الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | أحمد السويلم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وما منَّا أحدٌ إِلَّا وهو يحبُّ أنْ يوصَفَ ويُذكَرَ بالصلاحِ، وَيَكْرَهُ أن يوصَمَ بالسُّوءِ والطَّلاح، حتى أهلُ الفسادِ والإفْسَادِ لَيأْنَفُونَ أن يوسَمُوا إِلا بالصَّلاحِ، كما قال تعالى عنهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، وَمَنْ تأَمَّلَ هذَا الوصفَ وتَصَارِيفَهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى يَجِدْه مُتَنَوِّعَ الدِّلَالَةِ، مُتَعدِّدَ الاسْتِعْمَالِ، تَدوْرُ مَعانِيْهِ حولَ مَعنَى اسْتِقَامَةِ الحَالِ وَسُلُوكِ الهُدَى، والبُعْدِ عَنْ مَسَالِكِ الفَسَادِ والرَّدَى.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الملكِ الوهابِ، الرحيمِ التوابِ، غافرِ الذنبِ وَقَابِلِ التوبِ شديدِ العِقابِ، يُصْلِحُ مَن يَشَاءُ بِفَضْلِه، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، وَهوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ.
وَأشهدُ أنْ لَا إله إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، يُقَدِّرُ لِعِبَادِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُهُم، وَيدْعُوهُم لِمَا فِيهِ نَجَاحُهُم وَفَلَاحُهُم: (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وخيرتُه مِن خَلْقِهِ، خيرُ الورى، وأكرمُ من وطئ الثرى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
عباد الله: الصَّلاحُ ومَا أدرَاكُم ما الصَّلاح؟! وصفٌ شَريفٌ، ومنزلٌ سامِقٌ مُنِيف، يشتملُ عَلى جُملةٍ من معاني الكمالِ، ويجمع كثيرًا من خَير الخصال.
وما منَّا أحدٌ إِلَّا وهو يحبُّ أنْ يوصَفَ ويُذكَرَ بالصلاحِ، وَيَكْرَهُ أن يوصَمَ بالسُّوءِ والطَّلاح، حتى أهلُ الفسادِ والإفْسَادِ لَيأْنَفُونَ أن يوسَمُوا إِلا بالصَّلاحِ، كما قال تعالى عنهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)، وَمَنْ تأَمَّلَ هذَا الوصفَ وتَصَارِيفَهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالى يَجِدْه مُتَنَوِّعَ الدِّلَالَةِ، مُتَعدِّدَ الاسْتِعْمَالِ، تَدوْرُ مَعانِيْهِ حولَ مَعنَى اسْتِقَامَةِ الحَالِ وَسُلُوكِ الهُدَى، والبُعْدِ عَنْ مَسَالِكِ الفَسَادِ والرَّدَى.
وَلَفْظُ الصَّلَاحِ -يا عباد الله- أعمُّ مِنْ أنْ يَقْتَصِرَ عَلى مَعنَى الصَّلَاحِ فِي الدِّينِ، بَل يَشْمَلُ الحِفْظَ فِي الدُّنْيَا والبَرَكَةَ في الأهلِ وَالأَمْوَالِ، واستِقَامةَ الشَّأْنِ والحَال.
وللصَّلاحِ مَوَاقِعِ كَثيرةٌ، تَتَفَاضَلُ بحسَبِ أَثَرِهَا في النَّاسِ، فصَلاحُ الفَردِ صَلاحٌ للمجتَمَعِ، وصَلَاحُ الرَّاعِي صَلاحٌ للرَّعِيِّةِ، وصَلَاحُ الآبَاءِ صَلَاحٌ لِلْأَبْنَاءِ.
