبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً، وأَوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجاً، وجعل قلوب أَوليائه متنقلة من منازل عبوديته بين الخوف والرجا، وأَشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، ولا سمي له، ولا كفو له، ولا شبيه له، ولا صاحبة له ولا ولد، ولا يحصي أَحد ثناءً عليه بل هو كما أَثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه خلقه، وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأَمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أَرسله ربه رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، صلى عليه صلاة تملأُ أَقطار الأَرض والسماء، وسلم تسليماً كثيراً مباركاً مزيداً.
عباد الله: إن أوجب الواجبات وأولى الأولويات أن يعرف العبد ربه وخالقه، لأن معرفة الله معرفة حقيقية هي أساس كل شيء في هذا الدين العظيم، وأول مقصد للدين كله هو التعريف بالله -جل جلاله-، إذ لا يصح أن يعبد الإنسان رباً لا يعرفه حق المعرفة، نعم حق المعرفة، لأن كل إنسان يعرف الله بالفطرة، حتى الكفار يعرفون الله، ومن ينكر معرفة الله فإنه أفاك كاذب، يعرفه في نفسه وينكر معرفته بلسانه، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف : 172].
وقد روى الترمذي -رحمه الله-: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رضي الله عنه-، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسْأَلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ..." [ الترمذي (3075) ]. فالشاهد أن الله -سبحانه- أشهد الخلق على أنفسهم فعرفوه وهم لازالوا في عالم الذر، فلا يُخلق المخلوق إلا وهو يعرف الله -سبحانه-، لكننا نريد الحديث عن المعرفة الحقيقية التي تثمر في القلب، وتؤثر فيه، وليس المعرفة الإجمالية التي كلنا فيها سواء.
إن الإنسان يجب عليه قبل أن يعرف نفسه أن يعرف خالقه، وقبل أن يستفصل في معرفة ذاته عليه أن يتعرف على الله أولاً، وقبل أن تقول لنفسك من أنا فقل لها من الذي أوجدني وجاء بي إلى هذا الكون الفسيح وهذه الحياة المعمورة؟، فإذا عرفت الله حقاً فستعرف نفسك حقاً، فمعرفة الأصل هي الأصل، ومعرفة المصدر تكون قبل معرفة أي شيء آخر، يقول تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر : 67]، ويقول -صلى الله عليه وسلم- وهو يأمرنا بالتعرف على الله: "تَعَرَّفْ على اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" [ المعجم الكبير للطبراني (11243) ].
أيها المسلمون: إن العبد إذا عرف الله عبده حق عبادته، وقدّره حق قدره، وعظمه حق تعظيمه، لأن هذه المعرفة تجعله يعبد الله وهو يعلم من هو الله الذي يعبده ويتقرب إليه، بخلاف الذي يعبد الله وهو لا يعرفه حق المعرفة فإن عبادته لربه ستكون عبادة ضعيفة باهتة، فالذي يعرفه سيعبده بإجلال وخضوع ووقار وخشوع، وبالتالي سيكثر من عبادته والتقرب إليه، ومن عرف الله أكثر سيعبده أكثر، وكلما زادت عظمة الله في قلبه كلما ازداد شوقاً له، وحباً لعبادته، والتقرب منه، لأنه يعلم أنه يتقرب إلى رب عظيم كريم، بيده مقاليد السموات والأرض، وعنده مفاتيح كل شيء، وكل شيء تحت أمره وقهره وتصرفه سبحانه، (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : 83].
ومن هنا ندرك السر في كثرة عبادة السلف لربهم، وتضحيتهم من أجله، وبذلهم للغالي والرخيص في سبيله، لأنهم عرفوا الله حق المعرفة فعبدوه حق العبادة، وضحوا في سبيله بكل شوق ومحبة، أما نحن اليوم فسبب بعدنا عن ربنا هو أننا ما عرفناه حقاً، فتقاعسنا عن عبادته، وتركنا أوامره، وارتكبنا المعاصي، وفعلنا المخالفات، وضيعنا العبادات، كل هذا لأن قلوبنا ما عرفت الله حق معرفته، وإلا فهل يعقل أن يكذب الإنسان أو يزني أو يسرق أو يأكل الحرام وهو يعرف ربه معرفة يقينية، ويعلم أن الرب -جل جلاله- يراه ويسمعه، ويطلع على جميع أحواله، ويعلم كل أسراره، كيف سيعصيه إذا كان يعرفه بهذه المعرفة.
