القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
إن هناك ترابط وثيق وصلة محكمة بين الجلافة وبين الكفر والزندقة والنفاق، فكثير ممن يتصف بهذه الصفة القبيحة -صفة الجلافة- هم من أهل النفاق والشقاق وسيء الأخلاق، وأهل الكفر والعناد...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله: حديثنا اليوم معكم في موضوع شيق وجذاب، وإن كان في حقيقته يعد من الأخلاق الذميمة والطباع السيئة، ولكن لقلة من يتكلم فيه أو يطرق بابه كان الحديث فيه مشوقاً والكلام عنه جذاباً.
إنه موضوع الجلافة، فكلنا قد سمع بهذه الكلمة، ومرت على مسامعه هذه اللفظة، فيا ترى ماهي الجلافة؟ وما معناها؟ وما حقيقتها وصورها؟ وما مدى وجودها في واقعنا المعايش؟
إن الجلافة هي القوة الزائدة في ممارسة التعامل مع الآخرين، بمعنى التشدد الزائد في التعامل مع الأشخاص، وضدها الرفق واللين، وتقاربها الغلظة والشدة.
ومن خلال هذا التعريف البسيط يتضح لنا أن الجلافة هي خلق ذميم وصفة قبيحة تدل على الجفوة والغلظة والشدة والحدة، وهذه كلها صفات نهى الله عنها وحذر منها، وذم أهلها المتصفين بها. يقول الله -تبارك وتعالى- عن حال الأعراب الذين يتصف كثير منهم بهذه الصفات: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:97] ويقول عن حالهم: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
هذا حالهم وهكذا طبعهم، شدة في كل شيء وغلظة في كل أمر، حتى في الكفر -والعياذ بالله- يكون كفرهم أشد، ونفاقهم أغلظ، وجفاؤهم أقسى ولهذا قال الله عنهم بصيغة المبالغة (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) [التوبة:97].
وحينما أسلم بعضهم ودخل في دين الله تمنن على النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، ونسي أن من عمل صالحاً فلنفسه، وأن هذا من فضل الله عليه وليس بجهده ولا ذكائه. وهذا بسبب جفاء قلوبهم وغلظة طباعهم وانحراف مفاهيمهم يمنون على النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم حين أسلموا.
ومن المواقف الجافية لهم والتي تدل على جفائهم وجلافتهم: موقفهم القبيح الذي سطره الله في سورة الحجرات فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:4-5]. إن هذه الآية الكريمة نزلت في أناس من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء، قدموا وافدين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه وقت الظهيرة، فلم يصبروا ولم يتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، اخرج إلينا، فذمهم الله لعدم تعقلهم، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه، فإن من العقل وعلامته استعمال الأدب ولهذا قال عنهم: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
فالجلافة دليل على قلة العقل وسخافة الجلف وبلادته، ولو كان حكيماً عاقلاً لحكّم عقله وضبط تصرفاته، ولكن لقلة عقلة ولتفاهة نفسه لم يستطع التحكم في نفسه، فيزبد ويرعد ويجفو ويقسو.
أيها المسلمون: إن هناك ترابط وثيق وصلة محكمة بين الجلافة وبين الكفر والزندقة والنفاق، فكثير ممن يتصف بهذه الصفة القبيحة -صفة الجلافة- هم من أهل النفاق والشقاق وسيء الأخلاق، وأهل الكفر والعناد.
ولهذا -كما سمعتم- وصف الله كفر الأعراب المنافقين بأنه الأشد كفراً؛ لأنهم جمعوا بين الكفر والجلافة، فيدل على أن الجلافة لا يتصف بها إلا من كان في قلبه مرض وشر وطبع لئيم. بل في آيات كثيرة قرن الله بين القسوة والكفر فقال عن اليهود: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة:74].
ويقول عن أهل العصيان والطغيان: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43].
أما المؤمنون أهل الطاعة فإنهم أهل رحمة وشفقة، وقلوبهم تحمل من الرحمة والمحبة والشفقة والبعد عن الجلافة الشيء الكبير. يقول الله عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159]. ويقول -جل وعلا-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]. قست قلوبهم، وبسبب قسوة القلب يكتسي الإنسان هذا الخلق السيء، فيصبح -والعياذ بالله- من أهل الجلافة والجفاء.