وهَذَا الثَّالِثُ -أعني صلاح الآباء- مِن أَجَلِّ مَوَاقِعِ الصَّلَاحِ، وَأَعْظَمِهَا أثرًا، وأَحسَنِهَا ثَمَرةً، فَلَيسَ مِنْ أَبٍ عَاقِلٍ إِلَّا وَيُحِبُّ أنْ يَرَى أَبْنَاءَه صَالِحينَ فِي أَنْفُسِهِم، مَحفُوظِينَ فِي دُنْيَاهُمْ، فَائِزِينَ فِي أُخْرَاهُم، يَدَّخِرُهُم سَنَدًا لَهُ فِي كِبَرِه، وَذُخْرًا لهُ بَعدَ حُلُولِ أَجَلِهِ، يُحْيُونَ ذِكْرَهُ، ويَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ، هُمْ قُرَّةُ العُيُونِ، وَفَلَذَاتُ الأَكْبَادِ، وَثَمَرَاتُ الأَفئِدَةِ: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
إِنَّ الوَلَدَ الصَّالِحَ لَمِنْ خَيرِ مَا يَدَّخِرُهُ المَرْءُ لِنَفْسِهِ بعدَ وَفَاتِهِ، فَأَولَادُ الرجُلِ مِن كَسْبِهِ، وَعَمَلُهُم الصَّالِحُ مِنْ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ بِسَبَبِهِ، وَدُعَاؤُهُم الصَّالِحُ زَادٌ لَهُ فِي قَبْرِه.
وَكَمْ مِن أَبٍ كَانَ مَغْمُورًا فَصَارَ مَشْهُورًا، وَغَدَا بِالخَيرِ مَذْكُورًاً، وَحَلَّ فِي الجنَّةِ قُصُورًا، بِسَبَبِ ابنٍ لَهُ رَبَّاهُ فَأَحْسَنَ تَربِيَتَهُ، فَبَارَكَ اللهُ فِيهِ وَنَفَعَ بِهِ النَّاسَ.
فِي الحَدِيثِ عَن رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَه وَنَشَرَه، وَولدًا صَالحًا تَركَه، ومُصحفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِن مَاله فِي صِحَّته وَحَيَاتِهِ يَلَحقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوته". رَوَاهُ ابن مَاجَه بسند حسن.
إِخْوَةَ الإِيْمَانِ: في صلاح الأبناء، لَنْ يكونَ الحديثُ عَنْ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ وَأَثَرِهَا، وَلَا عَنْ الصُّحْبِةِ وَخَطَرِهَا، وَلَا عَنْ مُؤَسَّسَاتِ المُجْتَمَعِ وَمَحَاضِنِ التَّرْبِيَةِ وَدَوْرِهَا فِي إِصْلَاحِ النَّشْءِ وَتَوْجِيهِهِم، بَل حَدِيثُنا اليومَ مَعَ الآبَاءِ، الآباءِ الذينَ هُم مَعدِنُ صَلَاح الأَبْنَاءِ أَوْ فَسَادِهِم، وَسَبَبُ نَجَاحِهِم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أوْ شَقَائِهِمْ.
فَيَا أَيُّهَا الأَبُ المُشْفِقُ الرَّحِيم: اعْلَم أَنَّ صَلَاحَ أَبْنَائِكَ وَبَنَاتِكَ يَكُونُ أَوَّلَ مَا يَكُونُ مِنكَ، يَكُونُ مِن حَرَكَاتِكَ وَسَكَنَاتِكَ، يَكُونُ مِن أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ، يومَ يَنْشَأُ الاِبْنُ وتَنشَأُ البِنتُ فِي كَنَفِ أَبٍ يَخَافُ اللهَ، وَفِي أَحْضَانِ أُمٍّ تَخْشَى اللهَ تَعالى.
إِذَا حَفِظْتَ اللهَ فِي نَفْسِكَ، وَأَقَمْتَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَعَمِلْتَ صَالحًا، حَفِظَكَ اللهُ فِي نَفْسِكَ وَأَهْلِكَ وَأَوْلَادِكَ، وَأَصْلَحَ شَأْنَهُم، فِي حَيَاتِكَ وَبَعدَ مَمَاتِكَ، جَزَاءً وِفَاقًا، وَمِصْدَاقًا لِكَلِمَاتِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- التِي كَانَ يُعَلِّمُهَا ابنَ عَبَاسٍ -رضي الله عنهما-: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ".