والله لو عرفنا الله المعرفة المطلوبة لتغيرت أحوالنا تغيراً هائلاً، ولتحسنت أوضاعنا تحسناً كبيراً، ولصرنا في حال غير الحال الذي نحن عليه اليوم، لكن لما كان الجهل بالله قل خوفنا منه، وضعف رجاؤنا فيه، وجعلناه أهون الناظرين إلينا. فكثرت الجرائم التي تحدث كل يوم في واقعنا ومجتمعاتنا، كالسرقات والسطو والنصب والاحتيال والزنا واللواط، فكل هذا ما حدث إلا بسبب جهلنا بربنا وخالقنا -سبحانه-.
تخيل ولله المثل الأعلى لو أن شخصاً أعطاك كل ما تطلب، وأسدى إليك ما تحب، وأتم لك كل شيء انتقص عليك، ولم يترك شيئاً لك فيه حاجة إلا وهبه لك، فعرفته تمام المعرفة، وتيقنت من محبته لك حق اليقين، وخبرته حق الخبرة، لا شك أنك ستحبه، وستبادله الوفاء بالوفاء، وستقوم به بما تستطيع كما قام بك بكل ما يستطيع، لكن أبناؤك من بعدك ومن بعدهم ومن بعدهم، إذا لم يعرفوا هذا الشخص، ولم يطلعوا على جهوده، ولم يسمعوا بفضله، فلا شك أنهم لن يقدروه قدره، ولن يعطوه حقه الذي يستحقه، فهم لم يعرفوه خيره ولم يدركوا فضله على أبيهم من قبل؛ فالخلل إذاً يكمن في عدم المعرفة، فلو عرفوه كما يجب قدروه حق قدره، وإن لم يعرفوه فلن يقدروه قدره. وهكذا ولله المثل الأعلى، ربنا -جل جلاله وعز كماله- لن يقدره الإنسان حق قدره ولن يعظمه العبد حق تعظيمه إلا إذا عرفه، وعرف فضله، وتدبر كلامه، وعرف أسمائه، وتمعن في صفاته، وتفكر في آياته ومخلوقاته.
عباد الله: إن التعرف على الله -سبحانه وتعالى- تتم عبر أمور عديدة، أعظمها وأجلها التعرف على الله من خلال كتابه الذي أنزله للتعريف بنفسه، فالقرآن كلام الله -سبحانه-، تكلم به بنفسه، وسمعه جبريل من ربه فبلغه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ففيه من التعريف بالله ما يكفي ويوفي لمن أراد التعرف على الله -سبحانه وتعالى-.
إن تدبر القرآن الكريم، والإكثار من تلاوته، وتمعن آياته، والوقوف عند معانيه، يورث في القلب هيبة الله، وتعظيمه، ومعرفته، ومحبته جل جلاله، ولن يأتي هذا في الإنسان إلا إذا أكثر من التلاوة، والتدبر، وعاش مع القرآن وتفاعل معه تفاعلاً حقيقياً بكل مشاعره وأحاسيسه، فهنا يأتي أثر القرآن في قلب العبد، ويؤثر في نفسه، يهز مشاعره، ويحرك وجدانه، فيتعرف على ربه ومولاه من خلال كلامه وآياته العظيمة، يقول ربنا جل جلاله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر : 23 ] ويقول: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت : 49].
