الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | أيمن بن شعبان السكري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
ولكن ما هو العذاب البئيس الذي وقع؟! وما حكمة وقوعه في الدنيا وهي دارُ ابتلاء لا دارُ جزاء؟! وهل الساكتون الكارهون نجوا من هذا العذاب أم أخذوا به مع الظالمين؟! أما العذاب الذي وقع فلم يذكر القرآنُ شيئًا عنه سوى أنه بئيس، وكلمة (بئيس) إما أنها من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو الفقر، فإذا افتقر رجل يقال عنه: رجل بائس أو بئيس.
الخطبة الأولى:
ما زلنا نقتبس الموعظة من أصحاب السبت، الذين ذكرهم الله تعالى في أكثر من موضع في القرآن، فَذُكِرَت قصتهم بتفصيلٍ في سورة الأعراف، حيث أمر الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل أهل الكتاب سؤال تذكير ووعظ عن هذه القصة التي يعلمونها، والتي جعلها الله تعالى موعظة للمتقين، فقال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
ولقد ذكرنا القصة تفصيلًا من قبل، وتحدثنا عن اعتداء أصحاب السبت على شريعتهم، وما يقع منا -نحن المسلمين- من اعتداءٍ على شريعتنا، وتحدثنا أيضًا عن ابتلاء أصحاب السبت، وما نتعرض له -نحن المسلمين- من ابتلاء مماثل لابتلائهم؛ ليعلم الله من يخافه بالغيب، وتحدثنا أيضًا عن وعظ أصحاب السبت، وما ينبغي أن نقوم به من واجب الوعظ والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى وإن كان العصاة على علم بحرمة ما يفعلون، وحتى إن ظننا عدم استجابتهم، وذلك معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
ويدور حديثنا اليوم -إن شاء الله- عن عذاب أصحاب السبت، لنتدبر ونتفكر ونتعظ بقول الله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
لما اعتدى بعض بني إسرائيل على شريعتهم التي أنزلها الله تعالى في التوراة، فجاهروا بصيد الحيتان في يوم السبت، الذي تُحرم شريعتُهم العملَ فيه، وعظهم بعضُ الصالحين من أهل هذه القرية، فنهوهم عن هذا السوء، وذكروهم بعذاب الله الزاجر عن مخالفته، وذكروهم بثواب الله الباعث على طاعته، فظل المعتدون رغم الوعظ والنهي والتذكير على اعتدائهم، ونسوا ما ذكروا به، أي: أهملوه وأعرضوا عنه، فقال الله تعالى فيهم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
لقد أنجى الله الواعظين الذين ينهون عن السوء، أنجاهم من العذاب البئيس الذي حل بالظالمين من أهل تلك القرية، وهكذا ينجى الله الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في كل زمان ومكان يجهر فيه بالمعاصي، كما قال تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا)، أي: لم يكن من الأمم الماضية إلا عدد قليل منهم ينهون عن الفساد في الأرض، وهؤلاء القلة هم الذين أنجاهم الله عند حلول العذاب بقومهم.
فيا من ترى المنكرات ليلًا ونهارًا، سرًا وجهارًا -وكلنا نرى-، لن يُنْجِيَنا سوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا هو طوق النجاة لمن أراد النجاة في الدنيا والآخرة.
ولكن ما هو العذاب البئيس الذي وقع؟! وما حكمة وقوعه في الدنيا وهي دارُ ابتلاء لا دارُ جزاء؟! وهل الساكتون الكارهون نجوا من هذا العذاب أم أخذوا به مع الظالمين؟!
أما العذاب الذي وقع فلم يذكر القرآنُ شيئًا عنه سوى أنه بئيس، وكلمة (بئيس) إما أنها من البأس وهو الشدة، أو من البؤس وهو الفقر، فإذا افتقر رجل يقال عنه: رجل بائس أو بئيس.
وهنا تذهب الأفهامُ كلَّ مذهب، فقد يكون العذاب من البؤس وهو الفقر، ويكون عذابُهم أن ابتلوا بالفقر أو غلاء الأسعار أو نزع البركة من المال. وقد يكون العذاب من البأس وهو الشدة، ويكون عذابُهم شديدًا مؤلمًا موجعًا، كأن يبتلوا بزلزال أو بفيضان أو بإعصار، أو يبتلوا بانتشار الأمراض الموجعة فيهم ونحو ذلك من المصائب.