إن على المسلم اللبيب العاقل أن يبتعد كل البعد عن هذا الخلق الذميم وعن أهله، وأن لا يتخلق بأخلاقهم فإنهم أهل مذمة وأهل منقصة، حذرنا الله منهم ونهانا أن نتخلق بأخلاقهم، أو نتصف بصفاتهم، أو نتطبع بطباعهم. يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَهْلِ الإِبِلِ" [أحمد (11556)]. لأن الغنم تتصف بالبساطة والحنان فتكسو مربيها التواضع والوقار والبساطة، بخلاف الإبل فإنها جلفة غليظة فيكتسب مربوها منها الجلافة والغلظة، فالحذر الحذر من الجلافة.
يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العظيم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:29]. فأهل الإيمان أشداء على الكفار، جفاة عليهم، جلاف غلاظ في التعامل معهم، لكنهم مع إخوانهم من أهل الإسلام والإيمان بسطاء رحماء، وسبب هذه الرحمة التي في قلوبهم وهذا اللين وعدم الجلافة هو طاعاتهم لربهم وشدة قربهم من مولاهم، ولهذا قال: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، الذي مدحه ربه فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: من خلال الحديث الماضي في الخطبة الأولى، يتضح أن هذا الخلق السيء موجود بيننا، ومنتشر بكثرة في واقعنا، وله صور عديدة وأشكال متلونة، ومن مظاهره وصوره:
الجلافة في أداء الطاعات وعمل الصالحات، فبعض الناس حتى في طاعاته وقرباته تلاحظ عليه الاتصاف بهذه الصفة، كما سمعتم عن حال الأعراب الذين يأتون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريدون منه الخير والطاعة والسؤال عن أمور الدين، ولكنهم يأتون بجلافتهم وحدتهم، ولا يتأدبون وينضبطون على الأقل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع هذه القربات والطاعات التي يقومون بها ويعملونها.
وكم ترى من أناس عندهم من الجلافة في النصح والتغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يجعلك تشمئز من عملهم، وتكره تصرفهم، وإن كان في أصله طاعة وخير، ولكن بسبب جلافتهم في أدائه تحول من خير إلى شر، ومن عمل ممدوح إلى عمل مذموم.
وبعضهم حتى في الصلاة يؤديها بجلافة، ولا يصلي وعليه السكينة والطمأنينة، فتراه وهو يصلي مسرعاً وكأنه يضارب نفسه أو يمزق ثيابه، بسبب جلافته في أداء أركان الصلاة من ركوع وقيام وسجود وغيرها.
ومن صور الجلافة: الجلافة مع الناس في التعامل معهم، وهذه ظاهرة منتشرة بشكل كبير في كثير من أعمالنا وتصرفاتنا، وكلنا يعرف ذلك ويفهمه ولا داعي للتفصيل في مظاهره وأشكاله. فكم من شخص -أعاذنا الله وإياكم- تجده جلفاً في التعامل حتى مع نفسه، ووالديه، وأهله، وأولاده، حاملاً لهم عصاه الغليظة، لا يسمعون منه إلا الكلمات الشديدة، والعبارات القاسية التي نزعت منها الرحمة والشفقة والليونة.
روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ:"مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ" [البخاري:5997]. وتخبرنا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يكره هذا الصنف من الناس فتقول محدثة عن رَسُول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ" [البخاري:2457، ومسلم:2668]. وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ" [أحمد:23304].
فلنحذر هذا الخلق الذميم -خلق الجلافة- ولنبتعد عن الاتصاف بهذه الصفة السيئة؛ فإنها -كما سمعتم- صفة لا يتصف بها إلا من كان ظلوماً لنفسه جهولاً مع غيره. فنسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية من هذا الخلق القبيح، المنهي عنه في كتاب الله وعلى لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا اللين والرحمة والشفقة في ديننا ودنيانا وفي كل شئون حياتنا, اللهُمَّ إنا نعوذ بك من الجلافة والجفوة والشدة والحدة وسرعة الغضب, اللهم آتي نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.