إِنْ إِقْبَالَكَ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَتَزَوُّدَكَ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، واجْتِنَابَكَ المُحَرَّمَاتِ، لَمِنْ خَيرِ العَطَايَا التِي تُهْدِيهَا إِلَى أَبْنَائِكَ وَذُرِّيَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، لِمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عِنَايَةِ اللهَ وَحِفْظِهِ بِسَبَبِ ذَلِك.
وَفِي قَولِ اللهِ تَعَالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، قال بعض المفسرين: "فِيهِ إِرْشَادٌ لِلآبَاءِ الذِينَ يَخْشَونَ تَرْكَ ذُرِّيةٍ ضِعَافٍ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ في سَائِرِ شُؤُوْنِهِم حَتَّى تُحْفَظَ أَبْنَاؤُهُم وَتُغَاثَ بِالعِنَايَةِ مِنْهُ تَعَالى، وَفِيه تَهْدِيدٌ بِضَيَاعِ أَوْلَادِهِمْ إِنْ فَقَدُوا تَقْوَى اللهِ تَعَالى، وإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَقَوَى الأُصُولِ تَحْفَظُ الفُرُوعَ". اهـ.
إِنَّ صَلَاحَكَ -أَيُّهَا الأَبُ الرَّحِيمُ- لَا يَتَوقَفُ أَثَرُهُ عَلَى ابْنِكَ القَرِيبِ، بَل يَتَعَدَّى إِلَى ذُرِّيَتِكَ وَذُرِّيَتِهِم وَإِنْ نَزَلُوا، مِنَّةً مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ وَعَلَيْهِم، وَكَرَمًا وَفَضْلًا مِنْه سُبْحَانَه.
تَأَمَّلْ مَعِي قِصَّةَ نَبِيِّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ كَانَ مَعَ العَبدِ الصَّالِحِ: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ). أَقَامَهُ العَبدُ الصَّالِحُ وَأَصْلَحَهُ بِلَا أَجْرٍ، فَلَمَّا نَبَأَ مُوسَى -عليه السلامُ- بِخَبرِه قَالَ: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
ذَكَرُوا أَنَّه كَانَ بَينَ الغُلَامَينِ اليَتِيمَينِ وَبَيْنَ أَبِيهِمَا الصَّالِحِ سِتَّةُ آبَاءٍ!
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ -رحمه الله-: "(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا): فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يُحفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ لَهم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، بِشَفَاعَتِهِ فِيْهِم، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِم إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الجَنَّة، لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِم، كَمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ وَوَرَدَتِ السَّنَّةُ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أنَّه الأَبُ السَّابِعُ، وقِيلَ: العَاشِرُ. وَأَيًّا كَانَ، فَفِي الآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الآبَاءِ يُفِيدُ العِنَايَةَ بِالأَبْنَاءِ". اهـ.
وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: "حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُمَا صَلَاحٌ". اهـ.
ويقول الإِمَامُ العَادِلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رحمه الله-: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا حَفِظَهُ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ". اهـ.
لَقَدْ عَقَلَ الصَّالِحُونَ ذَلِكَ المَعْنَى فَزَادُوْا فِي أَعْمَالِهِم الصَّالِحَةَ رَجَاءَ أَنْ يَحْفَظَهُم اللهُ فِي ذُرِّيَاتِهِم، مِنْهُم إِمَامُ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بنُ المُسَيّبِ –رضي الله عنه- فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنِّي لَأُصَلِّي فَأَذْكُرُ وَلَدِي فَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي رَجَاءَ أَنْ أُحْفَظَ فِيهِ". وُرُوِيَ عَن بَعْضِهِم أَنَّه قَالَ لِابْنِهِ: "إِنِّي لَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِكَ يَا بُنَي".