ولكن البأس يصيب المتقين، ويصيب الفاسقين، فما حكمة ذلك؟! أما المتقون فيبتلون بذلك ليعلم الله صدقهم وصبرهم وثباتهم على الدين، فيجزيَهم على ذلك خيرًا، ولهذا مدح الله تعالى أمثال هؤلاء بقوله: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ). وبَيَّن لهم معالم الطريق بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
ومن هذا ما أصاب المؤمنين في مكة من اضطهاد وتعذيب وتجويع وحصار في شِعْب أبي طالب، وأيضًا ما أصابهم في المدينة يوم الأحزاب. وكلُّ هذا بسبب استقامتهم على الدين.
وأما الفاسقون فيبتلون بذلك البأس، عسى أن يتضرعوا إلى الله، داعين إياه أن يكشفه عنهم، وعسى أن يُقلعوا عن فسقهم، ويتوبوا إلى الله، كما قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فمن الناس من لا يرفع يديه بالدعاء بصدق وإخلاص إلا إذا أصابته مصيبةٌ في بدنه أو أهله أو ماله، هنا فقط يذكر أن له ربًا يدعوه، وكان من قبل ذلك غافلًا أو عاكفًا على المعاصي، وعندئذ يقول: يا رب: إن كشفت ما بي لأكونن من الصالحين الشاكرين. ولهذا يبتلي الله الفاسقين بالعذاب في الدنيا عسى أن يرجعوا إليه تائبين، كما قال سبحانه: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، والعذاب الأدنى هو كل ما يصيب الإنسانَ من مصيبة في الدنيا، أما العذاب الأكبر فهو عذاب الآخرة، هو عذاب جهنم -والعياذ بالله-.
وهنا ينبغي أن نفهم أن ما يصيبُنا الآن من ضيق في الأرزاق وغلاء في الأسعار وتفشى الأوبئةِ والأمراضِ الخطيرة وتسلطِ العدو ونحو ذلك من المصائب، ينبغي أن نفهم أن ذلك بسبب انتشار المعاصي والمنكرات، وأنه دعوةٌ إلى الرجوع والتوبة إلى الله، وإلا كان الاستئصالُ المفاجئ بغتة، ثم العذابُ الأكبرُ -والعياذ بالله-.
وعندئذٍ يكون الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر طوقَ النجاة من عذاب الدنيا والآخرة، عندئذٍ لن تنجو إلا إذا كنت مصلحًا تأمر وتنهى، أما إن كنت صالحًا فقط لا مصلحًا فإنه يصيبك ما يصيب الناس من عذاب الدنيا، يقول الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، لم يقل: صالحون، وإنما قال: (مُصْلِحُونَ).
إذًا هذا إرشاد منه سبحانه إلى سنته في خلقه أن الأمم إذا خلت من المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن الفساد في الأرض حل بهم الهلاك، سواء كان هلاكَ الانحلال والاختلال، أو كان هلاكَ الاستئصال، فالمصلحون هم صمام أمن الأمة، هم لا يهددون الأمن والحريات الشخصية، بل هم الأمن القومي للأمة، فلماذا يُضطهدون ويعتقلون؟! أما الصالحون فلا يُدفع بهم هلاكٌ، بل يعمهم ما يصيب الناس من عذاب الدنيا، بدليل ما رواه البخاري في صحيحه أن أم المؤمنين زينبَ بنتَ جحش -رضي الله عنها- سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله: أَنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟! قال: "نعم؛ إذا كَثُرَ الخَبَثُ". متفق عليه. وروى أحمد في مسنده بسند حسن عن أم المؤمنين أمَّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا ظهرتْ المعاصي في أمتي عمهم الله -عز وجل- بعذاب من عنده"، فقلت: يا رسول الله: أما فيهم يومئذ أناسٌ صالحون؟! قال: "بلى"، قالت: فكيف يَصنَعُ أولئك؟! قال: "يُصيبُهم ما أصاب الناس، ثم يَصِيرون إلى مغفرة من الله ورضوان".
ولكن المعتدين في السبت لم يفهموا أن العذاب البئيس قد أصابهم بسبب فسقهم، كما قال تعالى فيهم: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). ولم يفهموا أنه دعوةٌ للرجوع والتوبة إلى الله، فعتوا واستكبروا عما نهوا عنه، وعندئذ قال الله فيهم: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من سوء الخاتمة.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
ثم أما بعد:
هل الساكتون الكارهون الذين سكتوا عن وعظ المعتدين في السبت وكرهوا اعتداءهم، وهم الذين قالوا للواعظين: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، هل هؤلاء الساكتون الكارهون أصابهم العذابُ البئيس الذي حل بأصحاب السبت؟!