فالقرآن أعظم معرّف بالله -سبحانه وتعالى-، فمن أراد أن يعرف ربه حق المعرفة فعليه بالقرآن، ومن أراد أن يتقي الله حق التقوى فعليه بالقرآن، ومن أراد أن يعظمه حق التعظيم والإجلال فعليه بالقرآن، فإن ثلث القرآن يتكلم عن الله -سبحانه- وتوحيده، وعظمته، وأسمائه وصفاته، بل إن كثيراً من آيات القرآن الكريم تجدها قد ختمت باسم من أسماء الله الحسنى أو صفة من صفاته العلى، وقل أن تجد آية في القرآن الكريم لا يذكر فيها لفظ الجلالة " الله" أو اسم آخر من أسمائه -جل جلاله-.
ولو تمعنا وتدبرنا هذه الأسماء الحسنى التي سمى الله نفسه بها لتعرفنا عليه -سبحانه-، فالتعرّف على الله -سبحانه- من خلالها لا شك أنه يحقق العلم الصحيح بفاطر الأرض والسماوات، والعلم بأسماء الله وصفاته يستلزم عبادة الله ومحبته وخشيته، ويوجب تعظيمه وإجلاله، يقول قوام السنة الإمام الأصفهاني -رحمه الله-: "قال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه: معرفته، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ) [محمد: 19]، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها؛ فيعظموا الله حق عظمته، ولو أراد رجل أن يعامل رجلاً: طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها".
إن القرآن الكريم مليء بأسماء الله وصفاته، وما علينا إلا أن نتدبرها ونتأملها، ونقف معها ومع كل ما في القرآن الكريم من آيات وأحكام وقصص وأمثال، فالقرآن بكل آياته يعرفنا بالله ويدلنا عليه، ولهذا كان أعظم الناس خشية لله وعلماً به هم العلماء الربانيون، لأنهم يكثرون من تأمل القرآن وتدبره والغوص في مسائله ودلائله وأحكامه، فكانوا أخشى الناس وأتقاهم، قال الله عنهم: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا، وَنَصَبَ لَنَا الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ بُرْهَانًا مُبِينًا، وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حَقًّا يَقِينًا، وَوَعَدَ مَنْ قَامَ بِأَحْكَامِهِ وَحَفِظَ حُدُودَهُ أَجْرًا جَسِيمًا، وَذَخِرَ لِمَنْ أطاعهُ ثَوَابًا جَزِيلًا وَفَوْزًا عَظِيمًا، والصلاة والسلام على نبيه وخليله وصفوة خلقه وحبيبه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً مباركاً مزيداً.
أما بعد:
أيها الناس: ومن أعظم ما يعرّف العبد بالله بعد التفكر والتدبر لآيات الله الشرعية، التفكر والتأمل في آيات الله الكونية، فالتفكر في مخلوقات الله يورث في القلب معرفة يستدل بها العبد على عظمة الله، ويتعرف من خلالها على نعوت كماله، وصفات جلاله، وحكمه البالغة، وما له من النعم الواسعة، والأيادي المتكاثرة، وكلما تدبر العاقل وتفكر في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في التأمل فيها وما أودعه من اللطائف والحكم والعبر في خلقها، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها آيات ودلالات على ما أخبر الله -سبحانه- به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبر به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- عن الله -تبارك وتعالى، وعلم أيضاً أنها مسخرات مطيعات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فكل ما في هذا الكون آيات تدل على الله، (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت 9: 11].
فيا عجبا كيف يعصى الإله | أم كيف يجحده الجاحد |
ولله في كل تحريكة | وفي كل تسكينة شاهد |
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه الواحد |
يقول الله -تبارك وتعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران 190: 191]، فالتفكر في مخلوقات الله يحمل على الإيمان به، ويوصل إلى الإكثار من العمل الصالح كما هو واضح في الآية لو تمعناها وتدبرناها، إن التفكر في خلق الله يورث المؤمن معرفة بربه، فإذا رأى شيئاً من المخلوقات فيه قوة وشدة علم أن الله -سبحانه- وتعالى أقوى وأشد، وإذا رأى مخلوقاً عنده علم وحكمة علم أن الله أعلم وأحكم، وإذا رأى شيئاً من المخلوقات فيه رأفة ورحمة علم أن الله أرأف وأرحم وأحلم، يقول شيخ الإسلام في الفتاوى: "وكل ما في المخلوقات من قوة وشدة دل على أن الله تعالى أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة ".
أيها المسلمون: إن للجهل بالله وعدم معرفته المعرفة الصحيحة آثاراً سلبية عظيمة، ونتائج قبيحة، أعظمها وأقبحها أن يقع الجاهل بالله في أعظم ذنب ألا وهو الشرك بالله، وما وقع بنو إسرائيل في قولهم: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) إلا بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم به -سبحانه- وتعالى معرفة حقيقية، (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : 138].
إن الجهل بالله مصيبة عظيمة، وكارثة كبيرة؛ تجعل الإنسان يتخبط في هذه الحياة، لا يعرف الله، ولا يعرف شرعه، يسير من دون هدى، تتحكم فيه الأهواء والشهوات، ويتحكم فيه الشيطان والشبهات، وتسيّره النفس الأمارة بالسوء فتوقعه في المخالفات العظيمة والموبقات الكبيرة، فما وقع قوم لوط في الفاحشة إلا بسبب جهلهم بالله، وعدم تقديرهم لجنابه وعظمته، ولذلك قال لهم نبيهم: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل : 55]، ووقع قوم عاد، وقوم لوط، وقوم نوح، في الكبر والغرور واستعجال عذاب الله، وطلبهم نزوله، ولو عرفوا الله حق المعرفة لما ( قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [العنكبوت : 29]، و (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف : 22] ، كل هذا لأنهم ما عرفوا الله حق المعرفة، ولو عرفوا قوته، وقدرته، وجبروته، وشدته، وبطشه، لما تجرأوا على قولهم هذا.
وهكذا اليوم ما وقعنا في الجرائر وما اقترفناه من الكبائر إلا بسبب جهلنا بالله، وعدم علمنا به العلم الحقيقي الكامل الذي يجعلنا نحبه ونجله، فتدفعنا محبته إلى طاعته، وتنفيذ أوامره، وترك نواهيه، وتقديم مراده ومحبوباته على شهواتنا ومحبوباتنا.
لو عرفنا الله حق معرفته، وقدرناه حق قدره، لطمعنا في ثوابه، وخفنا من عذابه، ورجونا رحمته، وخشينا من عقابه، وتسابقنا على طاعته، وابتعدنا عن معصيته، وبادرنا إلى جنته، وابتعدنا عن ناره، ولكن معرفتنا به معرفة ضعيفة، جعلتنا نستهين به، ونقع بكل سهولة في معصيته ومخالفته، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي أَرى مالا تَرَوْنَ، وأسمع مالا تسمعون, أَطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا موْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ واضِعٌ جبهتهُ ساجِداً للَّهِ تَعَالى، واللَّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لضَحِكْتمْ قَلِيلاً، وَلَبكَيْتُمْ كَثِيراً، وَمَا تَلَذَّذتُم بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرجْتُمْ إِلى الصُّعُداتِ تَجْأَرُون إِلى اللَّه تَعَالَى" [ الترمذي (2312 ) ]، ويقول أَنس بن مالك -رضي الله عنه-: خَطَبَنَا رَسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قلِيلا ولبَكيْتمْ كَثِيراً" فَغَطَّى أَصْحابُ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وجُوهَهمْ، وَلهُمْ خَنينٌ" [ البخاري (4621 ) مسلم (2359) ].
فالصحابة رضي الله عنهم ما تأثروا هذا التأثر إلا لأن قلوبهم امتلأت بعظمة الله، ومعرفته، ومحبته، ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فرقت قلوبهم، وبكت عيونهم، هيبة لله، وإجلالاً له، وخوفاً منه جل جلاله.
ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من إنسه وجنه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم أرزقنا معرفتك، وحبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يعرفنا بك، ويقربنا منك يا سميع الدعاء، يا قريب يا مجيب.