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ –يا عباد الله- أَنَّ الكَافِرَ لَرُبَّمَا يُكَافِئُهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَيَحفَظُ لَهُ عَقِبَهُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِ الحَسَنَةَ، كما أخرجَ ابنُ جَريرٍ في تفسيره والطبرانيُّ في الكبير أن رجلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-, فَقَالَ: إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ, وَيَفِي بِالذِّمَّةِ, وَيُكْرِمُ الضَّيفَ, فقَالَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: "ماتَ قَبْلَ الإسْلامِ؟!"، قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "لَنْ يَنْفَعَهُ ذَلكَ", فَوَلَّى, فَقَال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَليَّ بالشَّيْخِ", فَجَاءَ, فَقالَ رسُول اللّهَ -صلى الله عليه وسلم-: "إنّها لَنْ تَنْفَعَهُ, وَلَكِنّها تَكُونُ فِي عَقِبِهِ, فَلنْ تَخْزَوْا أبَدًا, وَلَنْ تَذِلُّوا أبَدًا, وَلَنْ تَفْتَقِرُوا أبَدًا".
هَذَا؛ وَكُلَّمَا ازْدَادَ العَبْدُ صَلَاحًا، وَتَقَرُّبًا إِلَى رَبِّهِ، وَتَبَاعُدًا عَن أَسْبَابِ سَخَطِهِ، عَظُمَتْ بَرَكَتُهُ، وَعَمَّ أَثَرُهُ، حَتَّى لَيَحْفَظُ اللهُ بِه الفِئَامَ مِنَ النَّاسِ.
قالَ محمدُ بنُ المُنْكَدِرِ -رحمه الله-: "إِنَّ اللَّهَ لَيَحْفَظُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَالدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ وَسِتْرٍ".
وَقَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ -رحمه الله-: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيَحْفَظُ بِالعَبْدِ الصَّالِحِ القَبِيلَ مِنَ النَّاسِ".
فاللهم احفظنا في أنفسنا وأهلينا وذرياتنا، وأصلح لنا شأننا كله، وأعنا على إصلاح أنفسنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
إِخوةَ الإِيْمَانِ: مَعَ كَونِ صَلَاحِ الآبَاءِ أَرْفَعَ الأَسْبَابِ، وأَقَوَى المُؤَثِّراتِ فِي صَلَاحِ الأَبْنَاءِ بَعدَ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ، إِلَّا أَنَّه لَيْسَ حَتْمًا وَلَازِمًا؛ لأَنَّ هِدَايَةَ التَّوفِيقِ إلى الإِيْمَانِ بِيَدِ الرَحِيمِ الرَّحْمِن: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وقَدْ يَضِلُّ الآبَاءُ عَنِ الهُدَى، وَيَهْدِي اللهُ الأَبنَاءَ وَيَصْطَفِيهِم، كَحَالِ إِبْرَاهِيمَ -عَلِيهِ السَّلَامُ- مَعَ أَبِيْهِ آزَرَ، وَقَدْ يَصْطَفِي اللهُ الآبَاءَ وَيُورِثُهُم النُّبُوةَ وَيَضِلُّ الأَبْنَاءُ، كَحَالِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ ابْنِهِ الذِي نَادَاهُ: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).
وَعَلَى المَرْءِ أَنْ يُكْثِرَ الدُّعَاءَ لِرَبِهِ، وَيُلِحَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ لَهُ ذُرِّيَاتِهِ، وَيَحْفَظَهُم فِي دِيْنِهِم وَدُنْيَاهُم، فَذَلِكَ دَيْدَنُ الأَنْبِيَاءِ، وَعَادَةُ الأَتْقِيَاءِ، فَقَد كانَ إِبرَاهِيمُ -عليه السلام- يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ الابنَ الصَّالِحَ، يَتَضَرَّعُ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وَيَدعُو لِنَفْسِهِ وَلِبَنِيهِ بِالإِيْمَانِ وَالعَافِيَةِ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وَيَمْضِي فِي دَعَوَاتِهِ الصَّالِحَاتِ لِذُرِّيَتِهِ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، إِلَى قَوْلِهِ: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ).
وَزَكَرِيَا -عليه السلام- يَقُومُ فِي مِحْرَابِهِ يُنَاجِي رَبَّهُ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وَيَسْأَلُهُ الوَلَدَ الصَّالِحَ الرَّضِيَّ فَيَدْعُو: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)، وحين ذكر الله العبد الصالح قال: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وَأَثْنَى اللهُ على عِبَادِ الرَّحْمَنِ: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
هذا؛ وصلوا وسلموا...