برغم كل ما أسلفنا فقد اختلف المفسرون في الإجابة على هذا السؤال، فمنهم من قال: نجوا مع الناجين، ومنهم من قال: أخذوا بالعذاب البئيس مع المعتدين، ومنهم من قال: لا ندرى هل نجوا أم عذبوا.
والذي استوقفني في هذا المقام أمران: الأول: هو بكاءُ الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بسبب هؤلاء الساكتين الكارهين. والثاني: هو حديثٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بكاءُ ترجمانِ القرآن وحبرِ هذه الأمة وابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابي الجليل ابن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، فقد ذكر ابن كثير وغيره من المفسرين عن عكرمة قال: جئت ابنَ عباسٍ يومًا وهو يبكي، وإذا المصحف في حجْره، فأعظمت أن أدنو منه، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟! جعلني الله فداك، فقال: هؤلاء الورقات. قال عكرمة: وإذا هو في سورة الأعراف... وبعد أن ذكر ابن عباس لعكرمة قصة أصحاب السبت كما وردت في سورة الأعراف، قال عكرمة: ثم قرأ ابن عباس: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، ثم قال: "فأرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكروا، ونحن نرى أشياءَ ننكرها ولا نقول فيها".
انظر كيف كان الصحابة يقرؤون ويفهمون القرآن، ليست أخبارُ القرآن عن الأمم الماضية قصصًا يتلى للتسلية، وإنما للتطبيق على الواقع.
انظر لما استشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في القتال يوم بدر قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. الرحيق المختوم.
وها هو ابن عباس يتهم نفسه بأنه يرى أشياءَ ينكرها بقلبه ولا يقول فيها، يعنى يسكت فلا يأمر ولا ينهى، ولما قرأ قصة أصحاب السبت في سورة الأعراف، ورأى أن الله تعالى نص على نجاة الواعظين الذين ينهون عن السوء دون أن ينص على نجاة الساكتين الكارهين خاف أن يكون مصيرُه في الدنيا إلى العذاب البئيس، فبكى.
لماذا تبكي يا ابن عباس؟! هل رأيت الربا يُستحل بقانون، والزنا يُستحل بقانون، والخمر يستحل بقانون، وسكتَّ؟! لماذا تبكي يا ابن عباس؟! هل رأيت نساء المسلمين بالملابس الضيقة والكعبِ العالي والمِشيةِ المتبخترة والضحكة المتكسرة والشعرِ المكشوف؟! هل رأيت هؤلاء المتبرجاتِ وصورَهن تملأ محلاتِ وإعلاناتِ المسلمين، وسكتَّ؟! لماذا تبكي يا ابن عباس؟! هل رأيت الذين يتكسبون من المحرمات، فيبيعون شيئًا محرمًا، أو شيئًا مباحًا يستعان به على معصية وهم يعلمون، أو يمتهنون عملًا محرمًا، أو يتحصلون على الأموال العامة أو الخاصة بغير حق، وسكتَّ؟!
هذا عن بكاء الصحابي الجليل ابن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.
أما الأمر الثاني الذي استوقفني فهو حديثٌ لرسول الله، رواه أحمد في مسنده بسند حسّنه ابن حجر في الفتح عن عَدِىَّ بنِ عُمَيْرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -عز وجل- لا يُعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يَرَوا المنكر بين ظَهْرَانَيْهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة".
إخوة الإسلام: ما لحم الحيتان في بطون المعتدين في السبت بأعظم عند الله مما نحن واقعون فيه اليوم، ولكن الله -عز وجل- يعجل العذاب لمن يشاء ويؤخره عمن يشاء، وقد جعل الله موعدَ قيام الساعة، والساعة أدهى وأمر.
كانت هذه هي إحدى عناصر موعظة المتقين بقصة أصحاب السبت، وفي اللقاء القادم -إن شاء الله- نختتم الموعظة من هذه القصة، لنرى عقوبة مسخ المعتدين في السبت، هل ستقع فينا؟! من هم الذين سيمسخهم الله قردةً وخنازير من أمة الإسلام وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله ويصومون؟! نعوذ بالله أن نكون منهم.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك...